للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدستور
وجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات

أعلن الدستور العثماني منذ بضعة أشهر فهتفنا له مع الهاتفين، ورحبنا به مع
المرحبين، وهمنا به سرورًا وشغفًا، وملأنا ديار مصر وسورية مقالات فيه
وخطبا. ولكن سرورنا به لم يكن سالمًا من كل شائبة، ورجاءنا فيه لم يكن خلوًّا
من كل مخافة، فقد أودعنا المقالة الأولى التي أنشأناها في الأسبوع الأول من إعلان
الدستور؛ ترحيبًا به هذه الجمل (راجع ص١٧م١١) .
(١) (فالواجب على هذه الجمعيات المدبرة، والقوى المنفذة، أن تكفل
الدستور الذي نالته الأمة، حتى تأمن عليه من دسائس أعوان الاستبداد الذين قاموا
بتنظيم حكومة الجواسيس أعظم قيام، وأول عمل يجب عليها هو السعي لإبعاد
أعوان الاستبداد عن دار السلطنة - لا عن دار السلطان فقط - ومحاكمة من يمكن
أن يسترد منهم العدل ما وهبهم الجور والظلم، وتشكيل وزارة حرة تقوم بأعباء
السلطنة، وتنتقي الولاة والمتصرفين والقضاة ورؤساء العدلية من أخيار الأحرار،
الذين يرجى أن تصلح بهم الإدارة ويستقيم القضاء، ويحفظ الأمن، ويستقر العدل
لتندفع الأمة إلى الأعمال النافعة في ظل الدستور الظليل، ثم العناية بأمر انتخاب
النواب) ... إلخ
(٢) (إذا نحن كفينا شر المستبدين الأولين، ونلنا وزارة من الأحرار
المستقلين، فالواجب علينا أن نقف عند هذا الحد من المطالب في العاصمة، وأن
تعود السيوف إلى أغمادها، وتنصرف الضباط إلى سابق شأنها، مع إحكام الروابط
الخفية بينها وبين الجمعيات السياسية، ويتوجه الأحرار إلى إصلاح حال المملكة،
بجميع الوسائل الممكنة، والحذر والحذر من عواقب نشوة الظفر، الحذر الحذر من
إهانة شخص السلطان والتسلق إلى عرشه بالبغي والعدوان، فما دام السلطان
مستويًا على عرشه فهو رئيس الأمة، ومرجع سلطتها، ومنفذ قوانينها وشريعتها،
والوزارة هي الواسطة بينها وبينه، فاعتداء المرءوس على الرئيس بإدلال القوة،
دون القانون والشريعة، مجلبة للفوضى ومدعاة للخلل، ويخشى في مثل الحال التي
نحن فيها أن يفضي إلى الخطر) ... إلخ
(٣) (إن أفضل ما نفاخر به الآن هو أننا نلنا الدستور من غير إراقة
الدماء، ولا إيقاع للبلاد في فوضى الثورة، ولا غير ذلك مما يذم ويكره، فيجب أن
نحافظ على هذه الفضيلة، وأن لا نرتكب في طلب الفرع، ما عصمنا الله في طلب
الأصل، عسى أن يكون تاريخنا في هذا الطور أنظف من تاريخ جيراننا فيه) .
(٤) (إن أمامنا عقبات كثيرة منها ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام
الظالمين للحرية؛ التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا، ويهيمون بها شغفًا،
ومنها ما هو أقرب إلى الوقوع: كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين المتعصبين
والمقلدين، ومنها مسألة تكون الجنسية العثمانية، وما يقع في طريقها من جنسيات
الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العلية) .
(٥) (الحق أقول: إنه لا يخشى علينا من سلب الحرية، وإنما يخشى
علينا من سوء استعمال الحرية، ومن الجهل بطرق المحافظة على الحرية، يخشى
أن تدفع الحمية بعض الأحرار الظافرين إلى مثل عمل المستبدين، وأن تهبط
العبودية الموروثة بكثير من الجاهلين إلى أن يكونوا عونًا على أنفسهم للحكام
الظالمين) .
هذا بعض ما كتبناه في حال السرور بإعلان الدستور في الأسبوع الأول من
إعلانه، وقد وقع جميع ما توقعناه وخفناه.
أخذت جمعية الاتحاد والترقي على نفسها كفالة الدستور وحفظه، فألفت لها
لجانًا، وأحدثت لها شعبًا في جميع بلاد السلطنة، وأبعدت أعوان السلطان عنه،
وسعت في محاكمة بعض المعروفين بالظلم منهم، وتداخلت في انتقاء الحكام
والعمال وانتخاب المبعوثين، انتدبت للقيام بكل ما قلنا إنه لازم واجب - لا لأننا
قلنا، بل لأنها تعلم ما علمنا - ولكنها لم تحسن العمل في كل ما تشبثت، فيتم
سرورنا بعملها.
