نعى إلينا بريد الهند أشهر علمائها، وأبعدهم شهرة وصيتًا صديقنا الشيخ شبلي النعماني الملقب بشمس العلماء، صاحب المصنفات النافعة، واليد البيضاء في الإصلاح، ختم الله تعالى حياته السعيدة في خاتمة العام الماضي (٢٨ ذي الحجة) وله من العمر ٥٨ سنة، على ما يؤخذ من ترجمته في بعض الجرائد، فإن صح هذا فقد مات في مثل سن الأستاذ الإمام التي مات فيها، إلا أنه كان لنحافة بدنه وشيبته يظن أنه من أبناء السبعين، ولم يكن يظهر على الأستاذ الإمام مثل هذا الكبر وإن عاجله الشيب في سن الشباب، ولعل رائيه كان يظن أنه لم يتجاوز الخمسين، على أن كلاًّ من الشيخين اللذين تساويا في العمر مات وهو شاب في علو الهمة، وقوة العزيمة والنشاط في السعي إلى الإصلاح. كان الشيخ شبلي عالمًا مستقلاًّ لا عالمًا رسميًّا مقلدًا، وكان كأكثر العلماء المستقلين، والحكماء المصلحين، أستاذ نفسه، وتلميذ همته، تلقى قليلاً عن الأساتذة؛ ولكنه بجده واجتهاده صار أشهر نوابغ علماء الهند في هذا العصر. نعم إن فيهم من يُعَدُّون أوسع منه علمًا واطلاعًا في علوم الحديث والفقه والأصول؛ ولكن قلما يوجد من يماثله أو يقاربه في القدرة على نفع الناس بتعليم هذه العلوم أو التأليف فيها، ولا نعرف له ثَم ضريبًا في إتقان اللغة العربية، وطول الباع، وحسن الذوق في فهم منثورها ومنظومها، والقدرة على الكتابة في الموضوعات المختلفة فيها، فأكثر علماء الهند وغيرها من الأعاجم المتأخرين لا يقدرون على الكتابة العربية الفصيحة إلا قليلاً، وإنما قصارى ما يأتي منهم أن يكتبوا شرحًا أو حاشية لبعض الكتب المشهورة، أو يؤلفوا رسالة أو كتابًا جديدًا في بعض العلوم التي يكثرون مدارستها كالفقه والأصول والمنطق والحديث، بحيث يكون جُل ما يكتبونه مقولاً بنصه من الكتب المؤلفة في ذلك، ومن تجاوز ذلك منهم إلى منظوم أو منثور كثر غلطه وتكلفه وجاء بالغَثّ الذي لا يكاد يُفْهَم، وأما الشيخ شبلي فقد كان من نوادر المجيدين منهم: كان قادرًا على الكتابة العربية السليمة من كلفة العجمة في العلوم والفنون والأدب والتاريخ، كما يُعْلَم من نقده تاريخ التمدن الإسلامي وغيره. كان رحمه الله تعالى أمة وسطًا بين أولي التفريط الجامدين على التقاليد القديمة، وبين أهل الإفراط من المفتونين بالتقاليد الحديثة، إذ كان صاحب مشاركة صالحة في العلوم الإسلامية تمكنه من التدريس والتأليف فيها بطريقة استقلالية إذا شاء، وصاحب مشاركة في العلوم الكونية من رياضية وطبيعية واجتماعية عَرَفَ بها حال هذا العصر، وما يحتاج إليه المسلمون فيه، وقد أتقن علم التاريخ إتقانًا لعله لا يوجد في العالم الإسلامي كله من يساويه فيه الآن، وقد دخل في أعمال الحكومة ثم تركها، واشتغل بالتعليم في مدرسة العلوم الكلية في عليكره على عهد مؤسسها السيد أحمد خان الشهير، وكان من أصدقائه، واشتغل بأمر الجمعيات العلمية، وساح في الممالك والأقطار، فكان بعلومه وأعماله، وسعة تجاربه واختباره، وبما أوتيه قبل ذلك من ذكاء الذهن، وعلو الهمة، ومضاء العزيمة، جديرًا بأن يكون من زعماء الإصلاح، وأن يقوم في وجهه من الخصوم من ينبزه بلقب الإفساد، ويرميه بالكفر والإلحاد، كما هي سنة الله تعالى في العباد، وسيعرف أهل وطنه من قيمته بعد وفاته، ما لم يعرفوه له أو يعترفوا به في حال حياته، وسنذكر في الجزء الثاني ما وصل إلينا من ترجمته، وما يعن لنا من البحث فيها، والاعتبار بها، رحمه الله تعالى وأحسن عزاء البلاد الهندية والأمة الإسلامية عنه.