للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى

بينا غير مرة ما ارتقى إليه فتح الأقوياء بالعلم والنظام والآلات الحربية لبلاد
الضعفاء بالجهل والخلل وفقد الآلات الحديثة، ذلك الفتح المبني على قواعد
الاقتصاد في المال والرجال ومبادلة المنافع، مع حفظ الموازنة بين الدول الكبرى،
فقد صارت الدول تقتسم الممالك فيما بينها بالاتفاق القولي، فتمكن كل منها الأخرى
من اتخاذ الوسائل للاستيلاء على حصتها بما يسمونه الاحتلال أو الحماية أو حفظ
النفوذ؛ وما أشبه ذلك من الأسماء اللطيفة التي يخف وقعها على القلوب، ويلوح
من ورائها خيال الأمل للمغلوب، فلا تتوجه قواه كلها للدفاع.
ما أبقى على كثير من الممالك الجاهلة المختلة إلا تنازع الأقوياء عليها، وهو
عرض لا يدوم، وها نحن نراها قد اتفقت بعد خلافها، وكان من أثر هذا الاتفاق
أن ظهرت الثورة في بلاد فارس، فاحتلت الجنود الروسية في منطقة نفوذها منها
وهي الجنوبية، وبدأت إنكلترة في التمهيد لاحتلال حصتها وهي المنطقة الشمالية.
وظهرت الثورة في المملكة المراكشية فاحتلتها الجنود الفرنسية في هذا الشهر،
كما أشرنا على ذلك في مقالة (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) وهذا هو
أثر الاتفاق بين فرنسة وإنكلترة على اقتسام ما بقي من القسم الشمالي من أفريقية
سنة ١٩٠٤م، وقد دخل في منطقة النفوذ الفرنسي في هذا الاتفاق ما بين حدود
طرابلس ومصر إلى السنغال وبحيرة شاد، ومنه مملكة برنو ومملكة ودّاي، وأكثر
من نصف الصحراء الكبرى بما فيها من الواحات، وقد شرعت في احتلال تلك
البلاد كلها. وأما مراكش فقد جعلوا لها معاهدة خاصة جعلوا لأسبانية نصيبًا من
النفوذ فيما يقرب من حدودها فيها، ونرى فرنسة قد احتلتها بجنودها.
تسقط الممالك الإسلامية مملكة بعد مملكة، فلا يروع ذلك أهل الممالك
الأخرى من المسلمين؛ لأن السواد الأعظم من المسلمين جاهل بالسياسة وأساليبها
والنافع والضار منها. وأما الذين يشتغلون بالسياسة منهم فأكثرهم قد انحلت
رابطتهم الإسلامية بتأثير التعليم الأوربي، واستبدلوا بها رابطة الجنس أو الوطن،
ومع هذا كله يتهمهم المتهمون بالجامعة الإسلامية: إما للتحريض عليهم وإما لزيادة
التنفير عن هذه الجامعة، حتى لا يبقى مسلم تحدثه نفسه بإمكانها أو استحسانها.
كنا نعرف أخبار الثورة في البلاد المغربية من المقطم والأهرام، وقلما نرى
حديثًا عنها في جريدة من جرائد المسلمين، وأما جرائد الآستانة والجرائد الفارسية
فلا قيمة لمراكش عندهن، وأن سقوط ثمرة من شجرة أهون عليهم من سقوطها،
وإذا ثبت بهذا أن ما يسمونه الجامعة الإسلامية لا مسمى له، فليتق الله هؤلاء
الفاتحون في هؤلاء الجاهلين المساكين الذين يستولون على بلادهم وليراعوا فيهم
حقوق الإنسانية.
قد سمعنا من فرنسة صوتًا جديدًا، سمعناها تعترف بخطئها في سياستها
الإسلامية، وتقترح إنشاء قلم مخابرات للوقوف على حقيقة أحوال المسلمين الذين
دخلوا والذين يراد إدخالهم في محيط سلطانها؛ لأجل أن تتمكن من رفع الظلم عنهم
وإقامة العدل والمدنية فيهم، فإن صح الخبر وسلكت مسلك إنكلترة في السودان
المصري، فإنها تجد كثيرًا من عقلاء المسلمين عونًا لها، ويخف على نفوسهم
احتلالها لمراكش.
وسنبين مرادنا بهذا في المقالة الثانية التي تشفع بها مقالة (العالم الإسلامي)
التي في هذا الجزء.