للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي


الفرق بين البدع
والمصالح المرسلة والاستحسان [*]

من مباحث كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي. وهو ما عقد له الباب الثامن
منه، قال رحمه الله تعالى:
هذا الباب يُضطرُّ إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة،
فإن كثيرًا من الناس عَدُّوا أكثر المصالح المرسلة بدعًا، ونسبوها إلى الصحابة
والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات. وقوم جعلوا البدع
تنقسم بأقسام أحكام الشريعة، فقالوا: إن منها ما هو واجب ومندوب، وعدُّوا من
الواجب كَتْبَ المصحف وغيره، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على
قارئ واحد.
وأيضًا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد
له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص، ولا كونه قياسًا
بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا بعينه موجود في البدع
المستحسنة، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية - في زعم واضعيها - في
الشرع على الخصوص.
وإذا ثبت هذا، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقًّا، فاعتبار البدع
المستحسنة حق؛ لأنهما يجريان من وادٍ واحد. وإن لم يكن اعتبار البدع حقًّا، لم
يصح اعتبار المصالح المرسلة.
وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه؛ بل قد اختلف فيه أهل
الأصول على أربعة أقوال: فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده؛ وأن
المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل. وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام
عليه على الإطلاق. وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم
يستند إلى أصل صحيح؛ لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة. هذا ما حكى
الإمام الجويني.
وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتب التحسين والتزيين لم يعتبر
حتى يشهد له أصل معين، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله؛ لكن
بشرط. قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. واختلف قوله في الرتبة
المتوسطة، وهي رتبة الحاجي، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه، وقبله في
شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله -: فالأقوال
خمسة، فإذاً الراد لاعتبارها لا يبقى له في الواقع له [١] في الوقائع الصحابية مستند
إلا أنها بدعة مستحسنة (كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في
الاجتماع لقيام رمضان: نعمت البدعة هذه) إذا لا يمكنهم ردها، لإجماعهم عليها.
وكذلك القول في الاستحسان فإنه - على ما [٢] المتقدمون - راجع إلى الحكم
بغير دليل، والنافي له لا يعد الاستحسان سببًا، فلا يعتبر في الأحكام ألبتة، فصار
كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها.
فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته
كان من الحق المتعين: النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء؛ حتى يتبين أن
المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر، بحول الله، والله الموفق
فنقول:
المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:
(أحدها) : أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في
إعماله؛ وإلا كان مناقضًا للشريعة، كشريعة القصاص حفظًا للنفوس والأطراف
وغيرها.
و (الثاني) : ما شهد الشرع بردّه، فلا سبيل إلى قبوله؛ إذ المناسبة لا
تقتضي الحكم لنفسها؛ وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي؛ بل إذا ظهر المعنى
وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذٍ نقبله؛ فإن المراد بالمصلحة
عندنا: ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا
يستقل العقل بدركه على حال: فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى؛ بل برده،
كان مردودًا باتفاق المسلمين.
ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين
فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما
خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى
الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين؟ فقال
لهم: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك وأعتق عبيدًا مرارًا، فلا يزجره
إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين.
فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والمَلك لا
يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفُتْيَا باطلةٌ؛ لأنَّ العلماء بين قائلين: قائل
بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام. فتقديم الصيام بالنسبة إلى
الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا، لكنه على صريح الفقه.
قال يحيى بن بكير: حنث الرشيد في يمين، فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه
عتق رقبة. فسأل مالكًا؛ فقال: صيام ثلاثة أيام. واتبعه على ذلك إسحاق بن
إبراهيم من فقهاء قرطبة.
حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء، وشاورهم في
مسألة نزلت به؛ فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائم [٣] ووطئها في
رمضان، فأفتوا بالإطعام، وإسحاق بن إبراهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين: ما
يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له: لا أقول بقولهم، وأقول بالصيام. فقيل
له: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: تحفظون مذهب مالك؛ إلا أنكم تريدون
مصانعة أمير المؤمنين. إنما أمر مالك بالإطعام لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال
له، إنما هو بيت مال المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه.
اهـ. وهذا صحيح.
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان
فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته. فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك صيام
شهرين متتابعين. فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من
عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام
والصيام؟ فقال لهم: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة؛
ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى -
رحمه الله - وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفًا للإجماع.
(الثالث) : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه.
فهذا على وجهين:
أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث،
فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه [٤] فإن هذه العلة لا عهد
بها في تصرفات الشرع بالفرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا
يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق. ومثل هذا تشريع من القائل به،
فلا يمكن قبوله.
والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره
الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح
المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.
