للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بطلان الدفاع عن
جرح كعب الأحبار ووهب بن منبه
تتمة ما نشر في الجزء الماضي
الانتقاد الرابع
الاحتجاج بما لا يحتج به
ادعى المنتقد الفاضل أننا احتججنا في جرح الحبرين بما لا يصح الاحتجاج
لعدم صحته أو لخروجه عن موضوع البحث، قال: ومنه تفسير وهب بن منبه لقوله
تعالى في قصة موسى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: ١٠٧) .
سلم المنتقد أن ما نقلناه عن ابن كثير في ذلك أمر لا يتصوره عاقل وطعن في
صحة إسناده إلى وهب عند ابن جرير والإمام أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في
تفسيره، قال: في سند ابن جرير من هو مجهول، وكتاب الزهد للإمام أحمد لم
يكن من كتب الحديث المعروفة، فلا يبعد أن يكون في سنده انقطاع، وابن أبى حاتم
تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد متناقضات.
(قال) (وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من
وهب ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد من أصحاب كتب الحديث
المعتبرة مثل البخاري أو مسلم أو غيرهما من الكتب التي يصح للمطلع عليها أن
يقطع أو يظن أنه صدر منه) .
أقول (أولاً) : إذا سلمنا أن في سند ابن جرير مجهولاً، فلا نسلم أن الراوي
المجهول حاله عند المؤلفين في الجرح والتعديل يقتضي أن تكون روايته
موضوعة فهذا لم يقل به أحد منهم ولا من غيرهم وإنما غايته التوقف عن الاحتجاج
بما ينفرد به وليس هذا منه إذ رواه غيره.
و (ثانيًا) إن طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد جرأة عظيمة لا ينبغي أن
يقدم عليها الحريص على توثيق كعب الأحبار، ووهب بن منبه؛ لئلا يعد جرحهما
طعنًا في رواة الحديث فنحن لو طرحنا كل ما روي عنهما لم نخسر من الدين ولا
من العلم شيئًا مهمًّا، وأما الإمام أحمد فهو إمام الأئمة شيخ البخاري ومسلم،
وغيرهما من أساطين السنة أحد الأربعة الذين عرض عليهم البخاري صحيحه
قبل أن يظهره للناس؛ ليرى رأيهم فيه عمدة المحدثين في الجرح والتعديل صاحب
المسند الذي كتبه ليكون إماماً يرجع إليه العلماء فيما اختلفوا فيه من السنة، أفقه
المحدثين، وأزهد الزهاد، وأورعهم، فهل يصح أن نطعن في كتاب ألفه لهداية
الناس لأجل توثيق وهب بن منبه، ويدعي الطاعن أنه يوثق وهبًا وكعبًا لئلا يعد
الطعن فيهما طعناً في السنة؟
سبحان الله! أيقول الشيخ عبد الرحمن الجمجوني المشتغل في جل أوقاته
بالزراعة الذي يرجع عنده إرادة الكتابة في مثل هذا المقام إلى الكتب فيقرأ منها ما
يريد أن يؤيد به رأيه الذي سنح له، وقد تقدم ما يدل على مبلغ فهمه لعباراتها الجلية؟
أيقول: إن كتاب الزهد للإمام أحمد غير معروف عنده، ويرتب على هذا أن يعد
بعض ما روي فيه موضوعًا أي كاذبًا، وهو لم يطلع على سنده؟ ! أيروي الإمام
أحمد الموضوعات في كتاب ألفه لهداية الناس في الدين، ولا يعد ذلك شبهة على
السنة وهو إمامها الأعظم ثم يعد من الشبهة عليها الطعن في مرويات كعب الأحبار
ووهب بن منبه الخرافية؟
و (ثالثاً) إن طعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تشبيهه بتفسير الإمام
محمد بن جرير الطبري أغرب من طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد رحمهم الله
تعالى، إننا نحن نخبره بأن هذين التفسيرين هما أعظم ما كتبه أئمة الحفاظ رواة الأثر
على الإطلاق وإذا كانوا قد اتفقوا على أن تفسير ابن جرير أجل التفاسير على
الإطلاق وأن الذي يليه هو تفسير ابن أبي حاتم كما نقله السيوطي، فما ذلك إلا لما في
الأول من علوم اللغة والنحو الترجيح بين الروايات واستنباط الأحكام، وأما من جهة
الرواية عن الصحابة والتابعين فابن أبي حاتم أشد من ابن جرير وسائر رواة التفسير
تحريًا للصحيح.
