للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من جاوه

إسلام من دون البلوغ
(س٢) السيد عقيل بن عثمان بن يحيى في (تيمور كونغ - جاوه) .
ما قولكم في إسلام من دون البلوغ من اللقطاء، وأولاد الكفار، وأهل الكتاب،
هل تجري عليه أحكام الشرع، كالمكلف في حياته وموته، أم ينفرد بأحكام تخصه؟
(ج) قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة - وفي
لفظ: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وفي رواية: على فطرة الإسلام، وفي
رواية زيادة: حتى يُعْرِبَ عنه لسانه - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)
الحديث رواه أحمد والشيخان واستدل به على أن الصغير لا يحكم عليه قبل التمييز
إلا بالإسلام الذي هو دين الفطرة، حتى يميز ويعبر عن فكره فإنه يحكم له بالملة التي
يختارها. وهو المراد برواية جابر عن أحمد: (حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب
عنه لسانه: فإما شاكرًا، وإما كفورًا) .
وينقل أهل الأثر صحة إسلام المميز عن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن شيبة
وعدمها عن الشافعي وزفر. واستدل على هذا بحديث (رُفِع القلم عن ثلاثة) ، وذكر
منهم الصبي حتى يبلغ. والحديث حسنه الترمذي، وفيه بحث وأجيب عنه: بأن
الإسلام يكتب له لا عليه، وإنما يدل الحديث على أنه يؤاخذ لا على أنه لا
يقبل إسلامه، كيف وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يقبل إسلام الصغار لا
يرد أحدًا، ومن المشهور الذي لا يرده أحد من المختلفين في المسألة، إسلام علي - كرم الله وجهه - وهو دون البلوغ. قال عروة: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان
سنين، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم - ابن الزبير، لسبع أو ثمان سنين.
وقد يصح الاستدلال بالحديث على أن من دون البلوغ؛ لا تصح ردته عن الإسلام.
وهي رواية عن أحمد والمذهب: الأول؛ أي: أن المميز يصح إسلامه وردته.
وفي رواية ثالثة: لا يصح شيء منهما.
على أن المميز الذي في حجر والديه يكون تابعًا لهما في الأحكام الدنيوية،
وإن قلنا بصحة إسلامه على المختار، حتى يبلغ سن الرشد أو يخير، كما
أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بتخيير أولاد أصحابه؛ الذين كانوا متهودين مع
بني النضير وكانوا أرادوا إكراههم على الإسلام، وفيهم نزل {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) راجع تفسير الآية في المجلد التاسع ص ١٦١.
***
حمل الميت على عربة
(س٣) ومنه: هل يجوز حمل الميت على عربة تجرها الخيل أو الرجال،
إذا قيل: إن هناك مصلحة كبعد القبر، أو خفة المؤنة. وهل فيه إزراء بالميت أو
تشبه غير محمود؟ المسألة ذات بال، فمن القوم من يشدد النكير، ومنهم من يقول
بالتيسير.
(ج) إنما جعل المسألة ذات بال التقاليد والعادات، ولا يهتم الناس من جميع
الأمم بشيء من العادات، كالعادات في تجهيز الموتى ودفنهم وزيارتهم، حتى
إن الذين ينسلخون من الأديان ويتركون العبادات وسائر التقليد، يظلون محافظين
على ما درج عليه أهل ملتهم؛ من التقاليد والعادات المتبعة في هذا الأمر.
لا دليل في الكتاب ولا في السنة على تحريم حمل الميت على عربة من غير
تشبه بغير المسلمين في دينهم؛ لا سيما إذا كان هناك مصلحة؛ لأن المراد بحمله
نقله وإيصاله إلى القبر ليدفن، وقد كانوا يحملون النعش في صدر الإسلام بالكيفية
المعروفة في زمنهم، ولم يقل الشارع: إن هذه الكيفية تعبدية، لا ترفعها المشقة
التي تجلب التيسير. ولو كانت الوسائل العادية التي كانوا يفعلونها واجبة على سبيل
التعبد بمجرد جريهم عليها، لوجب علينا أن لا نقاتل إلا بمثل سلاحهم، وإن سحقتنا
المدافع سحقًا، وأن لا نلبس إلا مثل ملابسهم، وإن سبقتنا الأمم في النشاط سبقًا،
أما التشبه المحظور في مثل هذا العمل، فهو ما يشتبه فيه المتشبه بالمتشبه به في
أمر من أمور دينه، ويكون ذلك عن قصد، وما أغنى المسلمين عن هذا؛ إذ
يحتاجون إلى نقل ميتهم على عربة، فالعربات التي ينقل عليها أهل الكتاب أمواتهم
لها شكل مخصوص مزين بالتماثيل، لا يحتاج المسلم إلى مثله قط. ولا نفتيه
باتخاذه، وإن لم يقصد التشبه بهم.
