للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


كوارث سورية في سنوات الحرب
من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي
مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان
(٧)

ولنَعُدْ الآن إلى إكمال حديث المجاعة، لا يسعني أن أحصي المساعي التي
سعيناها لأجل جلْب الأقوات اللازمة من الداخل إلى لبنان والساحل، وفي هذا
المعنى لا بد أن تكون برقياتي أيضًا مسجلة في دفاتر التلغراف.
ثم لما جاء بطريرك الموارنة إلى صوفر للسلام على جمال باشا، وهذا أبدى
له مزيد الحفاوة، وكان معه المطران بولس عواد ورهط من أعوانه، تكلمت مع
جمال أمامهم بما يتهدد البلاد من الجوع، وكان الشيء على أوله، وكان كلامي
بصراحة تامة، فشكر لي البطريرك - فيما بعد - هذه الهمة كثيرًا، ثم إنني لما
رأيت علي منيف بك متصرف لبنان قد أسس في الجبل عدة ملاجئ لطعام الأولاد،
وهيأ لها لوازمها، وكانت كلها في كسروان والمتن - طلبت منه المساعدة في
تأسيس مثلها في الشوف، وأسست ملجأً في عين عنوب، وآخر في مغوايا بقرب
شرتون، وآخر في بريح، وجمعت لها جميع الثياب، والأغطية، والأكسية
اللازمة من بيوت أرباب الحمية من ذوي اليسار، وأجرى عليها المتصرف
الأرزاق الكافية من إدارة الإعاشة، وعاش بها مئات من الأحداث ممن لا ملجأ لهم،
وكان نحو ٩٠ في المائة من الأولاد - الذين عاشوا في هذه الملاجئ - مسيحيين،
مع أن الألبسة والمفروشات جِيءَ بأكثرها من بيوت الدروز، ولكن لم نكن نشعر
بهذا الفرق أصلاً، ولا سيما أيام الحرب، ثم لما وجدنا الأمر اشتد عن ذي قبل،
وأنه لا مناص من شر هذه المسغبة إلا بالاتفاق مع الحلفاء على الإذن بتسريب
الإعانات من طريق البحر - راجعنا متصرف لبنان ووالي بيروت، وهما راجعا
الباب العالي، وجرت مساعٍ من الباب العالي؛ لكي يُغاث أهل سورية كما أُغيث
أهل بلجيكا، وغيرها بواسطة الحلفاء، فذهبت جميع مساعي الباب العالي سُدًى،
وإذا بأميركا قد أرسلت باخرة، وقيل باخرتين مشحونتين أقواتًا وألبسة بناءً على
إلحاح السوريين في أميركا، ووصلت هاتان إلى ميناء الإسكندرية، وذلك في
أواخر سنة ١٩١٦، وانعقدت الآمال بهما، لا بل نزلت أسعار الدقيق قليلاً في
بيروت بمجرد إشاعة وصولهما إلى ثغر الإسكندرية.
وتألَّفت في بيروت لجنة من مسلمين ومسيحيين؛ لأجل استقبال هذه الأرزاق،
وتوزيعها على المعوزين من جميع الطوائف، وبات الناس يرقبون وصولها،
والأعناق مُشرئبَّة، والعيون محدقة نحو البحر، وهذه الأرزاق لا تصل، وكان
مجلس النواب العثماني قد افتتح، وتأخرتُ عن ميعاد الافتتاح نحو شهر بسبب
اشتغالي بتأسيس الملاجئ، ثم ذهبت إلى الآستانة، فأول شيء عملته - وقبل أن
أرى أحدًا من رجال الدولة - هو أنني قابلت سفير الولايات المتحدة، وسألته عن
سبب تأخر هذه الأرزاق في الإسكندرية، فأجابني بكوْن حكومته تأبى تسليم هذه
الأرزاق إلا على شريطة توزيعها بمعرفة قنصل أميركا في بيروت، والحكومة
العثمانية تستنكف من ذلك، فصدقت كلامه، ولكنني قلت له: إن كان مرادكم عمل
الخير، وإجابة طلب السوريين الذين في أميركا - فلا يجوز أن تتوقفوا بعلل كهذه،
ثم ذهبت إلى طلعت باشا أعاتبه على مثل هذه التصعيبات، والعلات التي لا
