La chute de Mascate (١) مسقط هي الثغر العربي البحري حاضرة بلاد عمان على حرف بحرها في عرض ٢٣ درجة و٣٧ دقيقة من الشمال وفي طول ٥٦ درجة و١٥ دقيقة من الشرق فيها نحو ٣٥ ألفًا من السكان وميناؤها حسن، وكان قد حصنها سابقًا البرتغاليون، وتجارتها مع بمبي وخليج فارس نافقة، والميناء الصغير الذي يجاورها واسمه مطرح يعد من مرافقها وكان قد فتحها البوكرك في سنة ١٥٠٧ فامتلكها البرتغاليون إلى سنة ١٦٤٨ ثم خرجت من أيديهم وتقلبت عليها الأحوال حتى أصبحت هدفًا للنفوذ الإنكليزي إلى هذه الأيام الأخيرة فجاءتنا الأخبار أن الإنكليز احتلوها وغدت من أملاكهم، ولا بد من أن نعرض على القراء مجمل الأنباء منذ أقرب عهد إلينا أي منذ عهد السيد سعيد بن سلطان لتقوم في الفكر صورة الحقيقة منذ نشأتها إلى هذا العهد. وقد استندنا في أغلب هذه الرواية على حضرة سليمان أفندي الدخيل صاحب الرياض فنقول: كان لمسقط في عهد السيد سعيد بن سلطان شأن يُذْكَر أصبحت فيه حاضرة إمارة كبيرة على سيف الخليج الفارسي تمتد على الثغور البحرية المجاورة لها حتى جزيرة البحرين التي لم يتغلب عليها مع أنه حارب أهلها أشد المحاربة، ومن الثغور التي كانت تضاف إلى الإمارة المذكورة لنجة وبندر عباس وما يجاورهما من البلاد الإيرانية الواقعة على خليج فارس، لا بل امتدت أجنحة إمارته إلى ساحل شرقي إفريقية مثل بلاد لامو ومنباسة والأتقزنجة وبندر السلام وهنزوان والجزيرة الخضراء وزنجبار وغيرها. وكان قد أقام له حاضرتين وهما مسقط للبلاد الواقعة في بحري عمان وفارس وزنجبار للأقطار الأفريقية، وعقد معاهدة مع والي البصرة ومثلها مع دولة الهند ليحافظ على استقلاله وأمور دياره حتى إن فرنسة أقرت له بلقب سلطان العرب أو امبراطورهم وقد نالت رعيته من الرفاهية ورغد العيش ما لم تنله تلك الأقطار في سابق الأعصار، وكان له أسطول ذو حول وطول يمخر أبحر الهند وفارس وعمان. بقيت تلك الدولة في نمو وزهو إلى أن توفي السيد سعيد فانقسمت دولته بين أبنائه قسمين: شطر عربي وشطر أفريقي، فكان الشطر الأفريقي نصيب السيد ماجد ومن بعده السيد برغش ووقع الشطر العربي حصة للسيد ثويني الذي قتله ابنه السيد سالم ليستولي على سلطنته، وما بدأ هذا الرجل بالقبض على زمام الأمر إلا واستعرت نيران الفتن واندلعت ألسنة اللهيب إلى تلك الديار ولم تخمد إلا بتغلب السيد تركي عليها وهو ابن السيد سعيد أخي السيد ثويني، وبقيت الأمور تجري في مجراها إلى عهد السيد فيصل بن تركي السلطان العربي الحالي، فتقاسم الإنكليز والألمانيون تلك البلاد في معاهدات سنة ١٨٩٠ وأفضت ثغور فارس والبحرين والكويت إلى حماية الإنكليز. وهكذا أخذت البلاد تخرج من أيدي أصحابها. ولما اخترع الإفرنج البواخر وسيروها على متان البحار وشحنوها آلات جهنمية وبقي العرب على حالتهم الأولى من اتخاذ السفن الشراعية أو ذوات المقاذيف ضعفت قواهم في المحاربة وتأخروا عن سائر الأمم التي كانت تزداد قواها بازدياد عدد بواخرها وبوارجها ومدرعاتها فاضطر أمير مسقط أن يسايس الإفرنج والإنكليز خوفًا من أن تفلت البلاد من يديه قهرًا وقسرًا بدون أن يتمكن من معارضة المتغلبين الطامحة أبصارهم إلى دياره، فاضطر إلى منع النخاسة بيع الرقيق