سافرنا إلى الديار السورية، وزرنا أهم مدن الولايتين، ورأينا تصرف جمعية
الاتحاد والترقي فيها، وما كان من عمل (اللجنة المرخصة) التي أرسلتها من
سلانيك، فرأينا خللاً وخطلاً وسوء تصرف، كنا نعتذر عنه للناقمين عليها، حتى
إنه لم يوجد لديها من دافع عنها كما دافعنا، وليس تفصيل تصرفها في سورية من
موضوع هذا المقال الذي وضع لبيان الحال العامة.
ثم عدنا إلى هذه البلاد التي يعرف من فيها، ما لا يتيسرعرفانه لمن في سورية
فسمعنا ممن كانوا في الآستانة من العثمانيين الأحرار ومن غيرهم أمورًا منتقدة
فوق ما كنا نعلم، بل رأينا أكثر العثمانيين لاسيما الترك متغيرين عليها. وإننا نذكر
مجموع ما ينتقده الناس في مصر وسورية في موضوع مطالبنا التي أشرنا إليها آنفًا
وهو:
(١) إن سلوك الجمعية مع أعوان الاستبداد، لم يكن سلوك من يريد
القضاء على الاستبداد بإزالة نفوذ أهله وإخضاعهم للدستور، بل سلوك من اغتنم
الفرصة للاستفادة منهم، فقد كانت تأخذ المبالغ الكبيرة منهم، وتدعهم وشأنهم أو
تضمهم إليها، وقد حدثني الثقات من أهل الشام أن اللجنة المرخصة التي ذهبت لأجل
تحقيق في الحادثة التي جرت لي في آخر شهر رمضان، قد أخذت مبلغًا
عظيمًا من النقود باسم الإعانة للجمعية من رؤساء الفتنة وزعماء الاستبداد، الذين
بلغ من جنونهم في محاربة الدستور؛ أنهم تحدثوا بنصب خليفة في الشام يبايعونه
ويقاومون به الحكومة الدستورية.
(٢) إنها لم تحسن في انتقاء العمال والحكام، فقد ساعدت كثيرين من
أعوان الاستبداد حتى على الترقي في الوظائف، وأهملت شأن كثير من الأحرار
والمجربين، وقد كان أكبر رجاء لي في حكومتنا الجديدة: الإنصاف في اختيار
الموظفين من الأكفاء لاسيما المجربين في مثل مصر، ويتهمون الجمعية بأنها كانت
تبيع الوظائف العالية بالمال، والله أعلم بحقيقة الحال.
(٣) إنها جعلت هم لجانها في جميع البلاد النفوذ في الحكومة، لا مجرد
المراقبة عليها؛ لئلا تخرج عن القوانين، ولا مساعدتها على حفظ الأمن الذي اختل
بعد إعلان الدستور في جميع الولايات، كل ولاية بحسب درجتها في الأخلاق وحال
الاجتماع.
(٤) إنها لم تحسن الانتقاء والاختيار في تأليف شعبها ولجانها، فأدخلت
فيها كثيرًا من المتقهقرين أو الرجعيين، وعادت آخرين، ظهر في بعض لجانها
التعصب للجنس التركي، حتى كأن يكون الأعضاء من الترك هم أصحاب الشأن،
ومن معهم من غيرهم كالآلات. وقد سمعت كثيرًا من الشكوى في ذلك، فكنت
أدافع بالتي هي أحسن.
(٥) حمل الضباط في جميع البلاد على الاشتغال بالسياسة، وجعل نفوذهم
هو الأعلى في لجان الجمعية، وهذا خطر على الدولة، كان يجب التشديد في منعه
والاكتفاء بأن يكون بين الجمعية وبين الضباط صلة خفية كما قلنا، وانصراف كل
إلى عمله: الضباط إلى العمل العسكري المحض الذي لا شائبة فيه للسياسة،
والجمعية لمراقبة سير الدستور من غير مشاركة للضباط في ذلك، فإن ظهرت قوة
تسعى لإلغاء الدستور وإبطال مجلس الأمة أو الاستبداد والظلم، جاز حينئذ استنجاد
الجمعية بالضباط لمقاومة ذلك، وأنه لا يختلف عاقلان من علماء الاجتماع في
وجوب منع الضباط من الاشتغال بالسياسة والإدارة، حتى إذا أبوا أخرجوا من
الجيش، وفي كون الجند الذي يدخل في الثورة يكون خطرًا على الأمة، فإذا لم
يتيسر إصلاحه حالاً، وجب إخراجه من الجندية أو قتله.
