للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة،
ونشترط على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن
يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما
قدّمنا متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك
لمثل هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن
لم نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله.
(سؤال عن فتوى)
(س٢١) من السيد عبد الله بن عبد الرحمن العطاس بسنغافوره
أرسل السائل إلينا السؤال الآتي مع جواب السيد عثمان بن عقيل عليه،
وكتب عليه ما يأتي:
هذا جواب عن ذلك السؤال، هل المجيب مصيب في تأصيله ما ذكر في
السؤال بما ذكر في الجواب أم مخطئ، وعن الأحاديث المذكورة فيه، هل هي
صحيحة مروية عن سيد السادة أم لا. وعما هو الحق في هذه المسألة، أفيدونا به
على صفحات المنار إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل، فالله يديمكم ويرعاكم ويحفظكم.
وهذا نص السؤال والجواب المسئول عنه.
(هذا السؤال صدر من جماعة من المسلمين)
(من بندر سنغافوره)
ما قولكم فيما يعمله الناس في ليلة النصف من شعبان من قراءة سورة يس
المعظمة ثلاث مرات بنية مخصوصة، والدعاء المعروف بعد كل مرة هل هو
سنة وله أصل من الكتاب أو السنة أم لا؛ فإن بعض الناس يقول: إنه بدعة ليس
له أصل من الكتاب ولا من السنة، بينوا لنا حكم هذا العمل، وما هي البدعة
وأقسامها بيانًا شافيًا أثابكم الله، آمين.
(الجواب)
نسأل الله تعالى التوفيق للصواب، اعلموا وفقني الله وإياكم لمرضاته، أن هذا
العمل الذي ذكرتم له أصل من السنة، وقد عمل به الخاص والعام من العلماء
والصلحاء وعامة المسلمين في الأمصار والأعصار من غير إنكار، ممن يعتبر قوله
أما أصله فقد قال العلامة الشيخ علي بن محمد الخازن في تفسيره لباب التأويل في
معاني التنزيل في قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: ٣) إلى قوله تعالى:
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: ٤) وروى البغوي بسنده أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. وعن ابن عباس رضي الله
عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة
القدر. انتهى. وقال العلامة السيد علي بن عبد البر الونائي في رسالته المتعلقة
بفضائل ليلة النصف من شعبان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: يكتب الآجال من شعبان إلى شعبان. اهـ. وقال
العلامة الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين، وعن ابن عباس
رضى الله عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها
في ليلة القدر. اهـ.
وأما قول أكثر المفسرين: إن قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان:
٣) هي ليلة القدر، وقال الشيخ الجمل في حاشيته ما معناه: إن المراد منه ظهور
تلك الأمور التي قدرها المولى عز وجل في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: ٤) أي ظهورها للملائكة في ليلة القدر، وليس المراد أن تلك الأمور لا
تحدث إلا في تلك الليلة، فقد جاءت الأخبار الصحيحة بأن الله تعالى قدر تلك
الأمور في ليلة النصف من شعبان وسلمها للملائكة في ليلة القدر، انتهى.
ثم قال: وهذا يصلح أن يكون جمعًا بين القولين، وقال أيضًا: وإذا تقاربت
الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى انتهى. وقال السيد علي
الونائي في رسالته المذكورة: وعن عثمان ابن العاص أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى منادٍ هل من مستغفر فأغفر له هل
من سائل فأعطيه، فلا يسأل أحد إلا أعطاه إلا زانية أو مشركة وفي رواية: ما لم يكن عشارًا أو ساحراً أو صاحب كوبة أو عطربة وفي رواية عن
عائشة رضي الله عنها: إن الله يطّلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر
للمستغفرين، ويؤخر أهل الحقد بحقدهم، ثم أورد أحاديث كثيرة في فضل ليلة نصف
شعبان إلى أن قال: ومما ينبغي ليلة النصف من شعبان أن يقرأ الإنسان بين
صلاتي المغرب والعشاء سورة يس بتمامها ثلاث مرات: الأولى بنية طول العمر
له ولمن يحبه، الثانية بنية التوسعة في الرزق مع البركة في العام، الثالثة بنية أن
يكتبه الله من السعداء، ويأتي بالدعاء المشهور وهو: اللهم يا ذا المن ... إلى آخره.
انتهى.
وأما تعريف البدعة وأقسامها فهي تعتريها الأحكام الخمسة منها واجبه، وهي
كل ما يتوقف فعل شيء من الواجبات الشرعية به فهو واجب أيضًا؛ للقاعدة
المقررة، ومنها مندوبه كبناء الرباطات والمدارس ونحوها، ومنها مباحة كالتوسع
في لذيذ المأكل، ومنها مكروهة كزخرفة المساجد، ومنها محرمة ومكفرة كبدعة
الرافضة والوهابية، وعليها قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ما أحدث وخالف
كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة، انتهى. فيما ذكر من الأحاديث
ونصوص هؤلاء الأئمة يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن
القائل بأنها بدعة؛ لعله متمسك بالعلم الجديد، أو أنه من قسم الخامس من المبتدعة؛
لأنهم يضعفون الحديث الصحيح إذا خالف هواهم، ويصححون الحديث الموضوع إذا
وافق هواهم، فمن أراد الاطلاع على هذا فعليه برسالتنا الآتية -إن شاء الله تعالى-
المسماة بإعانة المرشدين على اجتناب البدع في الدين، وإلى هنا انتهى الجواب.