طائل تحتها عند ما يكون الناس يموتون جوعًا، فأجابني: هذا طلب كنا طلبناه في
الأول، ثم بناءً على إلحاح سفارة أميركا رجعنا عنه، وها أنا ذا أفوِّض إليك أن
تتفق مع سفير أمريكا على الشرط الذي يريده، وأنا أنفذه، فذهبت إلى السفير،
وأخبرته بما جرى، فقال: إنه يريد مكاتبة بذلك من نظارة الخارجية، فذهبت إلى
أحمد نسيمي بك ناظر الخارجية، وهو أخ حميم لي، فاستكتبته الذي أراده السفير،
ثم عدت إلى السفير، وقلت له: هل بقي شيء الآن؟ ! ، فقد أجبناك إلى طلبك،
فلم يبق إلا أن تأمر بإرسال البواخر إلى بيروت فقال: لكن أمامنا عقبة ثانية! ،
قلت: ما هي؟ قال: نخاف من أن غواصات الألمان المنتشرة في البحر
المتوسط تُغرق السفن المذكورة، قلت: نأتي بأمر من ألمانيا إلى الغواصات،
فذهبت إلى سفير ألمانيا فون كولمان، وحكيت له القصة، فأخذني بنفسه إلى
الملحق البحري بالسفارة فون هومان (وهو الآن المحرر السياسي الأول في جريدة
دوتش الغماين تسايتونغ) ، وقال له: اكتب له ما يشاء، فأخبرته بطلب سفير
أميركا، واستكتبته الإنهاء المعجل بعدم تعرض الغواصات للبواخر المحمّلة أرزاقًا
لسورية، وبعد أيام ذهبت أسال عن الجواب، فتأخر الجواب نحو ٢٠ يومًا؛ لأن
البرقيات اللاسلكية إذا أُرسلت إلى الغواصات - وهي في البحر جائلة - قد يقع فيها
غلط، فلا بد من انتظارها حتى ترفأ إلى مراسيها، فلما ورد الجواب أبلغته السفارة
الألمانية إلى السفارة الأميركية، وجئت أنا أستنجز سفير أميركا وعده، فبدلاً من
أن يفرح بانحلال العقدة رأيته ضجر وتبرَّم! ، وقال: لكن بقيت الغواصات
النمساوية! ، فقلت له: لا يوجد للنمسا غواصات إلا في بحر الإدرياتيك لحماية
أسطولها، ولم يبق ثمة من خطر، فقال: لا بد من الأمر لها أيضًا، فحصلنا على
الأمر من النمسا بواسطة سفارة ألمانيا، ورجعنا إليه، ولكن كنت بدأت أصدق ما
كان قاله لي طلعت من كون المانع الحقيقي ليس من الدولة العثمانية، بل من
الإنكليز! ، فلما أخبرناه بأن العقدة الأخيرة هذه قد انحلت، قال: لكننا أصبحنا لا
نقدر على إرسال هذه البواخر؛ لأن الولايات المتحدة قررت إعلان الحرب على
ألمانيا، فقلنا له: هذه مسألة سبقت إعلان الحرب بأشهر، على أن الحرب لما تُعلنْ
فيمكنك أن تأمر بإرسال البواخر من الإسكندرية إلى بيروت، وكل ذلك يتم في
يومين قبل شهر الحرب منكم على الألمان، فلم يقتنع، فقلنا له: أنتم ستعلنون
الحرب على ألمانيا لا على تركيا، فلا معنى لحبس هذه الأرزاق عنا بهذه العلة،
ونحن من المملكة العثمانية لا من ألمانيا، فبقي يراوغ، فقلت له: حوِّلوا هذه
المسألة إلى دولة متحايدة كأسبانيا، أو هولاندا؛ فإنها مسألة إنسانية، لا مدخل لها
في السياسة، فلم يجاوب بالإيجاب، وعندها صرحت له بقولي: قد تحققت كون
طلعت باشا هو الذي قال الحقيقة، وأن تركيا ليست هي المانعة لوصول الأرزاق،
بل أنتم لا تريدون إيصالها، وتحبون أن تعتذروا للسوريين - الذين في أميركا -
بكونكم عملتم الذي عليكم، وإنما تركيا وقفت سدًّا في وجه هذا الخير! ولكن
الحقيقة لن تخفى، وكنت في جميع هذه المساعي وحدي من المبعوثين السوريين،
لم يشاركني أحد من زملائي لا لنقص في حميتهم ومروءتهم، بل لاعتمادهم عليَّ،