على أن هذا الشكل من عاداتهم لا من عباداتهم، والمسلمون لم يسلَموا في أكثر
البلاد من التشبه بهم، فيما هو عندهم من قبيل العبادة المحضة والتقاليد الدينية
الخالصة كحمل المباخر والقماقم أمام الجنازة، والترنم بالأناشيد الدينية. ويفعل
المسلمون هذه البدع التي سرت إليهم ممن جاورهم من أهل الكتاب في مصر
وغيرها لغير حاجة إليها، ويزعمون - إن اعترض عليهم بالتشبه -: أنها لا تشبه
فيها؛ لأن أناشيد أهل الكتاب هي غير أناشيدنا، وهم يضعون في مباخرهم البخور
ونحن نضع فيها الزهور، وأنت ترى أنه يمكن أن تكون مسافة البعد عن التشبه في
العربة أوسع؛ بأن تكون العربة التي تحمل عليها أموات المسلمين من قبيل عربات
النقل، ولكنها أنظف وأكثر ارتفاعًا، ويوضع التابوت عليها بالهيئة التي يحمل بها
على الأكتاف عادة، وبهذا ينتفي التشابه بالمرة، لكنه لا ينتفي في البدع المعتادة بما
ذكر آنفا؛ لأن الفرق بين أناشيدنا وأناشيدهم المتحدة في الظاهر، ليس بذي شأن،
لا سيما إذا كانوا يمدحون المسيح والحواريين، ويستعينون بهم، ويطلبون الرحمة
من الله للميت، فأكثر أناشيدنا المتبعة من هذا القبيل؛ لأنهم ينشدون قصيدة البردة
ونحوها، ومدح النبي وأصحابه من قبيل مدح المسيح وحواريه - عليهم السلام -
أجمعين.
وبهذا نعلم أن المسألة مسألة عادات وتقاليد، لا مسألة حرص على السنة، فإن
ما خالفوا فيه السنة، وأخذوا فيه بالبدعة لا حاجة إليه، وما حرصوا فيه على العادة قد
يحتاج إلى تركه لمصلحة، ونحن نتبع المصلحة في العادات، ومتبع المصلحة لا
يسمى متشبهًا بمن سبقه إليها، ولا مقلدًا له على أن تشبهنا بغيرنا في عادة له لم يحرم
علينا، ما لم يكن فيه مفسدة وضرر فله حينئذ حكمه.
***
رهن العقار والديار على مديري الكنائس والأديار
(س٤) ومنه: ما قولكم فيمن يرهن عقاره أو دياره على مديري أموال
الكنائس والأديار؛ ويوفيهم ما اصطلح معهم عليه من ربح المال شهريًّا؛ ويَدَّعي أن
ذلك ليس من المعاملات الربوية. ما هو حكمه؟ هل يفسق بهذا الفعل أو هذا
الاعتقاد، أم له فيه فسحة أو مسامحة؟ وما يقال في مساهمة أو معاملة من هذا
ديدنه؟
إن أشبعتم الفصل والنقل في هذا الباب فهو من المهم في الدين؛ لتساهل أهل
هذه الجهة في الاحتياط والورع، بل تقادعهم في الحرام السحت والطغيان،
وتعاقدهم على الإثم والعدوان، وتقاعدهم عن المبرات والإحسان، فصارت معاملتهم
كلها فاسدة بما يدعونه صحيحًا، وقد عم الربا هذا القطر (جاوى) من غير مبالاة،
فعسى أن يحصل لهم بما تضعونه ارتداع، ولكم ثواب الدلالة على الهدى وإيضاح
الحق.
(ج) مديرو الكنائس والأديار كغيرهم من الناس في المعاملات المالية ما
خصهم الدين بأحكام في العقود والمعاوضات، فالرهن عندهم كالرهن عند غيرهم، إن
جائزًا في نفسه فجائز معهم، وإن ممنوعًا فممنوع. والدين قد حرم الربا؛ لما فيه من
قساوة القلب وترك التعاطف والمواساة للمحتاج، كما بيَّنا ذلك بالتفصيل في تفسير
آيات الربا، وبيَّنا ما هو الربا المحرم بالنص، فيراجع في المجلد التاسع.