(المنار) اعلم يا أخي قبل الجواب عن هذه الفتوى أن مصيبة الدين بالتقليد
الذي ذمه علماء السلف كافة وأهل البصيرة من الخلف، ليست هي عبارة عما
أجازه بعض المؤلفين من رجوع الجاهل إلى الإمام المجتهد، فيما لا يعلم حكمه من
أمر دينه وأخذه بفتواه، وإن لم يذكر له دليلها من الكتاب والسنة، وإنما مصيبة
التقليد السوءى؛ هي أنها صرفت المسلمين عن الكتاب والسنة، وعن كتب الأئمة
المجتهدين في الفقه وغيره، وعن الثقات الأثبات السابقين إلى تحقيق كل علم،
صرفتهم عن هؤلاء إلى أناس من الجاهلين المقلدين لأمثالهم، المتهجمين على
الفتوى والتأليف والاجتهاد بغير علم، وإنما يأخذ الناس بأقوالهم لثقتهم بهم وثقة
العامي قريبة المنال، فإننا نرى في كل بلاد أناسًا من أدعياء العلم تثق بهم العامة؛
لأنها تراهم أمثل من تعرفهم في ظاهر الصلاح أو قراءة الكتب، وهي لا تميز بين
الكتب التي يعتمد عليها والتي لا يعتمد عليها، ونعرف أن كثيرًا من هؤلاء الموثوق
بهم دجالون من أهل التلبيس، ومنهم من قرأوا قليلاً من مبادئ العلم، وولعوا بكتب
من لا ثقة بدينهم ولا بعلمهم، ودرسوا وأفتوا بها، وهم لا يميزون بين ما فيها من
حق وباطل، وصحيح وسقيم، وإنما تعجبهم هذه الكتب المحشوة بالأحاديث
الموضوعة والخرافات والبدع؛ لسهولتها وعدم توقف فهمها على معرفة
الاصطلاحات العلمية، كاصطلاحات علماء الحديث والأصول في نقد الحديث وما
يحتج به منه، وما لا يحتج به.
نعرف في بلادنا كثيرًا من الشيوخ الذين وثقت بهم العامة، حتى في المدن
التي فيها كثير من العلماء الذين يعتد بعلمهم ونقلهم، وأنهم ليكونون أكثر في البلاد
التي تقل فيها العلماء وفي القرى، ومما يؤكد هذه الثقة حسن السمت ومظهر
الصلاح والانتساب إلى بيوت العلم والشرف، فهؤلاء هم مثار الجهل والبدع في
هذه الأمة، ولا سيما في هذه القرون الأخيرة، وقد ذكر بعض أخبارهم ابن الجوزي
وغيره من العلماء.
يدعي هؤلاء أنهم علماء مقلدون للأئمة، ولا يعرفون من كلام الأئمة شيئًا،
ولا يقفون عند حدود ما أفتى به المشهورين من الفقهاء المنتسبين إلى أولئك الأئمة
رضي الله عنهم، وهم مع هذا يحاربون متبعي الأئمة بحق إذا دعوهم إلى الحق
بدلائل الكتاب والسنة، بل يحاربون الكتاب والسنة باسم أولئك الأئمة، قائلين:
إن فهمهم لهما أصح من فهم فلان الذي يدعوكم إليهما الآن، سلمنا أن فهمهم أصح،
فليأتنا هؤلاء الجاهلون بنصوصهم في تفسيرها، وليحاربونا بها، إنهم إنما يجيئون
بكلام أمثالهم من العوام الذي تجرءوا على التأليف ويلصقونها بالأئمة، والأئمة برآء
منها، وماذا تفعل بثقة الجاهلين بهم، وقد انسد في وجههم باب التمييز بين الحق
والباطل.
من هؤلاء الشيوخ في بلاد جاوه الشيخ عثمان بن عبد الله بن عقيل، شيخ له
سمت ونسب واطلاع على كثير من الكتب التي لا يعتد بها ولا تصلح للفتوى منها.
يقول هذا الشيخ الوقور: إنه شافعي المذهب، وإن عمدته من كتب فقهاء
الشافعية المتأخرين كتب ابن حجر الهيتمي، (أفلح الأعرابي إن صدق) ابن حجر
يقول في فتاواه الحديثية: إن الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب
ليس مؤلفه من أهل الحديث لا يحل. ومن فعله عذر عليه التعذير الشديد، وذكر
أن أكثر الخطباء كذلك، وأنه يجب على الحكام أن يمنعوهم من ذلك (راجع ص٣٢
من هذه الفتاوى المطبوعة بمصر) فلماذا لم يأخذ الشيخ عثمان بهذه الفتوى؛ فهو
يسئل عن مسألة هل لها أصل في الكتاب والسنة، فيورد أحاديث من رسالة الونائي
ويقرها وهي لا تصح، وليست نصًّا في المسألة، ثم ينقل رأي هذا الرجل ويقره،
ويجعل ذلك فتوى بأن للمسألة أصلاً في الكتاب والسنة، وهذا الونائي ليس إمامًا
مجتهدًا ولا محدثًا حافظًا يعتد بنقله، وما نقله ليس نصًّا فيما ارتآه، فكيف جاز
للشيخ عثمان بن عقيل أن يفتي برأيه، لعل هذا الونائي مثل ابن عقيل هذا،
وستكون فتاوى السيد عثمان ورسائله مما يفتي به مثله من بعده، وتعارض بها
نصوص الكتاب والسنة بناء على ادعائه الانتساب إلى الإمام الشافعي، وإن لم
يعرف قوله ولم يفت به، هذه مقدمة لم نر بدًّا من بيانها.
