للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقسيم أوربا الجديد

ذكرت (الحاضرة) الغرَّاء تحت هذا العنوان عن بعض الجرائد الأوروبية أن
سفير ألمانيا في باريز ذاكر الموسيو دلكاسة ناظر خارجية فرنسا بأن الإمبراطور
غليوم يرى أن الخطر الذي يتهدد السلم إنما يجيء من طمع إنكلترا وربما تتبعها
الولايات المتحدة، ثم قال: وظهر للإمبراطور أنه لا بد في إلزام إنكلترا باحترام بقية
الملل، وكفالة السلم من إجراء تقييم جديد للممالك الأوربية على قاعدة معقولة
المعنى، وهي أن تفسخ المحالفة الثلاثية وتمحى من لوح الوجود، وتتآلف الدول
على أساس طبيعي بحسب جنسيتها الأصلية، بين صقالبة وألمان ولاتين، فيكون
جميع شعوب الصقالبة تحت حكم دولة واحدة من جنسهم، وهكذا الألمان واللاتينيون،
ويكون فسخ عقدة التحالف الثلاثي في مدة غير بعيدة، نهايتها انتقال الإمبراطور
فرنسو جوزف إمبراطور النمسا بالموت، حيث توالت عليه المصائب، وطعن في
السن، وحينئذ ينتقض ملك النمسا والمجر حيث كانت هذه السلطنة مؤلفة من
عناصر شتى، مختلفي الأجناس والمذاهب، لا يفترون عن معاركة بعضهم بعضًا،
ويتم ذلك التقويض لملك النمسا بدون إزعاج، فتنخرط مملكة النمسا والولايات التي
سكانها من الألمان في سلك الممالك الجرمانية المتحدة وتضاف لها مملكة هولندا
والولايات الفلمنكية التابعة لمملكة البلجيك فتُمْحى دولتا هولندا والبلجيك من لوح
الوجود، وتستقل الروسية بجميع مملكة بولونيا ومملكة ترانسيلوانية وبوكوين، ثم
تستولي على الجبل الأسود فالصرب فرومانيا، وتستأثر فرنسا ببلاد والونيه
وولايات البلجيك التي سكانها يتكلمون باللسان الفرنسوي، كمداين لياج ومونس
وشارلروا وغيرها، وتتألف منها الممالك المتحدة اللاتينية بانضمام إيطاليا وأسبانيا
والبرتغال إليها، وبهذه الصورة تتألف ثلاث دول متحدة الجنس من الصقالبة والألمان
واللاتينيين، فتربطها روابط وثيقة العُرى قادرة بالتئامها على إلزام إنكلترا بحفظ
السلم.
قال الراوي: فلما أتم السفير كلامه، هتف جناب مسيو دلكاسي وزير خارجية
فرنسا قائلاً: ولكن ما القول في ولايتي الإلزاس واللورين، فأجابه السفير قائلاً:
إنني مأذون بأن أعلمكم أنه لما كان تشكيل الأمم وتقسيمها مؤسسًا على قاعدة الجنسية،
فلا يخطر ببالنا أن نرجع لكم الإلزاس، حيث كانت مملكة ألمانية يسكنها الألمان،
ولكن لكم ولاية اللورين، وتضيفون إليها مملكة لوكسانبورغ المتاخمة لولايات
البلجيك الفرنسوية، فتدخل في مشمولات حدودها طبعًا، ويرى متبوعي الأعظم أن
هذه المسألة من أدق المباحث التي شملها مشروعه، ولذلك لما كانت فرنسا حليفة
الروسية أراد أن تكون المذاكرة الأولى بباريز، ثم قال السفير: ويرى الإمبراطور
أنه لا يصعب إبراز هذا الغرض من القوة إلى الفعل بمجرد انتقال إمبراطور النمسا
كما هو في الحسبان، وبعد تأسيس دول أوروبا على هذا الأساس - أساس الوفاق
الصادق - يمكن إلغاء التجهيزات الحربية المهلكة مع إجراء الطرق السياسية
واستعمال قوة النفوذ في جميع أصقاع العالم سواء كان ذلك في آسيا أو في أفريقيا
لصد الأطماع وكبح الغوائل التي تظهر في الوجود؛ فيسود بذلك العدل، ويرتفع
شأن الحرية بين الأقوام، وتتوطد أركان السلم العام.
هذه خلاصة ما فاتح به سفيرُ ألمانيا جنابَ وزير خارجية فرنسا بالنيابة عن
متبوعه الإمبراطور، وعليه فيكون جناب مسيو دلكاسي قد توجه لعاصمة الروسية
على حين غفلة لمذاكرة رجال دولة القيصر حليف فرنسا في هذا الشأن، ويقال: إنه
وجد نفس جلالة القيصر مرتاحة كل الارتياح لموافقة ابن خالته إمبراطور ألمانيا في
هذا الرأي، وإن الدول الثلاث العظام يتذاكرون الآن في ما جادت به قريحة غليوم
الثاني من الرأي الخطير. اهـ