للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخطر في مراكش

استفحل أمر الخارج على الحكومة المراكشية وكانت الحرب بينه وبينها
سجالاً إلا أن الظفر في جانبه أكثر وقد تبين أن الخارج أو القائم من بيت الملك وهو
(مولاي محمد) وأن اسم (أبو حمارة) كان لقبًا مستعارًا. وقد توالى انتصار
القائم أخيرًا ويظن أنه لو أنه هاجم السلطان مرة واحدة لرجي أن يظفر ويقضي
الأمر. ولا ريب أن كل حال تنتقل إليها تلك البلاد هي خير من حالها الحاضرة في
الفتنة وقبل الفتنة بمائة سنة ونيف فإذا ظفر مولاي محمد فلا بد أن تُجدّد البلاد حكومة
فيها شيء من القوة والنظام وينتظر أن تكون أمثل من حكومة عبد العزيز، على كل
حال فإن هذا مفتون بالزينة والترف فقد كانت البلاد في النزاع أو النزع والدول
الأوربية في التنازع عليها وهو على إملاق حكومته يرسل ذلك الشاب التونسي الذي
تقرب منه بما يعلمه الخبيرون ليشتري له من أوربا ما تصبو إليه نفسه من آلات
الزينة وأدواتها وماعونها وأثاثها ويشتري له من الآستانة الولدان والجواري
الناعمات الحسان ليتمتع كما يتمتع غيره مما كان ولا يزال على شاكلته.
فتن هذا السلطان بزخرف مدينة أوربا - ويا ليته فتن بقوتها ونظامها - فسلك
سبيل أبناء الوارثين المصريين في شراء المركبات الكهربائية ونحوها فجرَّ عليه
ذلك ما وقعت فيه بلاده من الويل والثبور. ولقد كنا نصحنا لحكومته منذ ست سنين
كما نصح غيرنا من الكاتبين بأن تعتني قبل كل شيء بتأليف قوة عسكرية منتظمة
وبنشر المعارف وأن تستعين على هذا بأختها الدولة العثمانية.
و (المنار) يرسل من أول نشأته إلى وزير خارجية المغرب الأقصى وغيره
من كبراء البلاد ولكن من يقرأ ومن يسمع لنا ولأمثالنا، والمغرور بقوته - وإن
وهمية - يرى أنه مستغنٍ عن جميع العالمين {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ
اسْتَغْنَى} (العلق: ٦-٧) وكيف ترضى تلك الحكومة الجاهلة أن تستعين بدولة
إسلامية أرقى منها وحكام المسلمين قد مزقوا الإسلام وأهله كل ممزق لأجل شهواتهم
التي أعظمها عندهم لقب (خليفة وأمير المؤمنين) فلو ذهبت دول الإسلام والإسلام
نفسه فداءً لهذه الألقاب لما كان ذلك إلا قرة عين للمغرورين بها.
كتب بعض الكاتبين مقالات في جريدة (الحاضرة) التونسية يصفون فيها
أمراض تلك البلاد الراجعة إلى الجهل والتمسك بخرافات الخوارق وضعف الحكومة
رأى كاتب جزائري أن تسلم تلك البلاد إلى دولة أوربية لتصلحها كما أصلحت بلاده
(الجزائر) ورد عليه كاتب تونسي بأن هذا انتحار لا علاج وأن الدواء الحقيقي في
التعليم والنظام والقوة وأنه لا يتم هذا لتلك الحكومة إلا بالاستعانة بدولة أوربية وقال
إن فرنسا أحق من غيرها لقربها وجوارها. ونحن نقول إنه ليس من مصلحة دولة
من أوربا أن تستولي الآن على مراكش استيلاءً تامًّا بمعنى أن تضمها إلى أملاكها
لأن المسلمين في كل بقعة وجيل أشجع الناس وأعصاهم على الخضوع للأجنبيين
ولا طريق إلى إذلالهم وتذليلهم إلا حكامهم وأمراؤهم فهم الذي يتيسر لهم أن يفسدوا
بأسهم بالظلم المقبول منهم على الرأس والعين وببذر بذور الترف والسرف والفسق
الذي يدمر البلاد ويهلك العباد، وهذا ثابت بالاختبار والأخبار، وقد أوردنا في
المجلد الرابع ما ورد فيه من الأحاديث والآثار.
أما إذا استعان سلطان مراكش على تمدين بلاده بدولة أوربية قبل الأخذ بالقوة
كما كان يحاول عبد العزيز فيمكن بذلك أن يستولي الأجانب على تلك البلاد بسعي
حكومتها ولكن تلك البلاد لا تزال بدوية لم يذللها الضعف كما ذلل البلاد المصرية
لمحمد علي باشا بسطوة المماليك وظلمهم فتمكن هو وذريته من الاستعانة بالدول
الأوربية على تمدينها هذا التمدين التي كان وسيلة لاحتلالهم فيها وتمكُّنهم منها ولهذا
لا نظن أن دولة أوربية تمد يدها إلى مراكش بدون واسطة حكام منها، إنه لم يوجد
في هذه القرون التي طغى فيها طوفان أوربا على الشرق حاكم مسلم سلك سبيل الرشاد
في سياسة بلاده فحفظها وجعل لها شأنًا عليًا إلا عبد الرحمن أمير الأفغان الماضي
(تغمده الله برحمته) فإنه سلك الطريقة المثلى التي تعلّمها ممن سلكها قبله وهي دولة
الروس التي رُبي في بلادها، تلك هي طريقة القوة العسكرية المنتظمة ومنع الأجانب
من دخول البلاد إلا بإذن خاص إلى أجل معلوم ثم السعي في نشر التعليم وكان
يسهل على مراكش أن تحذو حذوه كما يسهل الآن على دولة الفرس (إيران) لا
سيما إذا اتفقت معه.
وبلاد مراكش أقرب شَبهًا ببلاد الأفغان فإن الأمتين بدويتان شديدتا البأس لا
يعوزهما إلا العلم والنظام. على أن دخول الأوربيين في البلاد بأي صفة دخلوا
أقرب إلى النظام والعمران وخير من الخلل والفوضى في الحكومة الأهلية
الاستبدادية الجاهلية ولا بد أن يتعلم الأهالي منهم بالتدريج فنون العمران كما نرى
في مصر. وكان الأفضل أن يصلحوا أنفسهم بأنفسهم ولكن حكامهم لا يمكِّنونهم ولا
يصلحونهم ولا بد من عمران الأرض فإن لم يعمرها أهلها عمرها الآخرون.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: ١٠٥) .