واعتقادهم بنفاذ كلامي، ثم لما قطعنا الأمل من جهة أميركا، حولناه نحو أسبانيا،
وأشرنا على ناظر الخارجية بمفاتحة سفير هذه الدولة، فلم يمكن عمل شيء، ثم
دفعت أنور باشا أن يراجع البابا بواسطة القاصد البابوي في الآستانة، فاستدعاه،
وقال له: إن قلة الأقوات في البلاد - بسبب تطاول الحرب - قد أعجزتنا عن ميرة
جيشنا والأهالي معًا، وقد بدأ الجوع في سورية لا سيما في لبنان، وغدًا إذا مات
جماعات من المسيحيين تجعلون اللائمة علينا، فها نحن أولاء نخبركم بالواقع، ولا
يصعب على الحضرة البابوية أن تنال من الحلفاء الإذن بإرسال باخرة مشحونة
أرزاقًا كل شهر مرة؛ لأجل نصارى سورية، ولا سيما لبنان، وإن احتج الحلفاء
بكون المقصود هو توزيع أكثرها على المسلمين - فنحن نتعهد بترك التوزيع إلى
قاصد البابا في بيروت، وإلى البطاركة، ولا ندخل في هذه المسألة أصلاً! ، وإن
ظهر من أول بعثة تأتي أننا مددنا يدنا إلى شيء منها فعليكم أن لا تعيدوا التجرِبة،
ثم إن كان البابا لا يريد - أو لا يقدر - أن يؤدي ثمن هذه الأرزاق فأنا أؤديها إليك
أيها القاصد من صندوق الحربية، فشكره القاصد كثيرًا، وذهب، وكتب إلى
الفاتيكان، فلم يَرِدْ شيء، فراجعت أنور، فقال لي: إنه فاوض القاصد، ولا يزال
منتظرًا الجواب، ثم استدعاه ثانية، فقال له القاصد: قد بلغت مرجعي كل ما
ذكرتم، ولكن إلى اليوم ما جاءني جوابٌ، وسترون - فيما يأتي - السبب في عدم
الجواب.
عندما ذهبت إلى ألمانيا سنة ١٩١٧ دعتني الحكومة الألمانية أن أعمل سياحة
في عواصمها الشهيرة مثل هامبورغ، وفرانكفورت، وكولونيه، ولايبسيغ،
ومونيخ وغيرها، وأرسلتْ معي رفيقًا خاصًّا من نظارة الخارجية، وأبرقوا إلى كل
الأماكن بالاحتفاء بنا، كما يعملون للضيوف الأعزاء، ولما وصلنا إلى مونيخ أدبت
لنا البلدية مأدبة عظيمة، حضرها نحو ٣٠ رجلاً من وزراء الحكومة البافارية،
ورجال السيف والقلم، ثم طلب منا المسيو كمريخ قنصل تركيا، وهو من أعيان
مونيخ أن نلقي محاضرة بحضور ملك البافيار، وجمع من أعيانها، وذلك في الليلة
الثانية، فألقينا محاضرة في فندق (بايريشرهوف) ، حضرها الملك، وكثير من
رجال تلك الدولة، ومن الوجوه وأرباب الأقلام، وكان موضوعها (سورية في
أثناء الحرب) ، وقد اخترت أنا هذا الموضوع قصدًا؛ لأذكر ما جرى فيها من
أهوال المجاعة، بحيث ذكرت الجرائد ثاني يوم أن الملك رَقَّ جدًّا لسماع هذه
المحاضرة، ثم جاءني المسيو كمريخ فيما بعد، وقال لي: إنه قد حادث قاصد البابا
في مونيخ - وهو من مشهوري الكرادلة - وقص عليه ما ذكرته من كون الحكومة
العثمانية سعت بواسطة بعض الدول المتحايدة لدى الحلفاء في جلب أقوات من
طريق البحر إلى سواحل سورية، وكون أنور باشا استدعى القاصد البابوي في
الآستانة، وكلفه أن يعرض الأمر إلى حضرة البابا، وأنه إلى هذه الساعة لم
تحصل أدنى نتيجة، فطلب قاصد مونيخ من المسيو كمريخ تقريرًا بذلك، فجاءني،
وأعطيته التقرير اللازم مفصلاً بإمضائي، وذكرت فيه أنني أتعهد بالنيابة عن
الحكومة العثمانية أنه مهما ورد من الأرزاق بواسطة الحاضرة البابوية إلى سورية-
فلا تتعرض له الدولة لا في قليل، ولا في كثير، ولا يتناول منه أحد من
المسلمين حبة واحدة! ! !