***
(أقوال المحدثين والثقات في عبادات ليلة النصف من شعبان)
روي في الموضوعات والواهيات والضعاف التي لا يحتج بها أحاديث في
كثير من العبادات منها؛ صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة نصف شعبان، ولكن
هذا الشعار الإسلامي المبتدع المعروف الآن لم يرد فيه شيء من ذلك، ولكنه
عمل به في الجملة منذ القرون الأولى، ولهذا اغتر بصلاة رجب وشعبان بعض
الفقهاء والصوفية كأبي طالب المكي وأبي حامد الغزالي على جلالة قدرهما،
وسبب ذلك قلة بضاعتهما في نقد الحديث، وقد بين خطأهما المحدثون والفقهاء
كالإمام النووي الذي هو عمدة الشافعية، وأطال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث
الإحياء في بيان ذلك، وقد نقل كلامه شارحه السيد مرتضى الزبيدي ثم قال:
وقال التقي السبكي في تقييد التراجيح: صلاة ليلة النصف من شعبان وصلاة الرغائب
بدعة مذمومة. اهـ.
وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر
بذكرهما في القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله صلى الله
عليه وسلم: الصلاة خير موضوع، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه
من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. اهـ.
ثم قال الزبيدي: وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة
ست ركعات بعد صلاة المغرب كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في الركعة منها
بالفاتحة مرة والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة يس
مرة، ثم يدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في
العمر، ثم في الثانية البركة في الرزق، ثم في الثالثة حسن الخاتمة. وذكروا أن
من صلى بهذه الكيفية أعطي ما طلب، وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين
من السادة الصوفية، ولم أر لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة إلا أنه من
عمل المشايخ، وقد قال أصحابنا: إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي
المذكورة في المساجد وغيرها، وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من
شعبان بجماعة: إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن
أبي مليكة وفقهاء المدينة وأصحاب مالك، وقالوا: ذلك كله بدعة، ولم يثبت في
قيامها جماعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وممن قال
ذلك من أعيان التابعين خالد بن معدان وعثمان بن عامر ووافقهم إسحق بن راهويه،
والثاني كراهة الاجتماع في المساجد للصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي فقيه الشام
ومفتيهم. اهـ.
(المنار) الخلاف الذي ذكره في قيام ليلة النصف من شعبان بما ذكر قد
صرح بكراهة أصحابهم له أي الحنفية، والكراهة إذا أطلقت عندهم تنصرف إلى
التحريم، ونقل مثل ذلك عن الشافعية والمالكية، فالنجم الغيطي من فقهاء الشافعية،
وقد رأيت قبله قول السبكي والنووي الشافعيين في صلاتها، وأما الحنابلة فهم أشد
من غيرهم نبذًا لما لم يثبت في السنة، ومن استحبها من علماء الشام كانوا
مجتهدين، وليس لهم أتباع الآن، ومذاهبهم ليست مدونة، ونص الفقهاء على أنه لا
يفتى بها.
وقد بيّن المحدثون في كتب الموضوعات كل ما ورد في صلاة شعبان وقيامها
وهو مما لا يعمل به ولو في الفضائل، قال في الفوائد المجموعة بعد إيراد شيء
منها واغترار بعض الفقهاء كالغزالي وبعض المفسرين بها ما نصه: (وقد رويت
صلاة هذه الليلة - أعني ليلة النصف من شعبان - على أنحاء مختلفة كلها باطلة
موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة - رضي الله عنها -
لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا،
وأنه يغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة
الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة رضي الله عنها هذا فيه ضعف
وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه
الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حيثما ذكرناه. اهـ.
أما (حديث) (تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان) فقد رواه ابن جرير
والبيهقي عن عثمان بن محمد بن المغيرة وهو ابن الأخنس بن شريق الثقفي قال:
في الميزان حدث عن محمود القزاز مجهول، وقال ابن المديني روى عن سعيد بن
المسيب مناكير.
وأما قول ابن عباس المذكور، فإن صح عنه لا يفيد في الباب شيئًا، وقد نقل
عن الجمل أن هذا المعنى ثبت في الأحاديث الصحيحة، وليس قوله بشيء، فهذه
كتب الصحاح في أيدينا ليس فيها ذلك، والجمل ليس بمحدث بل يغتر بما يرى في
كتب التفسير التي لا تميز بين صحيح وسقيم، وقد قال المحدثون: إن بعض
المفسرين والفقهاء اغتروا بما ورد في هذه الليلة، على أنه إن صح لا يفيد في تأييد
فتواه، وقد صرح ابن العربي بأنه لا يصح مما ورد في هذه الليلة شيء، وهو ما
قاله الزبيدي في شرح الإحياء.
وأما حديث: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان) فقد ذكروه بألفاظ مختلفة،
وهو حديث عليّ الذي قال في الفوائد المجموعة بضعفه، وقد رواه ابن ماجه من
أصحاب السنن عن ابن أبي سبرة وهو ضعيف كما صرح محشي هذه السنن نقلاً
عن الزوائد، بل نقل عن الإمام أحمد وابن معين أنه كان يضع الحديث، وروى
ابن ماجه حديث عائشة أيضًا، وقد علمت أنهم صرحوا بضعفه وانقطاع سنده عن
الترمذي. وهو أمثل ما ورد في هذه المسألة، وروى ابن ماجه أيضًا حديث: (إن
الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)
وهو عن الوليد بن مسلم المدلس عن عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف. ورواه غيره
أيضًا.