ولنقتصر على عشرة أمثلة:
(أحدها) : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع
المصحف، وليس ثَمَّ نص على جمعه وكتبه أيضًا؛ بل قد قال بعضهم: كيف نفعل
شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فروي عن زيد بن ثابت - رضي
الله عنه - قال: أَرسل إليَّ أبو بكر - رضي الله عنه - مقتل (أهل) اليمامة،
وإذا عنده عمر - رضي الله عنه - قال أبو بكر: (إن عمر أتاني فقال) : إن
القتل قيد استحرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة [٥] وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء
في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن (قال)
فقلت له: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له،
ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا
نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن
فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك.
فقلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر:
هو والله خير. فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي
شرح له صدورهما. فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف [٦] ومن
صدور الرجال.
فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.
ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل
العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان:
يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود
والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أرسلي إلي بالصحف ننسخها في
المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت حفصة بها إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد
ابن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث
ابن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف. ثم قال للرهط القرشيين
الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم.
قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، بعث عثمان في كل أفق
بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها. ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في
كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
فهذا أيضًا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لا يحصل منها في
الغالب اختلاف؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات - حسبما نقله العلماء المعتنون
بهذا الشأن - فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما
عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان، وقال: يا أهل العراق، ويا أهل
الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن الله يقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ
بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} (آل عمران: ١٦١) وألقوا إليه بالمصاحف. فتأمل كلامه
فإنه لم يخالف في جمعه. وإنما خالف أمرًا آخر. ومع ذلك فقد قال ابن هشام:
بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم
رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعًا، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة،
والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن،
وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه [٧] .
وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها، إذا خيف
عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم.
وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل؛
لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مُغَفّلاً جدًّا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن
وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يُشفى الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي، ولم
أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في
جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو
فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن
ينتفع به واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين، إنه
ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته.
المثال الثاني
اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حد شارب الخمر ثمانين.
وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل. قال العلماء:
لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد مقدر؛ وإنما جرى الزجر
فيه مجرى التعزير. ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - قرّر على
طريق النظر بأربعين، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس
فجمع الصحابة - رضي الله عنهم - فاستشارهم، فقال علي رضي الله عنه: من
سكر هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري.
ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع [٨] يقيم
الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات، والمظنة مقام الحكمة؛ فقد جعل
الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال، وجعل الحافر للبئر في محل
العدوان وإن لم يكن ثَمَّ مرد كالمردي نفسه، وحرم الخلوة بالأجنبية حذرًا من
الذريعة إلى الفساد، إلى غيره من الفساد: فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي
تقتضيه كثرة الهذيان؛ فإنه أول سابق إلى السكران (قالوا) فهذا من أوضح الأدلة
على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها (يعني على الخصوص به)
وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم.
المثال الثالث
إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه: (لا
يصلح الناس إلا ذاك) ووجه المصلحة فيه أن أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم
يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو
لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما
ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق؛ وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك
بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة،
فكانت المصلحة التضمين. هذا معنى قوله: (لا يصلح الناس إلا ذاك) .
ولا يقال: إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء؛ إذ لعله ما أفسد ولا
فرّط، فالتضمين مع ذلك كان نوعًا من الفساد؛ لأنَّا نقول: إذا تقابلت المصلحة
والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت، ووقوع التلف من الصُناع من غير
تسبب ولا تفريط بعيد، والغالب الفوت، فوت الأموال، وأنها لا تستند إلى التلف
السماوي؛ بل ترجع إلى صُنع العباد على المباشرة أو التفريط، وفي الحديث: (لا
ضرر ولا ضرار) وتشهد له الأصول من حيث الجملة، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد، وقال: (دع الناس يرزق الله بعضهم من
بعض) وقال: (لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق) وهو
من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فتضمين الصناع من ذلك
القبيل.
... ... ... ... المثال الرابع
إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم. وذهب مالك إلى جواز السجن في
التهم، وإن كان السجن نوعًا من العذاب. ونص أصحابه على جواز الضرب،
وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن
بالتهم؛ لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب؛ إذ قد يتعذر إقامة
البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.
فإن قيل: هذا فتح باب تعذيب البريء [٩] قيل: ففي الإعراض عنه إبطال
استرجاع الأموال؛ بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررًا؛ إذ لا يعذب أحد لمجرد
الدعوى، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعًا من الظن.
فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته، فتغتفر، كما اغتفر
في تضمين الصناع [١٠] .
فإن قيل: لا فائدة في الضرب، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال.
فالجواب: إن له فائدتين، إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البيّنة لربه،
وهي فائدة ظاهرة، والثانية: أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام، فتقل أنواع
هذا الفساد.