نعم، لنا - من ذلك - فائدتان: الأولى: وقاية إخواننا وأبناء وطننا
المسيحيين من المجاعة، والثانية: كون القليل الوارد إلينا من الداخل - والذي
نتقاسمه وإياهم الآن، ولا يسد حاجتنا ولا حاجتهم - يصير فيه كفاية نوعًا، ثم
ذكرت في هذا التقرير جملة مؤثرة، وهي أن الحضرة البابوية إن لم تُغِثْ نصارى
الشرق في أزمة كهذه الأزمة فمتى يرجون إذًا مساعدتها؟ !
وبعد نحو ١٥ يومًا من كتابة هذا التقرير - بينما أنا في فندق آدلون الشهير
في برلين - إذ جاءني تلغراف من المسيو كمريخ ينبئ فيه بورود جواب الفاتيكان،
وأن مآله سيرد عليَّ في كتاب مضمون، ثم لم يلبث أن ورد الكتاب، وهو من
المسيو كمريخ نفسه، يذكر فيه ملخص ما ورد من الفاتيكان على قاصد مونيخ من
الجواب على تقريري، حتى إنه يضع بعض العبارات بين قوسين إشارة إلى أنها
هي الواردة بعينها من الكرسي البابوي، ومآل الكتاب أن البابا سعى من قبل مرارًا،
وكرر السعي هذه المرة، ولكن دولة ... - وأشار إلى إحدى دول الحلفاء - لا
تزال تعارض في إرسال هذه الأقوات إلى سورية؛ لذلك ( ... فؤاد الأب الأقدس
مجروح من خطة هذه الدولة) ! ، ثم يقول: ( ... وسيعلم مسيحيو الشرق - فيما
بعد - أن الحَبْر الأعظم لم يهملهم في أزمتهم هذه، ولكن ... ) إلخ.
ولقد اطَّلع بعض صحافيي الألمان على هذا الكتاب، فأحبوا أن ينشروه، فلم
أُجِبْهم إلى ذلك؛ خشية أن أثير مسألة، وأجعل قيلاً وقالاً بين البابا وتلك الدولة،
ولكن هذا الكتاب لا يزال عندي، والمسيو كمريخ لا يزال حيًّا، وبعد إيابي إلى
الآستانة حررت الخبر إلى لبنان، وأتذكر أنني كتبته إلى الشيخ بان الخازن من
وجوه الموارنة، وكلفته أن يُطْلع عليه غبطة البطريرك.
وبالاختصار، إن المسئولية الحقيقية تقع في مجاعة سورية على أولئك الذين
أبَوْا إدخال الإعانات إلى سورية، وهم معروفون ... ، وكان جُلّ مقصدهم بذلك أن
يبغِّضوا الدولة العثمانية إلى الأهالي، ويجعلوهم منتظرين زوالها، ومجيئهم هم،
وأن يقتلوا الناس جوعًا؛ ليقولوا: إن الأتراك هم الذين قتلوهم! ، وأغرب من عملهم
هذا أن أناسًا يعتذرون عنهم بأعذار واهية [١] ، ويزعمون أنهم لم يكونوا يقدرون
على إغاثة جياع سورية، وقد لقيت - منذ سنتين في برن - رجلاً سوريًّا مقيمًا
بالقطر المصري، يقول: إن سبب عدم إرسال الأرزاق إلى سورية هو كوْن
البواخر لا تقدر أن ترفأ إلى سواحل سورية من الألغام ... ! ، فليسمع الإنسان هذه
الأضاحيك، وليتأمل، وأغرب من هذا الأغرب أن أناسًا يعرفون الحقيقة،
ويكتمونها، ويستمرون على نغْمة أن الأتراك هم سبب المجاعة، وأن الحلفاء
أرادوا رفْد سورية، والأتراك رفضوا! ، وقد بلغ الأمر من تضييق الحصر
البحري على سورية أن بعض السوريين بمصر جمعوا إعانات نقدية لإرسالها إلى
سورية، وحِيلَ بينهم وبين مشروعهم، وهذا أيضًا معروف بمصر ... مع أنها نقود
لا حبوب. ويقال: إن الفرنسيس كانوا يرسلون دراهم خفية إلى الموارنة من
جزيرة أرواد، ولكن الذي كان يعوزهم هو القوت بعينه لا الدرهم؛ فإن الدولة
كانت تتعهد بدفع أثمان جميع الأقوات بشرط وجودها، فكان على الفرنسيس أن
يفرغوا باخرة مشحونة طعامًا؛ ذلك خير من إرسال حجارة رنانة لا تؤكل!
