للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرجال أم المال
الخلاف في أن الإصلاح يتوقف أولاً على الرجال الكاملين أو على
المال. أماني طلاب المال للأصلح. وصف ثلاثة نفر من المصلحين. أماني
بعض الأغنياء البخلاء في الإصلاح. شبهة وجوابها. تضييع ما ترك السلف.
الأزهر. مدرسة خليل أغا. الحسينية. المصلحون ما كانوا أغنياء. لوثر. بوكر
واشنطون. السيد جمال الدين. السيد أحمد خان. وعد مؤكد ومؤجل.
قلنا في مقالة سابقة: إننا إذا ارتقينا في الأسباب التي تحتاجها الأمة لصلاحها
وفلاحها ننتهي إلى السبب الأخير الذي يجب أن يكون أولاً حتى إذا كان يكون به
كل مراد وتوجد به كل رغيبة وتحقق به كل أمنية، وهو الرجال الذين لهم علم
صحيح بمصلحة الأمة الحقيقية , ومعارج ترقيتها الصورية والمعنوية , وعزيمة
ماضية وإرادة قوية. تبعث على القيام بالأعمال الاجتماعية , والثبات في سبيل
المصلحة الملية. لا يصدهم عن ذلك صد , ولا يقفون من سيوف القواطع عند حد.
كتبنا هذا الرأي وعرضناه على من نذاكرهم ونباحثهم مشافهة في مسائل
الإصلاح الذي تحتاجه الأمة فوافقنا فيه بعضهم , وارتأى آخرون أن السبب الأول
الذي يجب أن يكون قبل كل شيء وبوجوده يوجد كل شيء هو المال , وهذا هو
الذي يلهج به الأكثرون من المتكلمين في الإصلاح , والذين توجهوا للعمل بزعمهم
ولكنهم لم يعملوا لأن أيديهم لا تصل إلى المال الكافي للقيام بالعمل الذي يتخيلونه ,
ويشبه أن يكون هذا في الغالب من الأعذار التي يعذر بها الكسالى أنفسهم والتعلات
التي يتعلل بها المغرورون الذين يصور لهم الوهم أنهم من أئمة المصلحين , ولكن
حيل بينهم وبين ما يشتهون , ولو ساعدهم الناس بالأموال , ودانت لهم المصاعب
والأهوال؛ لنهضوا بالأمة نهضة الأسد الرئبال , وعملوا من غرائب الإصلاح ما لا
يخطر على بال. تلك أمانيهم وأحلامهم. ووساوسهم وأوهامهم. وكل من تراه في
بطالة وكسل , أو حيرة وغمة لا يهتدي معهما للعمل؛ فاعلم أنه ليس من الرجال ,
ولا تعلق به أملاً من الآمال , وإن أغدقت عليه سحب الأموال.
نعم إن صاحب العرفان والإرادة عندما تتوجه نفسه للإفادة؛ يرى أن جلائل
الأعمال إنما يستعان عليها بالمال. ولكنه لا يطمع نفسه بالمحال. ولا يطلب بسببه
ما لا ينال. وإنما يرد أقرب الموارد , ويسلك أمثل الطرق. ويدخل البيت من بابه
ويضع الأمر في نصابه. ولقد رأيت مصلحًا حقيقيًّا طلب مبالغ كبيرة من المال
رأى أن الإصلاح يتوقف عليها فأصابها , ولكنه لو وجد بضعة رجال على مذهبه
لأمكنه أن يعمل بهم من الإصلاح أضعاف ما عجزت عنه تلك الألوف من الجنيهات.
وأعرف رجلاً آخر محبًّا للإصلاح أعوزه المال فطلبه من طريقه الطبيعي ,
ولما يصب الحظ الذي يمكنه مما يريد ولنا الرجاء أن سيصيبه. ويكون منه
للإصلاح نصيبه. ومن المصلحين من يعمل بمال قليل يستدره بعمله , وإذا استعان
فإنما يستعين بمال أبيه ومرشده ومربيه على أن أنفع الأعمال لا ضرورة فيه
للمال , وهو ما يعرفه أهله.
ومن الناس من يملك الألوف من الدنانير ويقول: آه لو كان لي في السنة
عشرون ألف جنيه أو خمسون ألف جنيه لفعلت وفعلت , ومنهم من يملك عشرات
الألوف ويزعم أنها لا تقع موقعًا من كفايته ولو بلغت مئات الألوف لأحيا البلاد.
وأسعد العباد. فهؤلاء هم الذين يقولون ما لا يفعلون. ويقطعون أعمارهم بالتمني
وربما كانوا لا يشعرون. ومن لا يعمل بالنزر اليسير؛ لا يعمل بالجم الكثير. على
أن المال لدى هؤلاء كثير ولكنهم يبخلون {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ} (الحشر: ٩) .