ويعارض هذه الروايات في خصوصية ليلة النصف من شعبان أحاديث
الصحيحين في نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا وقوله: هل من مستغفر هل من
تائب، وحديث مسلم في عرض الأعمال كل اثنين وخميس، والمغفرة لغير
المشركين والمتشاحنين.
وجملة القول أن الشعائر التي تقام في ليلة النصف من شعبان ليس لها أصل
صحيح في الكتاب ولا في السنة، وأن الروايات التي ذكرها ابن عقيل غير
صحيحة، وهو لجهلة بالحديث لم يرجع فيها إلى كتب المحدثين، بل نقلها عمن لا
يعتد بهم، ثم أنها لا تدل على مشروعية ما سئل عنه وهو قراءة يس والدعاء
بالصفة التي ذكرها، وإن هذه العبادات في تلك الليلة وليلة الرغائب قد حدثت في
القرون الأولى فقبلها كثير من العباد والمتصوفة، وأنكرها المحدثون والفقهاء؛
لعدم ثبوت أصلها ولأن الله تعالى قد أكمل الدين، فمن زاد فيه كمن نقص منه؛
كلاهما مبتدع.
وقد أنكر عثمان بن عقيل على الذين يصححون أو يضعفون الأحاديث بالهوى
وهو منهم، فإنه يتكلم في الأحاديث بغير علم، ولو كان من أهل العلم بها لما اعتمد
في نقلها على الونائي والجمل وترك البخاري ومسلمًا وأصحاب السنن الأربعة
وأضرابهم، كما ينكر على الذين يفتون بالدلائل من الكتاب والسنة بعلم،
ويفتي بها بغير علم، ولو كان في بلاد لها حكومة إسلامية لمنع من الفتوى وعوقب
عليها، ولكن جاهه وقوته في الاستناد على حكومة غير إسلامية في بلاد ليس فيها
علماء ومحققون.
وأما ما ذكره في مسألة البدعة، فلا يصح على إطلاقه، وقد ثبت في الحديث
الصحيح أن كل بدعة ضلالة، ولذلك صرح بعضهم بأن البدعة الشرعية لا تكون
إلا ضلالة، وأما البدعة اللغوية فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة، فكل ما لا دليل
عليه في الكتاب والسنة من أمر الدين كالعبادات والشعائر الدينية فهو بدعة سيئة
وضلالة محققة، وعليها تحمل الكلية في الحديث، وما في معناه من الأحاديث
الكثيرة، وأما ما سوى الأمور الدينية المحضة؛ وإن كانت نافعة في الدين؛ كالعلوم
والفنون المسهلة لفهمه والتفقه فيه - فهي التي تعتريها الأحكام الخمسة فيحكم فيها
بحسب ما فيها من النفع أو الضرر أو عدمها.
مثال ذلك: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم الجهاد في هذا
الزمان إلا بالعلوم والفنون العسكرية التي لم تكن في العصر الأول، ولا دليل
عليها بخصوصها فهي واجبة حتمًا، وإن كانت من العلم الجديد الذي يجهله فيعاديه
الشيخ عثمان بن عقيل، فقد قال في آخر فتواه: (فيما ذكر من الأحاديث ونصوص
هؤلاء الأئمة، يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن القائل
بأنها بدعة لعله متمسك بالعلم الجديد أو أنه من قسيم الخامس - كذا - من
المبتدعة) ... إلخ، وأنت ترى أن الأحاديث التي ذكرها ليس فيها ذكر لقراءة يس،
فهل يكتب مثل هذا من يعقل ما يكتب، وإذا كان يفتي بالشيء ويعزوه إلى أحاديث الرسول - صلى تعالى عليه وسلم - ولا ذكر له ولا إشارة فيما أورده منها على كونه مما لا يحتج بمثله، فهل يلتفت إلى قوله: لعل القائل بأنها بدعة متمسك بالعلم
الجديد ... إلخ، ثم ما هو العلم الجديد الذي يعاديه ويعرض بأهله، وماذا عرف هو من العلم القديم، ومن قال: إن الونائي من الأئمة الذين يؤخذ بأقوالهم، وتجعل
آراؤهم أحاديث نبوية! !