(٦) تصرفها مع السلطان. انتقد عليها شيء منه، لا نحب الخوض فيه.
ولكننا نقول: إن الذين يرون أن السلطان هو روح الحركة التي وجهت في هذه
الأيام إلى إسقاط الجمعية، يقولون: لولا أنها أحرجته لما كان شيء من ذلك.
(٧) سيرتها في حمل الناس على انتخاب المبعوثين: رأيت بعيني ذلك في
طرابلس، وقد كنت أدافع عن الجمعية بقدر الإمكان؛ لئلا تشتد الفتنة ويستشري
الفساد.
(٨) طريقة تأييد نفوذ الجمعية في مجلس (المبعوثان) ؛ بما كاد يكون
مهددًا لسائر الأعضاء، سالبًا لاستقلالهم.
(٩) اتهمت الجمعية أيضًا بالتعصب للجنسية التركية، وينقلون عنها أمورًا
كثيرة في ذلك، وهو أخوف ما نخافه على مستقبل الدولة، وربما شرحنا ذلك في
مقال خاص.
(١٠) العبث باستقلال الوزارة، بحيث كانت الجمعية مانعة من وجود
وزارة مستقلة مسئولة أمام مجلس الأمة وحده عن عملها.
(١١) الجهل بمداراة الشعور الديني في الأمة، قد أظهر بعض أعضائها
المشهورين أمورًا منكرة في نظر الدين، جعلت لأعدائها مجالاً واسعًا للتنفير منها،
وقد اعترفت هي اليوم بهذا التقصير.
(١٢) ظهورها بمظهر السلطة المستبدة غير المسئولة، حتى صرت تسمع
من العثماني الحر والمتقهقر، ومن الأجنبي المتطرف والمعتدل، هذه الكلمة التي
أذاعتها الجرائد: إن جمعية الاتحاد والترقي قد أزالت استبداد المابين، وأدالت منه
استبدادها هي، وتفرع عن هذه الكلمة كلام كثير منه قول الكثيرين: إن استبداد
السلطان ابن السلطان ابن السلطان أهون علينا من استبداد أوشاب من الناس، لا
يُعرفون، فإن السلطان أشرف منهم، والذل له أقل عارًا من الذل لهم، وإرضاءه
أسهل من إرضائهم؛ لأنه شخص واحد يمكن أن يعرف ما يرضيه، ولا يعرف ما
يرضي هؤلاء الكثيرين.
هذا مجمل ما خطر في بالنا الآن؛ من أقوال الناس في جمعية الاتحاد والترقي
بعد ذلك الإجماع على الثناء في أول العهد بإعلان الدستور، فهل يعقل أن يكون كله
كذبًا واختراعًا من الجماهير المتفرقين في ولايات وممالك كثيرة؟ وإلا فما سبب
شيوعه، واللهج به في البلاد والممالك.
لم يحصل بعد الدستور شيء من السلطة يحمد إلا: هدوء الآستانة، وحسن
السير في حل مشكلتي البوسنة والبلغار، كان الفضل الأكبر في ذلك لكامل باشا.
ولكن الجمعية لم تلبث أن أسقطت كامل من كرسي الصدارة وغيرت وزارته؛ لأنه
كان معارضًا لنفوذها الفعلي في الحكومة، فانتقد ساسة أوربا هذا العمل، وعدوه
استبدادًا من الجمعية في الحكومة، وقال بمثل قولهم كثير في الدولة؛ لأنهم لم
يصدقوا أنه كان مضادًّا للدستور كما ادعت.
ثم قتل حسن بك فهمي رئيس تحرير جريدة سربستي غيلة، ففهم السواد
الأعظم في الآستانة وغيرها أن الجمعية هي التي قتلته؛ لأنه كان ينتقد أعمالها،
فامتد السخط عليها وانفجر بركانه، وكان بعض أعضاء الجمعية اقترح في مجلس
الأمة تقييد حرية المطبوعات، ونشر في أثناء ذلك مقال كامل باشا الذي بين فيه
سبب إسقاط الجمعية لوزارته، وما كان من شأنه وشأنها قبل ذلك، ولم تحسن
الجمعية التصرف في شأن حادثة قتل حسن فهمي؛ الذي عد قتلاً للحرية الشخصية
واستقلال الفكرة، فثارت الآستانة على الجمعية، وكان وراء هذه الثورة يوم دفن
حسن بك فهمي، فسقطت وزارة حسين حلمي باشا التي هي وزارة الجمعية، بعد
أن أهين لمروره بمركبته من حيث تشيع الجنازة، وعدم حضورها تبعًا لزعماء
الجمعية الذين لم يحضروها، وفر أعضاء الجمعية هاربين من الآستانة، وقتل
كثيرون من البرآء وجرح آخرون، ودمرت أندية الجمعية، وإدارات بعض
جرائدها، واستحوذ الرعب على أهل العاصمة، وخافوا من سوء العاقبة.