هذا ما عندنا من الأدلة والبراهين على كون المجاعة هي ناشئة عن الحالة
الحربية، وعلى كون استمرارها نشأ عن الحصر البحري، ورفض بعض الدول
إيصال شيء من القوت إلى الجياع، فإن كان عند غيرنا أدلة على العكس فليأتوا
بها، بدلاً من أن يتشدَّقوا بالأقوال الفارغة، إن كانوا يقدرون أن يثبتوا أن الدولة
كان عندها في الحرب الأرزاق الكافية، وأن المجاعة لم تشتد إلا في لبنان فقط،
وأنه لم يمُت مسلمون من الجوع كما مات من النصارى، بل أكثر، وأن مئات
ألوف من أتراك الأناضول لم يموتوا، فليدلوا على ذلك بحجتهم.
إن كانوا يقدرون أن ينكروا كون العسكر العثماني نفسه قَلَّ في الآخر غذاؤه،
وصار الجنود يفرون بالألوف من قلة الطعام مع الجهد والقتال؛ مما لا يبقى معه
محل للشك بكون المجاعة مجاعة لا تجويعًا، فليأتوا ببرهانهم.
إن كانوا يقدرون أن يجحدوا كون الأرزاق - التي أُرسلت من أميركا لأجل
سورية - وقفت في الإسكندرية، ولم يكن السبب في وقفها هناك الترك، بل
غيرهم، وكذلك النقود التي جُمعت بمصر - لأجل الفقراء من السوريين - لم
يرخص في إرسالها إلى سورية، فليعطونا على ذلك بينة واحدة.
إن كانوا في شك مما ذكرناه من مساعي أنور باشا مع قاصد البابا في الآستانة
ومساعينا مع قاصده في مونيخ لأجل إغاثة مسيحيي لبنان خاصة، وكيف فشلت،
وبسبب مَن فشلت تلك المساعي؟ ! - فليسألوا الفاتيكان نفسه.
نحن عملنا الذي عملناه - أثناء الحرب من خدمة وطننا ومعاونة أبناء وطننا-
قيامًا بواجب الإنسانية والوطنية، لا نريد من أحد جزاءً ولا شُكورًا، ولم نكن
نتصور أن نُساق في يوم من الأيام إلى التلويح أو الإلماع بخدماتنا هذه؛ لأنه لا
يوجد شيء أسمج من عمل الخير والمنّ به، ولكن أبى حسد الحُسَّاد، وبُغض الذين
في قلوبهم مرض إلا أن يحملونا بافترائهم ومباهتاتهم على نشر حقائق، كنا نود لو
بقيت مطوية، ولقد حررنا منها ما اقتضاه المقام الآن، وسنستوفي الباقي في كتاب
عن ذكريات الحرب، وإننا نراهن - ونخاطر كل أحد يقصد الإنكار - أن يأتي
بدليل واحد على كوننا اشتركنا أثناء الحرب بأذى أقل مخلوق من أبناء وطننا أيًّا
كان، في أي موضوع كان، بل نراهن ونخاطر - كل مَن شاء - أن يأتي بحجة
تبطل دَعوانا بما بذلناه من المساعدات، وقدمنا من الخدمات {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) .
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: ٤٨) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
برلين في ٤ يناير سنة ١٩٢٢.
((يتبع بمقال تالٍ))