(تتمة لا بد منها) إن الذين يقرءون سورة يس في ليلة النصف من شعبان
يذكرون قبل قراءتها كل مرة حديث (يس لما قرئت له) وقد قال الحافظ السخاوي:
إن هذا الحديث لا أصل له، كما في كتاب (تمييز الطيب من الخبيث) وكتاب
(اللؤلؤ المرصوع) فهل يدلنا الشيخ عثمان على أحد من أصحاب العلم القديم قال إن
هذا الحديث صحيح، وإلا فلماذا لا ينكر على الجماهير كذبهم على النبي صلى الله
عليه وسلم، وقد ورد فيه من الوعيد ما ورد؟
***
(استقبال القبلة عينها أو جهتها، والفتوى بالقول المرجوح)
(س ٢٢ و ٢٣) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
أفيدونا يا مولانا وسيدنا بيانًا شافيًا:
في قول الإمام الغزالي في إحيائه وقول الأذرعي باعتماد الاكتفاء في استقبال
القبلة في الصلاة بجهتها في البعد؛ مستدلاًّ بالكتاب والسنة وفعل الصحابة والقياس،
هل يجوز للشخص أن يعمل ويبني المسجد عملاً به أو لا؟ فإن قلتم بالجواز، فما
قولكم في قولهم: لا يجوز الإفتاء إلا بالقول الراجح؟ وإن قلتم لا يجوز لذلك، ويفهم
منه أنه لا يجوز الإفتاء بالقول المرجوح، كما لا يخفى على المشمرين في تحصيل
العلم وعدم جواز الإفتاء به، هل هو على الإطلاق أو مقيد بما إذا لم يختره جماعة
ممن يعتمد في كلامه ونقله، وقد أخبرني من به ثقة بأن هذا القول قد اختاره جماعة
من الفقهاء، وما ذكره الفقهاء من أنه يجوز العمل بالقول الضعيف ما لم يشتد ضعفه
وأنه لا يجوز الاستدلال بالحديث الضعيف، إذا لم يكن فيه مقوى من طرق متعددة
تؤيد ذلك التقييد، وفي فوائد المكية يجوز القضاء والإفتاء بالقول المرجوح لحاجة
أو مصلحة عامة، وفيها أيضًا أن الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر
وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد
التشهي، سواء انتقل دوامًا أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه
ما لم يلزم منه التلفيق ا. هـ.
فعند الإمام مالك وأحمد وأتباعهما رضي الله عنهم أنهم لا يبطلون الصلاة عند
استقبال الجهة، وكذا هو قول عندنا معاشر الشافعية فقد قال: الغزالي والأذرعي
-رحمهما الله تعالى- بجواز ذلك، كما يؤخذ من شرح البهجة بزيادة، وصرح به
في التنبيه. اهـ، وفي الأصول قاعدة معتبرة؛ وهي أن المعلول يدور مع علته،
وعلته هنا وجود المشقة من حيث الأبعد عن بيت الله العظيم، مع أن القاعدة: المشقة
تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، فإن كان المصلي يشترط في استقبال عين
القبلة، وكذلك المسجد يشترط مبناه أن يسامتها بجميع مركوزه، وهما في مسافة البعد
كأرض الجاوي والهندي وغيرهما من سائر المملكة، فما تقول؟ فإن قلتم: يشترط
على كل واحد منهما أن يحتاط مع بيت الإبرة المعروف ليعلم عينها، فماذا يستحق
الذي أفتى من الجم الغفير باعتماد الاكتفاء بالجهة؛ لأنه فهم منها أنه صادق بمحاذاة
عين القبلة أولاً، كما يؤخذ من الغاية التي ذكرها العلامة البيجرمي على فتح
الوهاب ا. هـ.
فمنوا بالإعانة، فلكم الفضل الظاهر والشكر الباهر، ودام فضلكم، وعلا
قدركم، ولا زلتم مأجورين بجاه جدكم الأمين؛ سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جاوي
(ج) قد اضطرب كلام أصحابنا الشافعية في مسألة القبلة، وما كان ينبغي
لهم ذلك، فالحق واضح فيها، وكلام الشافعي نفسه صريح جدًّا.
من كان في الحرم يرى الكعبة يستقبلها قطعًا، ولا تصح صلاته إذا خرج عن
محاذاتها، ومن كان بعيدًا عنها لا يراها، فإنه يستقبل الجهة التي هي فيها ويتعرفها
بالاجتهاد، فمن علم أن الكعبة في هذه الجهة لم يكن له أن يتحول عنها، فإن كان
عنده من وسائل الاجتهاد ما يعلم به أن البيت يحاذي خطًّا معينًا لم يكن له أن يتعداه،
وإلا جاز له التيامن والتياسر في الجهة كما يؤخذ من حديث الصحيحين: (شرّقوا أو
غرّبوا) وما يؤيده. والعمدة أن يعتقد أنه متوجه تلقاء البيت بما عنده من أسباب
الاجتهاد، لا يكلف غير هذا؛ لأن غير هذا لا يستطاع ولا يدخل في الوسع.
فسّر الشافعي في رسالته شطر المسجد الحرام بتلقائه، ثم قال ما نصه: فالعلم
يحيط أن من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نأت داره عنه على صواب بالاجتهاد،
فللتوجه إلى البيت بالدلائل عليه؛ لأن الذي كلف العباد التوجه إليه وهو لا يدري
أصاب بتوجهه قصد المسجد الحرام أو أخطأ، وقد يرى دلائل يعرفها فيتوجه بقدر
ما يعرف، ويعرف غيره دلائل فيتوجه بقدر ما يعرف وإن اختلف توجههما. اهـ.
وتلقاء الشيء: تجاهه ونحوه كما ذكر في مادة (وجه) من لسان العرب.
والتجاه: الجهة التي تستقبلها بوجهك، ومنه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} (القصص: ٢٢) أي سار في الجهة الموصلة إليها
ونحا نحوها.
وقال كما رواه عنه المزني في مختصره ما نصه: (ولا يجوز لأحد صلاة
فريضة ولا نافلة ولا سجود قرآن ولا جنازة إلا متوجهًا إلى البيت الحرام، ما كان
يقدر على رؤيته إلا في حالتين، وذكر صلاة النافلة على الراحلة، وصلاة شدة
الخوف رجالاً أو ركبانًا، ثم قال: فلا يصلي في غير الحالتين إلا إلى البيت إن
كان معاينًا فبالصواب، وإن كان مغيبًا فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة
القبلة) . اهـ. وكلامه في كتاب الأم على طوله، لا يخرج عن هذا المعنى
الذي اختصره المزني عنه، وقد صرح فيه بلفظ الجهة تصريحاً.