ما استغنت أمة بعد فقر إلا وكان غناها بالرجال فإذا كان المال هو الذي ينتج
الرجال الذين ينقذون الأمة من شقائها وبلائها , وينتاشونها من محنها وفتنها ,
ويرفعونها من ضعتها وسقوطها فمن أين يأتي المال ومن الذي يجيء به؟ وإذا قيل:
إن الأمة مهما ضعفت وتأخرت عن غيرها فلا بد أن يبقى عند أفراد منها بقية مما
ترك سلفها من الثروة إن كان لها سلف مجيد أو مما يكسبه بعض أهل الهمة والنشاط
الذين لا يخلو شعب منهم؛ فلتنفق هذه البقية على تربية الرجال الأكفاء الذين
يقدرون على القيام بالإصلاح العام وبذلك يكون المال هو الذين يُوجِدُ الرجالَ. نقول
في الجواب: إن الأمة في مثل هذا الطور تكون ثروتها في سفهائها - جهالها
ومسرفيها - الذين لا يسمحون بالمال لا للشهوات البهيمية واللذات الحسية. ولا
تذكر الأمراء الظالمين والحكام الجائرين الذين يعلمون أن الإصلاح يقضي على
فسادهم. ويطهر الأرض من بغيهم واستبدادهم فلا يقيمونه بل يقاومونه. ولا
يُعضِّدونه ولكن يَعْضِدونه (يقطعونه) , فإذا أردت الاستعانة على الإصلاح بأموال
أولئك الاغنياء السفهاء الأشحاء فكيف يتسنى لك أن تنفخ روح حب الأمة في قلوبهم ,
وتجعل الإيثار مكان الأثرة من نفوسهم؟ اللهم إن كان يوجد في الأمة من له هذا
السلطان على النفوس وهذا التأثير في الوجدان فأولئك من الرجال الذين يجب
أن يكون وجودهم قبل وجود الأموال.
وأما المال الذي هو بقية مما ترك السلف الصالح فهو أداة , ولا بد للأداة من
عامل , والعمال من الرجال الكملة الذين قلنا: إن الإصلاح لا يوجد إلا بهم - هذه
أوقافهم على المدارس والأعمال النافعة تؤكل إسرافًا وبدارًا. والأمة تزداد جهلاً
وخسارًا وتبارًا ودمارًا. ولا تجد لهم من أهل تلك المدارس مصلحين ولا أنصارًا.
هذا الأزهر العظيم الذي تنفق عليه عشرات الألوف من الجنيهات هل تجد
للأمة رجاء فيمن تربوا فيه واقتصروا على تعليمه بأن يكون نهوضها وإصلاح
شأنها على أيديهم؟ أم هل سمعت أهله يومًا يذكرون الأمة وتقدمها وتأخرها في
درس من دروسهم أو مجلس من مجالسهم؟ أظنك إذا ذكرت واحدًا منهم وقلت: إنه
محل الرجال فإنما تذكر من لا ينطبق عليه الوصفان المذكوران آنفًا , وهذه
(مدرسة خليل أغا) يبلغ ريع أوقافها زهاء عشرة آلاف جنيه ولا يجني المسلمون
من ثمرتها أكثر مما يجنون من سائر المدارس الأهلية التي أنشأها في هذا العصر
بعض الشبان لتكون معاشًا لهم يأكلون من ثمرات ريعها ولا يهمهم أتربي وتعلم من
يدخلها أم لا؟ . ولا تنس المدرسة الحسينية التي خصصت أوقافها الواسعة بخمسين
متعلمًا , وأجري عليهم وعلى أساتذتهم من الأرزاق ما يمكنهم من تحصيل جميع
العلوم والفنون إلى أن يكونوا من أعظم المعلمين والمرشدين. فلو كانت هذه
المدارس تدار بأيدي رجال ممن وصفنا لك؛ لكانت منبع الحياة الطيبة التي يرجوها
الباحثون في حال الأمة الاجتماعية وما يجب لها من الإصلاح.
بعيشك راجع تاريخ الإصلاح في الأمم والشعوب؛ هل تجد مبدأه الرجال
الفقراء أم أصحاب الغنى والثراء؟ هل كان (لوثر) غنيًّا؟ وهل نشر مذهبه
بالمال؟ وهل استرد (بوكر واشنطون) ساعته التي رهنها لأجل استئجاره من يعلم
تلامذة مدرسته شيًّ الآجُرّ حيث احتاج إلى ذلك القسم الصناعي منها؟ وهل أدى
المائة ريال التي اقترضها واشترى بها الأرض التي بنى مدرسته فيها فكانت ينبوع
حياة السود؟
وانظر هل كان السيد جمال الدين الأفغاني الذي نفخ روحًا إصلاحيًّا في مصر
فسرى في جسم الأمة سريانًا لا يزال ينمو ويزداد , وكل ما نحن فيه من البحث
والسعي فهو أثر من آثاره , وقبس من ناره. وانظر هل كان السيد أحمد خان
مؤسس كلية عليكده (في الهند) من الموسرين أم كان من المعوزين؟ فقد سبق
الكلام على غير (لوثر) من هؤلاء المصلحين ولنتحفن القراء بسيرة غيرهم ولو
بعد حين إذا مد الله في الأجل , وهو الموفق لخير العمل.