ثم إلى منع بيع الأسلحة ثم إلى غير هذه المطالب مما أوغر صدور العرب عليه ودفعهم إلى الخروج عليه. وأول من نفث في صدور الناس روح العصيان هو الشيخ عبد الله السالمي من الشرقية فإنه دعاهم إلى أن يبايعوه وقد كان بلده ضبية ومسكنه في بلد القابل الذي أميرها الشيخ عيسى بن صالح، وأول منه بايعه هو هذا الشيخ وكانت المبايعة سرًّا، والغاية من هذا الخروج إقامة السيد فيصل إمامًا شرعيًّا على الإباضية في مسقط يكون نافذ القول والأحكام لا سلطانًا، ولهذا كتبا إليه كتابًا ليلطلعاه على ما جال في فكرهما فأبى السيد فيصل قائلاً إنه سلطان وإمام معان، وإنه حر القول والفصل في مملكته يعمل ما يشاء ويقول ما يشاء. فلما بلغ ذلك الخبر إلى الشيخين امتعضا وانضم إليهما جمع شايعوهما في أفكارهما ثم طلبوا جميعهم إلى السيد فيصل أن يقطع دابر المومسات من مسقط وعمان وأن يمنع شرب المسكرات والدخان وتجول المبشرين في تلك البلاد إلى غير هذه المطالب، فأبى كل الإباء قائلا: إن الإنسان خلق حرًّا ولا يحق لي أن أقيده بقيود. فلما رأوا أنه رفض كل ما طلبوه منه اجتمع الشيخ عبد الله السالمي والشيخ عيسى بن صالح والشيخ عبد الله بن سعيد وعقدوا مجلسًا خفيًّا في سمائم من بني الرحية [١] وقرروا أن يبعثوا الشيخ عبد الله بن حميد إلى جميع ديار عمان ليدعوَ أهلها إلى النهوض مع الشيوخ المذكورين وإلى محاربة السيد فيصل لكونه أبى تلبية مطالبهم. فجرى الأمر على ما قرروه ومكنوا الصلح في قبائل عمان المختلفة وربطوا بعضها ببعض ليكونوا يدا واحدة على السيد السلطان، ثم سار الشيخ عبد الله بن حميد إلى تنوف [٢] بليدة قريبة من نزوة وواجه شيخها حمير الإمامي الذي أمر للحال بجمع علماء الإباضية وذاكرهم في الأمر فقر رأيهم على تعيين إمام ومبايعته فأقاموا عليهم الشيخ سالم بن راشد الخروسي [٣] ودخلوا نزوة سرًّا ودعوا سكانها إلى المبايعة فبايعوا الإمام وكان في مقدمتهم بنو يام والكنود [٤] . فلما بلغ الخبر أمير نزوة وهو السيد سيف بن حمد من أبناء بني سعيد هجم عليهم بعسكره كبحًا لجماحهم، لكنهم أبلوا بلاء حسنًا وقتلوا من بني سعيد خاصة أكثر من ٢٥ رجلاً وجرحوا الوالي ثم بعد ذلك أخذت نزوة، أو قل: سلمت نفسها بدون ممانعة لضعف أهلها وقوة محاربيهم، وللحال أخرجت العساكر من القلعة الحصينة [٥] واحتلها أتباع الإمام. أما الوالي فإنه لما رأى الحال على تلك الصورة لجأ إلى أحد المساجد فطلبوا إليه أن يطاوع الإمام، وألا يعامل معاملة الأسرى، فاستمهلهم ساعة قبل الجواب فلما أمهلوه انتحر. قبض الإمام على زمام الأمر في نزوة، ولما قرت فيها قدمه أرسل يقول لسكان بيت سليط [٦] إما الطاعة وإما الحرب فسالموه وأطاعوه. ثم سار وقد قسم جنده إلى طائفتين وجه الطائفة الأولى إلى بركة الموز [٧] والطائفة الأخرى إلى الرستاق [٨] وما كادت تصل تلك الجنود إلى تلك الديار إلا وانقاد سكانها للهاجمين بدون معارضة ثم زحفوا على بلاد الحزم [٩] فبايع أهلها الإمام ثم زحفوا إلى ولاية العوابي [١٠] ، فلم يقاومهم فيها أحد، وفي تلك الأثناء كانت الطائفة الثانية من الجند قد زحفت من بركة الموز إلى ولاية تركي [١١] ، وقالوا لواليها: إن أنت وافقتنا على أمرنا أقمناك إمامًا. فسلمهم