سواء صح ما قيل في الجمعية كله أم صح بعضه، فإن حسنتها التي لا
ينازعها فيها أحد: هي أنها هي التي أخذت الدستور باليمين فلا تهبه بالشمال، فهي
أحرص على حفظه وبقائه من جميع العثمانيين، وهو الآن كالطفل يحتاج إلى تربية
وكفالة، وله أعداء فيحتاج إلى دفاع وحماية، فإذا قيل: إن الحكومة المسئولة
ومجلس الأمة يقومان بتربيته، فهل يستطيع أحد أن ينكر اختصاص الجمعية بالقدرة
على كفالته؟ وهل جاءتها هذه القدرة إلا من الجيش؟
إذًا لا بد من بقاء الجمعية، ولا بد من بقاء صلتها بالجيش. ولكن لا يجوز
بحال أن تتداخل في أعمال الحكومة، ولا أن تعبث بحرية المجلس، ولا أن تدع
ضباط الجيش يشتغلون بالسياسة، ولا أن تقاوم من يخالفها في الرأي بالقوة، ولا
حاجة بها إلى ذلك في حماية الدستور. ولكن قد يشتهيه رجال من الجمعية؛ لأنه
من تمتع القادر المنصور.
لا يوجد في البلاد قوة يمكن أن تقف في طريق الجمعية إلا قوة السلطان في
العاصمة، وقوة عصابات الأشقياء في بعض الولايات. فأما العصابات فيمكن
تذليلها بالقوة ولو بعد حين. وأما السلطان فإنه بنفوذه المعنوي المصبوغ بلون الدين
وبأعوانه الكثيرين، وبماله الكثير، وبدهائه العظيم، يمكنه في كل وقت أن يعمل
عملاً كبيرًا، فهو أخوف ما يخاف على الدستور. إذا لم يخلص له، وللناس فيه
رأيان: أحدهما: إن إزالته من أمام الدستور ضرورية؛ فإن خطره دائم بدوامه.
وثانيهما: إنه يمكن أن يؤمن خطره بأمور ترضيه، كلها ترجع إلى أن يرى ما صار
إليه خيرًا مما كان فيه، ولا يتم ذلك إلا بتأمينه على نفسه ومنصبه، وتحامي جرح
وجدانه ولو مع إبعاد رجاله المدبرين للحكم السابق عنه، ولكن الجمعية جرحته
جروحًا نغارة، وأخرجت من قصره الحرس الذي يركن إليه، ويظن أن حياته
متوقفة عليه، فهل تطيب لها بعد ذلك نفسه، ويطمئن إليها قلبه؟ أم لا بد له من
الكيد لها، والسعي للانتقام منها؟
***
الجمعية المحمدية
وافتنا أنباء الآستانة وأنا في سورية: بأنه قد ظهر فيها جمعية جديدة سميت
بالجمعية المحمدية، غرضها المطالبة بالحكم بالشريعة وتطبيق القوانين عليها، فما
وجدتني مرتاحًا لهذا النبأ على أني قد وقفت نفسي على الدعوة إلى الإسلام والدفاع
عنه، والتوفيق بين أحكامه ومصالح البشر في كل طور من أطوارهم مهما ارتقت.
وما ذاك إلا لأنني خفت أن يكون الغرض الباطن منها محاربة الدستور باسم الدين،
كما أن نفسي لم تكن مرتاحة لجمعية الإخاء العربي - وأنا من صميم العرب -؛
لأنني خشيت أن تكون مفرقة بين العرب والترك، ومحركة للعصبية الجنسية التي
أخاف على الدولة شرها، وكنت أصرح برأيي بذلك في كل محفل ومقام.