قال السيوطي في سياق كلامه عن الروايات المأثورة في التفسير ورواتها بعد
نقله عن الإرشاد تفضيل تفسير السدي ما نصه: وتفسير السُّدِّي الذي أشار إليه يورد
منه ابن جرير كثيرًا من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة هكذا، ولم يورد ابن أبي حاتم
منه شيئًا؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد والحاكم يخرِّج منه في مستدركه
أشياء ويصححه لكن من طريق مرة عن ابن مسعود إلخ (راجع الإتقان) .
فكيف أباح لك دينك وحرصك على الصحيح من السنة أيها المسلم أن تطعن
في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تصريح أهل الحديث بأنه التزم فيه أصح ما ورد
وتحامى ما تساهل في روايته الإمام ابن جرير، والحاكم في مستدركه على
الصحيحين وغيرهما من رواة التفسير المأثور أتجعل روايات هذا الحافظ مع هذه
الشهادة في حكم الموضوع لتبريء وهب بن منبه صاحب الخرافات من رواية من
رواياته غير المعقولة، وترى مع هذا أنك تنصر السنة وتدفع الشبه عنها؟ ؟
ومن غرائب منطق هذا المنتقد أنه يجعل كلامه المفتجر قواعد وأصولاً علمية
دينية يبني عليها أحكامًا كما فعل بطعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم الذي قال
الحافظ السيوطي: إنه التزم فيه إيراد أصح الروايات فقد قال بعد ما تقدم:
(ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحبرين
أخيرًا وذكر ما نقلناه عن الحافظ ابن أبي حاتم من زعم وهب بن منبه أن التوراة
والإنجيل لا يزالان كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ثم قال: فهذا رواه ابن
أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا وهبًا بناءً على مثل
هذه الرواية الساقطة) .
أقول: جعل هذه الرواية أقل ثبوتًا مما قبلها وهي التي حكم بوضعها أي كذبها
ولا نعلم أن عند المحدثين شيئًا أقل ثبوتًا من الموضوع ولكن عند الأستاذ الجمجوني
من فنون الحديث ما ليس عند المحدثين ومن قواعد العلم ما ليس عند أحد من
العلماء ووجه هذه الأقلية أنه افتجر أي: اختلق ما لم يقل به أحد ولا يوافقه عليه
أحد من الطعن بكل ما رواه ابن أبي حاتم ولما كانت كذبة وهب في مسألة عصا موسى
قد رواها عنه ابن أبي حاتم وابن جرير، والإمام أحمد، وحكم هو بأنها موضوعة،
كان لا بد أن تكون هذه الكذبة التي رواها ابن أبي حاتم وحده فيما يظهر أقلّ
ثبوتًا منها عنده.
***
الانتقاد الخامس
ما احتججنا به وهو خارج عن الموضوع عنده
هذا آخر انتقاد له علينا وخلاصته أننا احتججنا بالتوراة والإنجيل على كذب
ما رواه عنهما كعب الأحبار ووهب بن منبه من حيث إن ما يعزوانه إليهما لا يوجد
فيهما شيء منه على كثرته، قال: فهذا فضلا عن خروجه عن الموضوع لما هو
مقرر عند جميع علماء المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح
الاحتجاج بهما ... إلخ.