القلعة بدون محاربة وللحال لفوا رأسه بعمامة وقالوا له: كن مستعدًا لأن تكون خليفة بعد إمامنا هذا. لما سمع السيد فيصل هذه الأمور جيش جيشًا فيه ٥ آلاف جندي وأمر عليه ابنه السيد نادر فلما وصل إلى قرب موقع الإمام الجديد في سمائم قلب له جيشه ظهر المجنّ فانحاز إلى جيش الخصم ولم يبق معه إلا فرقة من البلوص وأولاد بني سعيد وكلهم لا يتجاوز عددهم التسعين، فلما رأى هذه الخيانة لجأ إلى حصن سمائم فدخله ولبث فيه محصورًا منتفعًا بالمدافع التي كانت هناك دفعًا لهجمات عدوه الشديدة. أما قبائل ذلك الموطن فإنها لم تنفعه فتيلا لأنها كانت خانته وانحازت إلى الإمام الجديد الذي اشتد ساعده لما رأى من الفوز المبين، ومع ما توفق له من انضمام القوم إليه لم يستفد من محاصرة السيد ناذر عظيم فائدة لأنه كان يدحرهم شر دحر بما كان يمطره عليهم من قذائف مدافعه، ولهذا رأى الإمام من الأوفق له أن يتركه وشأنه ويحاصر البلد محاصرة ضيقة بحيث يبقى السيد ناذر وهو في حصنه في بؤرة البلد. ثم إن الشيوخ تفرقوا بجنودهم فسار الشيخ حمير بجنوده إلى سمائم السفلى وسار الشيخ عيسى إلى بلد سرور فبايعه أهلها، وسار الإمام ومعه الشيخ عبد الله إلى سمائم العليا [١٢] محاصرين السيد نادرًا. ثم إنهم لما لم يروا نتيجة إتعاب محاصرتهم حفروا سربًا أو نفقًا تحت الأرض على بعد ربع ساعة كذا ولعل في هذه الرواية غلوًّا عظيمًا ولا سيما لأن الأرض هناك ذات حجارة صلبة سوداء تكاد تكون كالحرة ينتهي إلى القلعة ونسفوا بالبارود شيئًا يسيرًا من الحصن ولم يصب أحد بضرر لا من المحاصرين ولا من المحاصرين لكن لما أعادوا الكرة وأخذوا ينسفون الحصن للمرة الثانية رجع مفعول البارود على جند الإمام وأهلك من قومه نفوسًا كثيرة. أما الشيخ عيسى فإنه أوغل في البلاد وبايعه أهلها وما زال يمعن فيها حتى وصل إلى بلد فنكا فأرسل السيد فيصل عليه جيشًا جرارًا وعند وصوله إلى بلد الخوث رجع على أعقابه وذهب إلى بلاد السيب بدون أن يرى العدو بل علم أن العدو قد احتل الخوث قبل أن يصل وبايعه أهله فحقق سعي جيش السيد فيصل، وأما جيش الإمام الذي كان قد احتل الرستاق فإنه تجاوزه وأمعن في البلاد حتى دخل العواني وفيها أبناء السيد فيصل وهما حمود وحمد، ومعهما السيد هلال والي بركة فلما رأوا صولة العدو فروا هاربين من القتل فأخذهم الإمام وأخرج منها العسكر الموجود فيها وامتلك الأسلحة المذخرة هناك وباعها للعشائر. واستمرت هذه المحاربة نحو أربعين يومًا، وفي الآخر رأى السيد فيصل أن لا طاقة له على مقابلة العدو فاستنجد بالإنكليز فأمدوه بست بوارج هائلة وبخمسمائة جندي، واعديه أن يساعدوه في كل ما يطلب، وأن لا يبعدوا في البر أكثر من مسافة ساعة وقد احتلت الجنود الانكليزية بعض القلاع وأخذوا يقاومون العدو أشد المقاومة وأصبحوا أصحاب الأمر والنهي في عمان. ولما قرت قدم الإنكليز في مسقط وفي سائر ديار عمان وأصبحوا فيها أصحاب الأمر والنهي نشروا فيها أجنحة الأمن والراحة والسكون، حتى إن أحد تلك الأرجاء كتب إلى جريدة الدستور البصرية: إن السكينة قد عادت إلى ربوعها بعد أن اتخذ الإنكليز جميع وسائل الحرب لصد العدو عن مهاجمتها لا بل شرعوا المذاكرة في أمور الصلح بينهم وبين