وقد عد له سحنون فائدة ثالثة؛ وهي الإقرار حالة التعذيب؛ فإنه يؤخذ عنده
بما أقر في تلك الحال. قالوا وهو ضعيف، فقد قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع،
كما إذا أكره على طلاق زوجته، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به،
كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف، فإنه مأخوذ به. وقد تتفق له بهذه الفائدة على
مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به.
قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي أنه لا يقول بذلك: وعلى الجملة فالمسألة
في محل الاجتهاد. قال: ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع، فإذا وقع النظر في
تعارض المصالح، كان ذلك قريبًا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة.
المثال الخامس
إنّا إذا قررنا إمامًا مُطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك
المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم،
فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن
يظهر مال بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير
ذلك، كي لا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب. وذلك يقع قليلاً من
كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود.
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف
زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام
ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار.
وإنما نظام كله شوكة الإمام بعدله. فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع
عنهم الشوكة، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلاً عن اليسير منها، فإذا
عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم، فلا
يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول. وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر
في الشواهد.
والملاءمة الأخرى: أن الأب في طفله، أو الوصي في يتيمه، أو الكافل
فيمن يكفله، مأمور [١١] برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله إلى وجوه من
النفقات أو المؤن المحتاج إليها. وكل ما يراه سببًا لزيادة ماله أو حراسته من التلف
جاز له بذل المال في تحصيله.
ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل، ولا نظر إمام المسلمين
يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره.
ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة وإذا دعاهم الإمام وجبت
الإجابة، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة، زيادة إلى إنفاق المال، وليس
ذلك إلا لحماية الدين، ومصلحة المسلمين.
فإذا قدرنا هجومهم [١٢] واستشعر الإمام في الشوكة ضعفًا وجب على الكافة
إمدادهم. كيف والجهاد في كل سنة واجب على الخلق؟ وإنما يسقط باشتغال
المرتزقة، فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك.
وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم، فلا يؤمن من انفتاح باب
الفتن بين المسلمين. فالمسألة على حالها كما كانت، وتوقع الفساد عتيد، فلا بد من
الحراس.
فهذه ملائمة صحيحة، إلا أنها في محل ضرورة، فتقدر بقدرها، فلا يصح
هذا الحكم إلا مع وجودها. والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت
المال دخل ينتظر أو يرتجى، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه [١٣] الدخل
بحيث لا يغني كبير شيء، فلا بد من جريان حكم التوظيف.
وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه، وتلاه في تصحيحها
ابن العربي في أحكام القرآن له، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع
التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.
المثال السادس
إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات [١٤] فاختلف
العلماء في ذلك - حسبما ذكره الغزالي - على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في
أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه.
فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا
يلائم تصرفات الشرع مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات
البدنية بالسجن والضرب وغيرهما (قال) فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله فرد نعله
وشطر عمامته. قلنا: المظنون من عمر أنه لا يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف
المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية
وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال فرأى شطر ماله من فوائد الولاية، فيكون
استرجاعًا للحق لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد
الشرع. هذا ما قال. ولِما فعل عمر وجه آخر غير هذا؛ ولكنه لا دليل فيه على
العقوبة بالمال كما قال الغزالي.
وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان:
(أحدهما) : كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح، على أن
ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك، فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم
يكن بيت مال: إنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال
إليه ابن رشد. ورده عليه ابن النجار القرطبي، وقال: إن ذلك من باب العقوبة في
المال، وذلك لا يجوز على حال.
و (الثاني) : أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه،
فالعقوبة فيه عنده ثابتة. فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه:
إنه يتصدق به على المساكين قل أو أكثر. وذهب ابن القاسم ومطرف وابن
الماجشون إلى إنه يُتصدق بما قل منه دون ما كثر. وذلك محكي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء، ووجه ذلك التأديب
للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، ولكن من باب الحكم على الخاصة لأجل
العامة. وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلاً شرعيًّا، وذلك أنه عليه السلام
أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحُمُر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة
أيضًا من ذلك.
ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا فإنه يكسر
على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبًا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى
هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه
ما تقدم.
المثال السابع
إنه لو طبق الحرامُ الأرضَ، أو ناحيةً من الأرض يعسر الانتقال منها،
وانسدت طرق المكاسب الطيبة، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق - فإن
ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس
والمسكن؛ إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال، ولم يزل
الناس في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا، وفي ذلك خراب الدين. لكنه لا ينتهي إلى
الترفه والتنعم، كما لا يقتصر على مقدار الضرورة.
وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه، فإنه قد أجاز أكل
الميتة للمضطر، والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك من الخبائث المحرمات.
وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة، وإنما
اختلفوا إذا لم تتوال: هل يجوز له الشبع أم لا؟ وأيضًا فقد أجازوا أخذ مال الغير
عند الضرورة أيضًا. فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك.
وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطًا شافيًا جدًّا [١٥] وذكرها في كتبه
الأًولية كالمنخول وشفاء العليل.
المثال الثامن
إنه يجوز قتل الجماعة بالواحد. والمستند فيه المصلحة المرسلة؛ إذ لا نص
على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهو
مذهب مالك والشافعي. ووجه المصلحة أن القتيل معصوم، وقد قتل عمدًا،
فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى
السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقًا،
والمشترك ليس بقاتل تحقيقًا.
فإن قيل: هذا أمر بديع في الشرع [١٦] وهو قتل غير القاتل. قلنا: ليس
كذلك؛ بل لم يقتل إلا القاتل، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعي،
فهو مضاف إليهم تحقيقًا إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين في تنزيل
الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعًا مع ما
فيه من حفظ
مقاصد الشرع في حقن الدماء، وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة،
وقطع الأيدي في النصاب الواجب [١٧] .
المثال التاسع
إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة
الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضًا - أو كادوا أن يتفقوا - على
أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الاجتهاد. وهذا صحيح على
الجملة، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا على
إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين
وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين: إما أن يترك
الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج. وإما أن يقدموه فيزول الفساد به، ولا
يبقى إلا فوت الاجتهاد، والتقليد كافٍ بحسبه.
وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة؛ وهو مقطوع
به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد؛ فهذا - وإن كان ظاهره مخالفًا لما
نقلوا من الإجماع في الحقيقة - إنما انعقد على فرض أن يخلو الزمان من مجتهد،
فصار مثل هذه المسئلة مما لم ينص عليه، فصح الاعتماد فيه على المصلحة.
المثال العاشر
إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل: إن ردَّدنا في مبدأ
التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها؛ فيتعين تقديم المجتهد؛ لأن
اتباع الناظر علم نفسه له مزية على اتباع علم غيره، فالتقليد والمزايا لا سبيل
إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها.
أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد، وقامت
له الشوكة، وأذعنت له الرقاب، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع
الشرائط - وجب الاستمرار [١٨] .
وإن قُدِّر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية، وجميع شرائط
الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضهم لإثارة فتن واضطراب
أمور- لم يجز لهم [١٩] خلعه والاستبدال به؛ بل تجب عليهم الطاعة له، والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت في الإمامة تحصيلاً
لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وأن الثمرة المطلوبة
من الإمام تطفئة الفتن الثائرة؛ من تفرق الآراء المتنافرة. فكيف يستجيز العاقل
تحريك الفتنة، وتشويش النظام، وتفويت أصل المصلحة في الحال؟ تشوُّفًا إلى
مزيد [٢٠] دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد (قال) وعند هذا ينبغي أن يقيس
الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد، بما
ينالهم لو تعرضوا لخلعه والاستبدال به، أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة.
هذا ما قال [٢١] ، هو متجه بحسب النظر المصلحي، وهو ملائم لتصرفات
الشرع - وإن لم يعضده نص على التعيين.
وما قرره هو أصل مذهب مالك. قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟
قال: لا! قيل له: فإن كانوا أئمةَ جَورٍ؟ فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن
مروان، وبالسيف أخذ الملك؛ أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع
والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه.
قال يحيى: والبيعة خير من الفرقة (قال) ولقد أتى مالكًا العمريُّ فقال له:
يا أبا عبد الله بايعني أهل الحرمين، وأنت ترى سيرة أبي جعفر، فما ترى؟ فقال
له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلاً صالحًا؟ فقال
العمري: لا أدري. قال مالك: لكني أنا أدري، إنما كانت البيعة ليزيد بعده،
فخاف عمر إن ولى رجلاً صالحًا أن لا يكون ليزيد بدٌّ من القيام، فتقوم هجمة فيفسد
ما لا يصلح. فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك.
فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن
تقع فتنة وما لا يصلح، فالمصلحة في الترك.
وروى البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن
عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(يُنصب لكل غادر لواءٌ يوم القيامة) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله
ورسوله، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل
بيني وبينه.
قال ابن العربي: وقد قال ابن الخياط: إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كُرْهًا،
وأين يزيد من ابن عمر؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن
التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى. فخلع يزيد لو تحقق
أن الأمر يعود في نصابه.. [٢٢] فكيف ولا يعلم ذلك؟ وهذا أصل عظيم فتفهموه
والزموه ترشدوا إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))