وذكر الشيرازي في التنبيه قولين في البعيد، لم يرجح واحدًا منهما على
الآخر، فقال: (والفرض في القبلة إصابة العين، فمن قرب منها لزمه ذلك بيقين،
ومن بعد منها لزمه الظن في أحد القولين، وفي القول الآخر لمن بعد
الجهة) . اهـ.
أقول: لم أر في كلام الشافعي قولين في المسألة، وعندي أن ما صرّحوا فيه
عنه بلفظ الجهة، وما لم يصرحوا فيه به واحد، والمراد أن يعرف سمت الكعبة
بالاجتهاد، فمتى عرفها واستقبلها كان معتقدًا أنه متوجه تلقاء الكعبة في الجملة،
وأنه مول وجهه شطرها؛ لأن الذي يعرف جمهور المكلفين بالاجتهاد في حالة البعد
هو الجهة، وكلما بعد الإنسان عن الشيء الذي يستقبله، تتفرج المسافة التي بينه
وبينه وتتسع.
ولو كان في المسألة قولان مختلفان لكان الفرق بينهما في العمل أن من علم أن
الكعبة في جهة الشمال، كان له على القول الثاني أن يتوجه في صلاته إلى القطب
الشمالي، وأن ينحرف عنه يمينًا أو يساراً، وإن علم بالدلائل أنه لو خرج خط
مستقيم منه إلى الكعبة لأصابها في حال استقباله، ولو خرج من حيث توجه منحرفًا
عنه لم يصبها. وهذا هو الذي يترتب على عبارة التنبيه دون عبارة مختصر
المزني. ولذلك اضطربت أقوال المتأخرين من الشافعية والحكم واضح كما قلنا،
فإن جماهير المكلفين لا يعرفون في حالة البعد بالاجتهاد إلا الجهة التي فيها الكعبة،
وذلك كاف عند الشافعي، ولا يفهم من كلامه غيره، وهو لا ينافي أن الواجب على
من كان عنده علم خاص بتحديد نقطة معينة من الجهة أن يعمل بعلمه، ولا يجوز له
التيامن والتياسر، إذا اعتقد أنه يخرج به عن محاذاة الكعبة، وهذا التفصيل يؤخذ
من تصريح الشافعي بأن على كل مجتهد في القبلة أن يتوجه بقدر ما يعرف، ولا
حرج في هذا ولا مشقة على أحد.
فعلم من هذا أن المعتمد أن للشافعي قولاً واحدًا في المسألة، وهو ظاهر
الكتاب والسنة ومقتضى القياس، والذي عليه عمل الناس، وتلك الفلسفة التي
اضطرب فيها المتأخرون إنما أخذها بعضهم من عبارة بعض، ولا يحتاج من
يقول بالجهة في موافقة الشافعي - رحمه الله تعالى - إلى الإفتاء بالقول المرجوح.
فالعمل الذي يوافق مذهب الشافعي هو أن يجتهد المصلي في تعرف جهة
الكعبة بالشمس والكواكب والرياح والجبال ويعمل باجتهاده، ومن كان على علم
بتقويم البلدان (الجغرافية) ، وكان معه بيت الإبرة، فإن علمه بسمت القبلة يكون
أقوى مما يصل إليه المجتهد بالعلامات التي ذكروها، فيجب عليه بقدر ما يعرف،
ويعتمد في بناء المسجد علم أوسع أهل البلد علمًا بذلك.
وأما الفتوى بالقول المرجوح، فقد قيل ما قيل مما عرفه السائل، والحق أن
العالم المجتهد لا يكون له في المسألة الواحدة قولان مختلفان: أحدهما راجح والآخر
مرجوح، وهو يجيز العمل بهما، ولكنه قد يقول القول فيظهر له خطؤه، فيرجع
عنه بقول آخر، فلا يبقى الأول قولاً له، وقد يتردد في المسألة فلا يكون له فيها
قول، وإن نقل عنه قولان مختلفان كان أحدهما مرجوعًا عنه أو مكذوبًا، فإن وجد
المرجح وإلا تساقطا. فمن سئل عن قول عالم مجتهد في مسألة، وجب عليه أن
يرجع إلى كتبه، وينظر قوله فيها ويجيب به، فإن لم يجد كتبه بحث عن ذلك في
كتب أقدم أصحابه، وتحرى وميز بين ما يعزونه إليه تصريحًا، وما يطلقون القول
فيه أو يذكرونه ترجيحًا أو استنباطًا، فإذا لم يظهر له نقل عنه يطمئن قلبه له
فعليه أن يمسك عن الفتوى معزوة إليه، وكتب الفقهاء المنتسبين إلى المذاهب
مملوءة بالأقوال التي لم ينقل عن أئمة تلك المذاهب فيها شيء.
قال ابن القيم: قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم
واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم (أي الفقهاء المنتسبين إلى الأئمة) منصوصًا
عن الأئمة، بل كثير منها يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير
منه تخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه فلا يحل أن يقول: هذا
قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنه قوله ومذهبه. اهـ.