أقول: ليتأمل العلماء والعوام المُلمُّون بالقراءة والكتابة وغير السلمين أيضًا هذا
الفهم العجيب والمنطق الغريب:
يقول الأستاذ الجمجوني النقادة: إن قولنا فيما رواه الحبران الإسرائيلي
والفارسي النسب عن التوراة والإنجيل: إنه لم يوجد فيهما شيء منه، وعدم وجوده
فيهما دليل على كذبهما فيما روياه عنهما خارج عن الموضوع؛ فما موضوع طعننا
فيهما؛ إذًا إنه قد اعترف أولاً بأن هذا الدليل هو عمدتنا في تكذيبهما في رواياتهما عن
الكتب السابقة ثم يقول: إنه خارج عن الموضوع وما هو إلا عين الموضوع وإن لم
يكن عين الموضوع فما الموضوع إذاً؟ سبحان الخلاق العظيم ماذا في خلقه من
عجائب!
ثم زعم بعد هذا أنني نقضت هذا القول بقولي: إن ابن كثير كان يعلم من
كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلمه رجال الجرح والتعديل الأولون الذين جعلوا كعبًا
ووهبًا من الثقات في الرواية؛ ولذلك انتقد بعض ما روي عنهما ولم يأخذه بالتسليم
فأي نقض هذا؟ ؟
وقد ذكرت أيضًا أن ابن حزم وابن تيمية من علماء القرون الوسطى قد
اطلعوا على كتب أهل الكتاب التي لم يطلع عليها المتقدمون الذين وثقوا الرجلين كابن
حبان وغيره قال المنتقد: ولكن لم يرد عن أحد من هؤلاء ولا من غيرهم أنهم
طعنوا فيهما وهذا قول يقال ليس خارجاً عن العقل والفهم كالأقوال السابقة.
ويقال في الرد عليه أولاً: إن هذا النفي العام يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه
فعدم علمه لا يدل على عدمه كما أنه لا يدل على وجوده.
(ثانيًا) إن من ذكرناهم لا يبحثون في جرح راوٍ إلا إذا عرض لهم بحث في
تمحيص رواياته غير الثابتة عندهم، فمن سكت عن جرح الرجلين يمكن أن يقال:
إنه لم يتفق له ذلك فإن ابن حزم وابن تيمية لما تصديا للرد على أهل الكتاب ونظرا
في كتبهم لأجل ذلك لم يخطر في بالهما مراجعة ما روي عن هذه الكتب والرد عليه؛
لأنه ليس من موضوعهما بل ربما يعد حجة عليهما من حيث إن بعض كبار الرواة
الموثقين قد شهدوا لهذه الكتب.
(ثالثًا) إننا نرى الحافظ ابن كثير يستنكر بعض الروايات عن كعب ووهب
من غير طعن في سندها لعلمه بصحته وهذا يتضمن تكذيبها وإن لم يصرح به إذ
موضوعه نقد المروي؛ لأنه باطل لا الطعن في الرواة.
***
خلاصة الرد على الانتقاد:
إننا لم ننكر ولن ننكر أن جمهور رجال الجرح والتعديل عدوا كعبًا ووهبًا من
الثقات في الرواية ولم يقبلوا طعن ابن الفلاس منهم في وهب؛ لأنهم نقلوا عنه ما يدل
على رجوعه عما رماه به من البدعة، وإن منهم من تأول تكذيب معاوية لكعب بأنه
يعني به وقوع الكذب في رواياته لكذب من أخذ عنهم لا لكذبه هو أو بغير ذلك حتى
قال بعضهم ما ترده العبارة العربية ولا تحتمله ولو تكلفًا.