الإمام الإباضي. فتبارك مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء اهـ بنصه. (المنار) نشر في جرائد مصر والعراق وسورية عدة مقالات في أخبار هذه الفتنة لم نر فيها أوفى من هذه المقالة المختصرة المفيدة، وإذا صح ما قاله الراوي من أن الشيخ عبد الله السالمي والشيخ عيسى بن صالح كتبا إلى السيد فيصل رحمه الله تعالى بما ذكر، وأنه أجابهما بما ذكر في ص ٩٤٢ فقد أعذرا إليه، واللوم عليه أكبر من اللوم على غيره، نعم إننا نعلم أنه صار مغلوبًا على أمره للإنكليز في حاضرة مسقط، وأنه لم يعد يستطيع منع المبشرين، الذين هم أصل كل فتنة في كل البلاد التي يحلون فيها فيفسدون على أهلها جامعتهم ويفرقون كلمتهم، ويمهدون السبل لإزالة استقلالهم إذا كان لهم استقلال، ولا منع المومسات والمسكرات بدون إذن الإنكليز، ولن يأذنوا بذلك. ولكنه لا ينبغي مع هذا أن يجيب بما قيل إنه أجاب به من الرضا بدعوة المسلمين إلى ترك دينهم الحق، وإباحة الفجور والفسق، وعدهما من الحرية التي لا يجوز تقييدها إذ لا يوجد في الأرض مملكة تبيح لكل أحد أن يفعل ما يشاء، غير مراعية استعداد الرعية ولا عواقب الأمور الأدبية والسياسية، ولا تهييج الأحقاد الدينية، فالإنكليز وهم أعرق الإفرنج في الحرية لا يبيحون للكاثوليك أن يظهروا شعائر مذهبهم في مثل عيد الفصح في لندره، ولا يسمحون للمبشرين من أهل دينهم ومذهبهم أن يدعوا إلى النصرانية جهرًا في جميع بلاد السودان المصري الإنكليزي، ويقال: إنه ليس في بلادهم مواخير علنية للبغاء. فهل كان السيد فيصل أوسع من الإنكليز حرية وسياسة؟ أم تلك الرواية عنه كاذبة؟ وإلا فأين الإسلام؟ وأين العقل والذكاء؟ إنني أستبعد جدًّا أن يكون الغرور بهذه الألفاظ التي يلوكها بيننا الإفرنج والمتفرنجون قد وصل حتى بمثل السيد فيصل إلى ذلك الحد الذي يدل عليه الجواب الذي عزي إليه، وعسى أن يكتب إلي نجله النجيب صديقي السيد نادر [١٣] ما هو الحق في هذه المسألة. وقد صرحت المقالة بأن الإنكليز قد احتلوا سواحل عمان كلها، وصاروا أصحاب الأمر والنهي فيها، فإذا صح الخبر فلا بد أن يعملوا كل ذلك باسم سلطان مسقط، ويسموا عملهم خدمة ومعاونة له، حتى لا ينفر منهم سائر أهل الخليج الفارسي من شيوخ العرب الذين يريدون الاستيلاء على بلادهم مثل لنجه ودبي بالفتح السلمي كاستيلائهم التدريجي على القسم الجنوبي من بلاد إيران، وأهل الشرق قد جُنّوا بالألفاظ فهم يعولون عليها، ويهتمون بها ما لا يهتمون بالحقائق. الآن أقول: إنني لما كنت في ضيافة السيد فيصل منذ سنة ونصف تقريبًا ورأيت حال حاضرته مسقط قلت له: إنني أتوقع أن ينصب قومك الإباضية إمامًا لهم ويخرجوا عليك باسم الدين، فأرى أن تجتهد في تلافي الأمر قبل وقوعه، وتتدارك الفتنة قبل اشتعال نارها، بأن تجمع كلمة قبائل عمان وتؤلف من شيوخهم مجلس شورى، وتجعل عاصمة المملكة في الجبل الأخضر، وتنظم أمور المالية، وتقيم العدل الشرعي في داخلية البلاد، ولا يضرك بعدها العجز عن بعض الأمور في حاضرة مسقط لمكان النفوذ الأجنبي فيها، وفصلت له القول في ذلك تفصيلا ولكني فهمت منه أنه ليس لديه من الرجال من يستطيع القيام بهذه الأعمال، ومن الغريب أن ما توقعته قد وقع بعد سنة فقط.