وبناء على هذا تضاربت أقوال أهل المذهب الواحد واختلفت، واحتيج إلى
الترجيح بينها، فالراجح والمرجوح إنما هما من كلام أولئك المنتسبين الذين لم
يعرفوا قول الإمام قطعًا، ومن كان من أهل الترجيح أفتى بالراجح عنده، وليس
لغيره أن يفتي. وقد بينا في الفتوى السابقة أن الناس صاروا يفتون بأقوال الجاهلين
الذين يتجرءون على التأليف؛ لما وقع فيه المسلمون من الفوضي في العلم والدين
بترك الأدلة، ويجعلون أقوال هؤلاء من المذهب، ويقدمونها على ما يعرف من
نصوص الكتاب والسنة، بإلصاقها بالأئمة، لا دعاء أولئك الجاهلين أتباعهم وما هم
لهم بمتبعين.
وما أفتى به الغزالي وأمثاله مخالفًا للمعروف من مذهب الشافعي، فإنما أفتوا
بما ظهر لهم بالدليل أنه الحق لا بمذهب الشافعي، وقد كان بعضهم يلصق مثل هذه
الفتاوى بالشافعي، لا على معنى أنها قوله وفتواه، بل عملاً ببعض أصوله كقولهم:
قد صح الحديث بهذا، وهو يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقولهم: إن في
هذا سعة، وهو يقول: إذا ضاق الأمر اتسع، والحق أن الاتباع الحقيقي للشافعي
وغيره من الأئمة رضي الله عنهم إنما هو تقديم الكتاب والسنة على أقوالهم وأقوال
جميع الناس، وقد عمل بهذا كثير من المنتسبين إلى الشافعي وغيره، كما بيناه
مرارًا في مواضع من المنار، وإنما صار الناس يلتزمون تقليد الفقيه الواحد في كل
ما يعزى إليه بعد القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق
صلى الله عليه وسلم، وما نسب كبراء الفقهاء المتقدمين إلى الأئمة إلا لجريهم على
أصولهم وطريقتهم في استنباط الأحكام دون اتباع أقوالهم في الفروع، ذكر هذا
المعنى ابن الصلاح وأقره عليه النووي بقوله: هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم
المزني في أول مختصره وغيره بقوله (أي المزني) : (مع إعلامية نهيه عن
تقليده وتقليد غيره) أي نهي الشافعي عن تقليده فيما ينقله من علمه في ذلك
المختصر.
وجملة القول: أن من سئل عن حكم الله ورسوله في مسألة بينها من كتاب الله
وسنة رسوله إن علم، ومن سئل عن رأيه واعتقاده فيها بينه بدليله إن استبان له،
ومن سئل عن قول إمام بينه من كتبه أو نقل صريح عنه يعتد به إن علمه، فإن
أفتى بالدليل على أصله صرح بذلك، وإلا أمسك عن الفتوى، وقال: لا أدري والله
أعلم.
***
(قول شيئًا لله والاستمداد من الأولياء)
(س٢٤ - ٢٦) من مكة المكرمة
من المعترف بالتقصير عبد القادر ملا قندر البخاري إلى رفيع مقام أستاذه
الأجل العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامية حفظه رب البرية.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فقد كلفني بعض الإخوان
المخلصين في صاحب المنار؛ أن أرفع وأقدم لرفيع مقامكم السؤال الآتي؛ راجيًا
إجابة سؤاله على صفحات المنار وفي أقرب عدد يصدر منه، أثابكم الله جزيل
الثواب ورفع أعلامكم المنيرة.
هذا هو السؤال:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فما قولكم أيها العلماء الكرام في هذه الأبيات.
شيئًا لله يا عبد القادر ... محيي الدين في القلب حاضر
جيلاني بالله بادر ... المدد يا عبد القادر
أيكفر قارئها أم لا؟ وهل يلزمه تجديد النكاح أم لا؟ وهل يجوز الاستمداد من
الأولياء الكرام بعد الممات، كما يجوز الاستمداد في الحياة؟ وهل يسمع الأولياء
نداءً أم لا؟ بينوا لنا الأحكام بالتفصيل، ولكم عند الله أجر جزيل، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
(قول: شيئًا لله)
(ج) صرح بعض الفقهاء بتكفير من يقول مثل هذا القول؛ لأنه دعاء لغير
الله تعالى و (الدعاء هو العبادة) ، كما رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في
الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه مرفوعًا، ومن
ذلك قول بعض فقهاء الحنفية في سرد المكفرات من منظومة له (ومن قال شيء
لله بعض يكفر) .
ومن الفقهاء من لا يطلق القول في تكفير صاحب هذا القول، بل يفضل فيه
باحثًا عن قصد القائل واعتقاده، فإذا كان يعتقد أن عبد القادر الذي يدعوه (ومثله
كل من يدعى من دون الله ولو نبيًّا أو ملكًا) قادر على إجابة دعائه؛ لأن له سلطة
وراء الأسباب العادية والسنن الإلهية التي تجري عليها أعمال الناس، أو يعتقد أن
له (أي للمدعو من دون الله) تأثيرًا في الإدارة الإلهية؛ بأن يريد الله تعالى بدعائه
والتوسل به ما لم يكن يريده قبل ذلك، إذا كان يعتقد أحد هذين الأمرين يظهرالقول
بردته والحكم بشركه؛ لأنه بالأول جعل من دعاه شريكًا لله تعالى في التصرف
المطلق والامتياز على سائر المخلوقين بالخروج عن سنة الله تعالى في ارتباط
الأسباب بالمسببات، وبالثاني جعل البارئ - سبحانه وتعالى - محلاًّ لتأثير
الحوادث.