وإننا مع هذا نقول: إنه ظهر لنا ما لم يظهر لأولئك الموثقين لهما وهو أننا
رأينا الشيء الكثير من رواياتهما مما نقطع بكذبه، كمخالفة ما رواه عنهما الثقات مما
كانا يعزوانه للتوراة وغيرها من كتب الأنبياء لما عند أهل الكتاب فجزمنا بكذبهما
وهذا مما لم يكن يعلمه المتقدمون؛ لأنهم لم يطلعوا على كتب أهل الكتاب، وإننا بهذا
الطعن في روايتهما ندفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام سيما تفسير كتاب الله تعالى
بالمأثور عن السلف، وقد حشي خرافات كثيرة يأخذها القارئون للتفسير وقصص
الأنبياء بالتسليم.
وإننا إذا سلمنا للمنتقد أن كل من وثقه جمهور المتقدمين فهو ثقة، وإن ظهر
خلاف ذلك بالدليل نفتح بابًا آخر للطعن في أنفسنا بنبذ الدليل، والأخذ في مقدماته
بالتقليد ومخالفة هداية القرآن المجيد، نعم، إننا نعترف بأن نقض رواة السنة
والآثار من حيث جودة الحفظ والضبط وعدم الشذوذ ونحوه من العلل قد محصه
رجال الجرح والتعديل ووفوه حقه إلى درجة تقرب من الكمال ولم يبقوا لمن بعدهم
فيه إلا اجتهادًا قليلاً جُلّه فيما اختلفوا فيه.
وأما تمحيص متون الروايات وموافقتها أو مخالفتها للحق الواقع وللأصول أو
الفروع الدينية القطعية أو الراجحة وغيرها فليس من صناعتهم ويقل الباحثون فيه
منهم ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يوفه حقه كما نراه فيما يورده
الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره ومنه ما كان
يتعذر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع، كظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين
وغيرهما أين تكون الشمس بعد غروبها؟ فقد كان المتبادر منه للمتقدمين أن الشمس
تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل؛ إذ تكون تحت العرش تنتظر
الإذن لها بالطلوع ثانية، وقد صار من المعلوم القطعي لمئات الملايين من البشر أن
الشمس لا تغيب عن الأرض في أثناء الليل وإنما تغيب عن بعض الأقطار وتطلع
على غيرها، فنهارنا ليل عند غيرنا وليلنا نهار عندهم كما هو المتبادر من قوله
تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: ٥) وقوله
جلت قدرته: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: ٥٤) فنحن بعد
العلم القطعي الثابت بالحس في مثل هذه المسألة وما في حكمها لا مندوحة لنا عن أحد
أمرين، أما الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من
علامات الوضع عند المحدثين أنفسهم وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر
رواته بالصدق والضبط أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه من مثل كعب
الأحبار ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه ونرى الكثير من
أحاديثه عنعنة لم يصرح -رضي الله عنه- بسماعها من النبي -صلى الله عليه
وسلم- ومن القطعي أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه - صلى الله عليه وسلم -
لتأخر إسلامه فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل
الصحابي إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابي مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس
وغيره ممن روى من كعب وكان يصدقه، وأما تأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى،
وأن بعض رواية لم يفهم المراد منه فعبر عما فهمه كعدم فهم راوي هذا الحديث الذي
ذكرنا على سبيل التمثيل المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم - إن الشمس
تكون ساجدة تحت العرش ... إلخ فعبر عنه بما يدل على أنها تغيب عن الأرض
كلها وقد يكون المراد من معنى سجودها أنه من قبيل قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: ٦) كما أن توقف طلوعها على إذن الله تعالى
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (الأعراف: ٥٨) ، وهو إذن التكوين لا
التكليف وذلك أننا نؤمن بحق أن العالم كله بيد الله تعالى وتصرفه، وقد أول
الحديث بعض شراح الصحيحين ليوافق رأي المتقدمين من علماء الفلك فكان تأويلهم
متكلفًا يرده ظاهر الحديث ولا سيما رواية مسلم المطولة.