سألني الأمير شكيب أرسلان عن رأيي في الجمعية المحمدية، ونحن في ملأ
بنادي الاتحاد العثماني ببيروت، فقلت: إن خوفي منها غالب على رجائي فيها،
فإن كانت تطالب مجلس الأمة بأن يأخذوا قوانين الدولة كلها من كتب الحنفية
بالشروط المعتمدة عندهم في الفتوى، فهذا حرج عظيم، وما أظن أن مؤسسيها في
درجة من الارتقاء يطلبون فيها المحافظة على أصول الإسلام الثابتة من الكتاب
والسنة، والاكتفاء بعدم الخروج بالقوانين عنها، بل لا أرى أنهم يرضون بذلك،
وإنني أقول: إنه ليس في ديننا شيء ينافي المدنية الحاضرة المتفق على نفعها عند
الأمم المرتقية إلا بعض مسائل الربا، وإنني مستعد للتوفيق بين الإسلام الحقيقي،
وكل ما يحتاج إليه العثمانيون لترقية دولتهم مما جربه الإفرنج قبلهم وغير ذلك.
لكن بشرط أن لا ألتزم مذهبًا من المذاهب بل القرآن والسنة الصحيحة. وأرجو أن
يكون ذلك مقبولاً عند جميع العناصر العثمانية؛ إلا المقلدين المتعصبين لمذاهبهم من
المسلمين، فأورد عليَّ بعض الحاضرين مسألة الشهادة، فأجبته بما أقنعه وأقنع
غيره من الحاضرين.
وقع ما كنا نخاف وأكثر، وظهر أن هذه الجمعية هي التي قامت بالفتنة
الحاضرة في الآستانة، حتى إنها استمالت العسكر الذي جاءت به جمعية الاتحاد
والترقي من سلانيك؛ لتحافظ به على الدستور، وعسكر الأسطول أيضًا، ولا غرو
فباسم الدين تقدر أن تستميل جميع عسكر الدولة، إن هي أدلت بخراطيمها إليه.
وتفيد أخبار الآستانة أن قائدها في هذه الفتنة هو مراد بك الداغستاني الشهير؛ الذي
كان من زعماء جمعية الاتحاد والترقي من بضع عشرة سنة، فخانها مع الخائنين،
وسلم أوراقها للسلطان، ورضي بأن يتقاضى منه مالاً على ذلك، بعد أن كان من
أشد المبالغين في الطعن فيه والتحريض عليه. وبعد الانقلاب طلب أن يدخل في
الجمعية؛ لما رأى من نفوذها (وهو كالدنيا مع القائم) فأبت عليه، فحاول الانتقام
منها وإحباط عملها. فهكذا يكون الرجال المصلحون! !
***
جمعية الأحرار
كان جميع طلاب الإصلاح من العثمانيين يلقبون بالأحرار، ثم تألف حزب
في الآستانة سمي بحزب الأحرار، وصار له جمعية خاصة به، والمشهور أن هذا
الحزب على رأي صباح الدين أفندي سبط آل عثمان الشهير فيما يعبر عنه بعدم
المركزية، كما نوهنا بذلك من قبل، فهو حزب سياسي لا خطر منه إن كان ظاهره
وباطنه سواء، وإن كانت ولايات الدولة غير مستعدة لأن تكون على رأيه برمته،
وكم في أوربا من حزب يدعو إلى رأيه سنين طويلة، ولا يضر الأمة مخالفته لرأي
السواد الأعظم ولسائر الأحزاب فيها. ولكن جمعية الاتحاد والترقي تشتد في مقاومة
هذا الحزب، حتى إنها اتهمت بقتل محرر جريدة سربستي كما علمت، وذلك غلو
كان من أسباب الفتنة الحاضرة، وهو قد اتهم أيضًا بالسعي في إسقاطها، ومن
الناس من يتهم بعض رجاله بمقاومة الدستور وما لنا وللتهم، فقد اتهم أحمد رضا بك
بمشايعة السلطان على هدم الدستور أيضًا.
***
الثورة العسكرية والفتن الداخلية
بعد كتابة ما تقدم، علمنا أن شيطان الاستبداد تمكن من إحداث ثورة عسكرية
في الآستانة، غرضها الظاهر إبادة جمعية الاتحاد والترقي، ويخشى أن يكون
الباطن محو الدستور وإعادة الاستبداد الماضي، على أن إسقاطها يعيده بالطبع.
وقد فر رجال الجمعية من الآستانة، ولجأوا إلى مركز قوتهم في سلانيك ثم زحفوا
بجيشهم على الآستانة؛ ليحكموا السيف والمدفع في الأمر، فنسأل الله لهم التوفيق
والنصر، وأن يحفظ الدولة من الخطر، وقد ولدت الثورة بالعاصمة فتنة في ولاية
أطنه، فهب الترك لذبح الأرمن، وهو عمل يتبرأ الإسلام منه ومن فاعليه. ولكنه
لا يسلم معه من طعن الأمم فيه، فبهمجية هؤلاء الأقوام صار المسلمون حجة على
الإسلام.