القول الأول شديد جدًّا ولكنه هو الأحوط للناس، حتى لا يقولوا مثل هذه
الأقوال التي صرح بعض العلماء بكفر صاحبها. والثاني هو الأحوط للمفتي لئلا
يخرج من الملة من هو من أهلها بقول تلقفه من غير أن يعلم أنه يعتقد ما ينافي
التوحيد.
والذي أراه هو أنه ينبغي العالم المستفتى في مثل هذا أو الذي يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر أن يبين للمستفتي أو لمن يعلم أنه يقول هذه الأقوال حقيقة التوحيد
ومعنى العبادة وحقيقة الشرك الجلي والشرك الخفي؛ ليحكم وجدانه واعتقاده في مثل
هذا القول الذي يدل على ضرب من الشرك بنوع ما من أنواع الدلالة قد يكون هو
الباعث على القول، وقد يجري اللسان بالكلمة مع عدم تصور ما تدل عليه مطابقة أو
التزامًا.
إذا فهم من ينطق بتلك الأسجاع حقيقة التوحيد والعبادة وحقيقة الشرك، وكان
يعلم من نفسه أنه لم يقصد بها معنى من معاني الشرك الجلي، ولا ما ينافي التوحيد
أو يدخل في معنى العبادة، فيكفيه أن يتوب عن القول الذي اختلف فيه، ولا يجدد
عقد نكاحه، وإن ظهر له أن قوله من الدعاء الحقيقي الذي هو العبادة، كما في
الحديث الصحيح أو مع العبادة كما في رواية أخرى ضعيفة السند، وأنه تسرب إليه
الشرك، فعليه أن يتوب ويجدد إسلامه على مذهب الشافعية القائلين بأن المرتد إذا
تاب قبل انقضاء عدة امرأته عادت إلى عصمته بغير عقد، وإذا تاب بعد انقضائها
احتاج إلى عقد جديد، عمل بذلك.
(الاستمداد من الصالحين)
مسألة الاستمداد من الصالحين في الحياة وبعد الممات مشتبهة، لا يتجلى
الحق فيها إلا بيان حقيقة الاستمداد، وقد يأتي فيها التفصيل الذي ذكرناه في المسألة
الأولى.
الاستمداد: طلب المدد، وهو ما يمد الشيء أي يزيد في مادته الحسية أو
المعنوية، فمن طلب من مخلوق مددًا جسمًا؛ كالزيادة في ماله ورزقه، والنماء في
زرعه بغير الأسباب التي جعلها الله شرعًا بين خلقه، فقد طلب ما لا يطلب إلا من
الله تعالى، وهذا ينافي التوحيد؛ لأنه عبادة لغير الله تعالى.
ومن طلب من المخلوق مددًا معنويًّا فهو على نوعين: نوع يعد شركًا كطلب
الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من الله تعالى، فمن طلبه من غيره فقد
أشركه معه، ونوع لا يعد شركًا؛ لأنه داخل في دائرة الأسباب، وهو ما يطلبه
المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وسيرتهم،
وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى، ويعبرون عن هذه
الزيادة التي يجدونها في نفوسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا يدعونهم من دون الله،
ولا يفعلون ما لم يفعله السلف.
وإنما كان هذا ممّا لا بأس فيه لأهل، ولا حرج في طلبه بلسان الاستعداد
وتوجه القلب - إن شاء الله تعالى - لأنه منتظم في سلك الأسباب، فإن الإنسان
يتأثر بأحوال غيره إذا رآها أو تصورها أو سمعها، فإن كانت تلك الأحوال حسنة
صالحة ازداد رغبة في الصلاح، وإن كانت بالضد زاد ميله إلى مثلها، فالذين
يعاشرون الظلمة المستبدين أو الفساق المستولغين تقوى في نفوسهم داعية الظلم أو
الفسق والانغماس في الشهوات، وتصور وقائعهم وقراءة أخبارهم لا تخلو من مثل
تأثير معاشرتهم، ولا سيما إذا كانت أخبارهم مكتوبة بمداد الثناء والتعظيم في قسم
الظالمين، والاستحسان وتمثيل الغبطة ورغد العيش في قسم الفاسقين.
كل هذا مجرب معروف، وإنك لتجلس إلى الحزين الكئيب، فيسري إلى
نفسك شيء من امتعاضه وكآبته، وتجلس إلى المغبوط المسرور فتجد في نفسك
أثرًا من السرور وانشراح الصدر، وتعاشر أهل الجد والنشاط فينالك نصيب من
نشاطهم وتعاشر أهل الخمول والكسل فيصيبك سهم من خمولهم.
وقد رأينا أثر الخير والصلاح في أنفسنا من بركة بعض مشايخنا، كما رأيناه
ولله الحمد في أنفس تلامذتنا. كنا إذا نمنا عند شيخنا الناسك أبي المحاسن القاوقجي
-رحمه الله تعالى- نزداد رغبة في العبادة من صيام وقيام؛ إذ نرى ذلك الشيخ الكبير
في السن والقدر يصوم الأيام الفاضلة، ويقوم طائفة من الليل لا يجيء الثلث الأخير
منه إلا ونستيقظ، ونحن رقود في حجرة بجانب حجرته على صوت تكبيره
وقراءته وبكائه، وأما شيخنا الأستاذ الإمام فكان إذا قام من الليل، لايسمع له صوت
ولا يشعر له بحركة، وكنا نرى أثر مجالسه الخاصة في زيادة الإيمان بالله عز وجل،
والثقة به جل ثناؤه، والغيرة على الدين، وعلو الهمة في الخير.