ومن هذا القبيل حكاية بعض الرواة ككعب ووهب عن كتب بني إسرائيل لم
يكن يحيى بن معين وأحمد وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يصح من ذلك وما لا
يصح لعدم اطلاعهم على تلك الكتب وعدم ظهور دليل على كذب الرواة المتقنين
للكذب فيما يعزونه إليها، فإذا ظهر لمن بعدهم في العصر أو فيما قبله أو فيما بعده ما
لم يظهر لهم من كذب اثنين أو أكثر من هؤلاء الرواة فهل يكابر حسه ويكذب نفسه
ويصدقهم بلسانه كذبًا ونفاقًا، أو يكتم الحق عن المسلمين لئلا يكون مخالفًا لمن قبله
فيما ظهر له ولم يظهر لهم، أفلم ير المنتقد الغيور على السنة أن الملاحدة الذين
يتقي طعنهم في السنة بتعديل كعب ووهب يشككون المسلمين في الأصول والمسائل
القطعية حتى في نصوص القرآن؟
ثم إننا نعيد القول ونؤكده بأن ظهور كذب كعب ووهب لنا لا يترتب عليه
خسراننا لشيء من أصول ديننا، ولا من فروعه فالعمدة في الدين هو القرآن وسنن
الرسول المتواترة وهي السنن العملية كصفة الصلاة والمناسك مثلا وبعض الأحاديث
القولية التي أخذ بها جمهور السلف، وما عدا هذا من أحاديث الآحاد التي هي غير
قطعية الرواية أو غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد وإننا نرى بعض الأئمة
المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة حتى ما رواه
الشيخان منها ولا يزال يتبعهم الملايين من الناس في تركها ولا يعدهم سائر المسلمين
ضالين عن دينهم وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة شاهد من هذه الأحاديث
الصحيحة التي خالفها الحنفية وغيرهم وهم أكثر مسلمي هذا العصر.
فماذا تكون قيمة روايات هذا الإسرائيلي (كعب الأحبار) وهذا الفارسي
(وهب بن منبه) وأكثرها خرافات إسرائيلية شوهت كتب تفسير كتاب الله وغيرها
من الكتب وكانت شبهًا على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة بأنه كغيره، دين
خرافات وأوهام وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر كالذي ذكره
كعب من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة واعترف المنتقد بصحته
عنه وقد أعدنا ذكره في هذا الرد.
نوه المنتقد برواية البخاري لقول أبي هريرة: إن عبد الله بن عمرو بن
العاص كان أكثر حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، لأنه كان يكتب،
قال: وأنا لا أكتب إذ رواه من طريق وهب عن أخيه همام، ونقول أولاً: إن
البخاري قال عقب روايته له عنه: تبعه معمر عن همام يعني أن وهبًا لم ينفرد بهذه
الرواية عن همام بل رواها عنه معمر أيضًا، فلو أن وهبًا لم يروها ما كنا جهلناها،
ولو جهلناها لم يكن جهلها خسارة لشيء من أصول ديننا ولا فروعه، فقول أبي
هريرة ليس حجة شرعية وهو لا يدل علي أن ابن عمرو كان يكتب بأمر النبي -
صلى الله عليه وسلم - ولا بإقراره فيصلح معارضًا لحديث نهيه - صلى الله عليه
وسلم - عن كتابه شيء عنه غير القرآن، وإن سماه المنتقد (حديثًا صحيحًا نافعًا)
ثم قال: (كما أن البخاري احتج بوهب في أول كتاب الجنائز، من صحيحه حيث
قال، وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلي، ولكن ليس
مفتاح إلا له أسنان؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) اهـ
أقول:
(أولاً) إن هذا تعليق لا رواية مسندة وإنما رجال الصحيح من روى عنهم
المسند.