واعلم أنك إذا عددت كل ما يقوله المصنفون في كتب الأحكام التي يسمونها فقهًا
من أمور، وحكمت بفسق التارك لبعض شروطهم في هذه المعاملات الدنيوية، فإنك
تقذف بالمسلمين في مأزق من الحرج، لا قبل لهم به ولا طاقة لهم باحتماله. إن الدين
حرم الربا والغش والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، والضرر والضرار،
وكل ما فيه إفساد للأخلاق وتدنيس للأرواح، وأوجب عليهم الوفاء بالعقود، وأقرهم
على عقودهم ما لم تحل حرامًا أو تحرم حلالاً، وأباح لهم بعد ذلك أن يتعاملوا كيف
أرادوا بالتراضي بينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا، وهم غير مكلفين بالعمل بآراء الفقهاء
واجتهادهم، التي لا دليل عليها في النص، إلا إذا أمر الحكام بالقضاء فيها، فحينئذ
تتبع لأجل أن تكون المعاملات نافذة تدينًا وتعبدًا، مثال ذلك: اشتراط الإيجاب
والقبول في البيع مثلاً لما يتعبدنا الله به، وقد قال به من قال؛ اجتهادًا لما رآه من
المصلحة فيه. فإذا تعارف الناس على نوع من المعاطاة وتراضوا به، جاز لهم ذلك
دينًا، ولكنهم يضطرون إلى التزام الإيجاب والقبول، إذا أرادوا أن يكون البيع نافذًا
عند حاكم يشترطه.
***
حُكم شرب البيرا وعصير الزبيب
(س ٥و٦) ومنه: ما هذا الشراب المسمى (بيرا) ؟ وما حكمه؟ وما مادة
أخذه؟ وهل يقال: إنه من الأجزاء الدوائية، أو غير المسكرات، أو يحل تناوله؟
وهل هو أنواع؟ وهل في عصير الزبيب ما يجوز شربه؟
(ج) البيرا هي (الجعة) ؛ أي: الشراب المأخوذ من ماء الشعير، ويقال:
إنها تخمر بحشيشة الدينار، وهي أنواع ولا شك في كونها من المسكرات، ولكن
يقال: إن القليل منها لا يسكر لا سيما بعد الاعتياد، والصحيح المختار عند
جماهير المسلمين ومنهم الشافعية الذين يقلدهم أهل بلادكم، أن ما أسكر كثيره فقليله
حرام وهي ليست من الأدوية، ولكنها تفيد في تحليل البول، وفي الحلال ما يغني
عنها في ذلك كالبقدونس. ومن مرض بحصر البول، ولم يجد محللاً غيرها، حل
له التداوي بها بقدر الحاجة.
وعلمت أنه يوجد نوع منها يستعمل للتحليل، لا يسكر قليله ولا كثيره ولكنه
قليل المكث؛ يشرب عقب صنعه، فإذا طال عليه الأمد أيامًا، فسد وذهبت فائدته.
وأما عصير الزبيب: فلا يحرم إلا إذا اختمر وصار مسكرًا، وقد عجبت من
هذا السؤال في غير شبهة، وما زال المسلمون مذ كانوا يشربون ماء الزبيب
وغيره منبوذًا ومعصورًا؛ ما لم يمكث زمنًا يتخمر فيه ويصير مسكرًا، وله في
مصر وغيرها مواضع يباع فيها هو وماء الخروب وعرق السوس وغير ذلك.
***
يانصيب
(س٧) ومنه: (يا نصيب) لم نعرف ما هيته، ولم نر استئناسًا لتعاطيه
أو دليلاً على حله. فما هو؟ وما حكمه هو وأشباهه؟
(ج) هو نوع من أنواع القمار، كيفيته أن يضع امرؤ أو شركة
قراطيس صغيرة فيها أرقام تسمى نمرًا؛ أي: أعدادًا، يذكر في كل قرطاس منها ما
يدل على أن كذا من هذه النمر؛ يسحب في يوم كذا من شهر كذا وأن طائفة منها
(أي: النمر) يربح كذا قرشًا أو جنيهًا أو فرنكًا، وكذا منها يربح كذا؛ أي: أقل من
ذلك. ويبيعون هذه القراطيس بثمن قليل، بالنسبة إلى ما يُرجى من بعضها،
ويشتريها من يشتريها؛ آملاً أن تكون النمرة فيما يشتريه من النمر الرابحة، وإذًا
يكون أعطى قليلاً وأخذ كثيرًا. وكيفية السحب: أن توضع بطائق عليها أرقام تلك
النمر في وعاء مستدير فيه ثقب، يفتح بعد أن تخضخض البطائق في الوعاء؛ فينزل
منه بطاقة بعد أخرى أمام شهود يصيح صائحهم: ببيان نمرة كل بطاقة تنزل؛ إذ
تكون رابحة حتى إذا تم عدد ما كتب على القراطيس أنه ربح يكون السحب قد تم
وعرف الرابح من غيره. مثال ذلك: أن تكون النمر التي قدر لها الربح عشرة من
مائة، فالمعنى أن البطائق العشر التي تسقط أولاً هي التي تكون رابحة، ومن العادة
أن تكون الأولى أوفر سهمًا، وهذا العمل من القمار؛ أي: الميسر المحرم في الدين
كما هو معلوم.