(وثانيًا) إنه أورده بصيغة التمريض، (قيل) قال الحافظ ابن حجر بعد
الكلام على صيغة الجزم في الروايات المعلقة في صحيح البخاري ما نصه:
والصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن
فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح ... إلخ، وثالثًا، إن هذا القول لوهب
قد انتقد المنار عليه وخطئ به؛ ولذلك قالوا لما رووا هذه العبارة مرفوعة من
حديث معاذ يحتمل أن تكون مدرجة فيه ولم يقولوا: إن وهبًا هو الذي سمعها وليس
هذا المقام محلاً لبسط هذا وأمثاله حتى إنني لم أجعله من الانتقادات علينا، وإن كان
المنتقد قد حاول به أن يجعل وهبًا من رواة أحاديث صحيح البخاري، كما حاول
أن يجعل كعبًا من رجاله، والحق أن البخاري - قدس الله سره - لم يرو عن كعب
شيئًا ولم يرو عن وهب حديثًا مسندًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وإنما روى عنه عبارة وعلق عنه أخرى كما علمت آنفا.
كلمة بيني وبين المنتقد:
قد أطال صديقنا الأستاذ الجمجموني في انتقاده هذا فاضطرنا إلى الإطالة في
بيان أخطائه مع تحري الاختصار حتى لا يعود إلى مثل هذا الكلام الطويل المتهافت
على أنه إذا عاد لا ننشر له مثله، ولا سيما في هذا الموضوع [١] وإنما نشرنا هذا
تكريمًا له وتحسينًا للظن به على اعتقادنا أنه حسب أن ما جاء به حجج قيمة وبراهين
لا ترد وأنه أراد بإعادة كلامنا المنتقد عنده بنصوصه على كونه منشورًا في المنار
وأكثر النقول في الجرح والتعديل من جهة عامة وفي توثيق الحبرين مما نعرفه ولا
ننكره ولا أنكرناه من قبل أراد بهذا كله إظهار جهلنا، وإننا لو لم ننشره لظن أننا
لإصرارنا على خطئنا قد امتنعنا عن إظهار هذه الحقائق لقراء مجلتنا.
لقد كان يكفي في هذا الانتقاد ورقة أو ورقتان يذكر فيهما المنتقد أن جمهور
رجال الجرح والتعديل قد وثقوا الحبرين، وأن بعض شراح الحديث أولوا عبارة
معاوية في اختبار الكذب على كعب، وأن الروايات الخرافية عنهما يحتمل أن تكون
أسانيدها إليهما غير صحيحة وما في معنى هذا.
ولو اختصر لاختصرنا في الرد بأن جرحنا لهما إنما كان في شيء لم يكن
يعرفه رجال الجرح والتعديل المتقدمون، وهو وجيه يتعين قبوله لا يشكك أحدًا في
جمهور رواة الصحاح ولا من دونهم، وأن الروايات المعروفة صحتها عنهما كافية
في إثبات كذبهما وعدم صحة تأويل من أول لكعب بأن الكذب من غيره لما هو
معلوم بالبداهة من أن كعبًا من كبار أحبارهم، ولن يكون كذلك من لم يطلع على
التوراة وكتب الأنبياء بنفسه، وأن عدم الثقة بها سترد عن كتبنا شبهات كثيرة ولا
نخسر به شيئًا من علومها لغنانا بغيرها عنها.
بعد هذا كله أقول: إذا ثبت بما حررته كذب الرجلين بما ذكر فلا يبقى مجال
للشك في إنهما كانا يغشان المسلمين ويدخلان في كتبهم الدينية ورواياتهم ما يقتضي
الطعن في دينهم، وحينئذ لا يبقى محل لاستغراب اشتراكهما في تلك الجمعيات
اليهودية، والمجوسية التي كانت تكيد للإسلام والعرب.
هذا وإنني أستغفر الله تعالى لي ولأخي المنتقد، وقد وضح للقراء ما عندي
وما عنده في المسألة ولهم الحكم في ذلك، والله يحكم بين عباده فيما هم فيه يختلفون.