مفاسد الطاغوت بعد ادعائه للخلافة: ذكرنا في الفصول السابقة بعض الحقائق عن سلب الملك حسين أموال أهل الحجاز والحجاج والظلم في الحرم , وفقد الأمن بين الحرمين التي جاءتنا من أخبار موسم الحج (سنة ١٣٤١) , وقلنا: إنه قد صرح في أثناء السنة الماضية قبل موسمها بانتحاله لمنصب الخلافة، فصار خطره أشد، والسعي لتلافيه أوجب، وذلك أن الرجل كلما كبرت مطامعه وتنفخ وانتفخ في مظاهره، يزداد احتياجه إلى النقود، ولا مستغل له إلا الحجاج وأهل الحرمين؛ لأن الإنكليز منعوه ما كانوا يعطون، ولا بد من مورد غزير يقوم بنفقات الجمع بين عظمة الملك وفخفخته، وإخضاع أمراء العرب المنكرين لإمبراطوريته وخلافته، ونشر دعاية الخلافة ومقاومة خصومها في الشرق والغرب إلى أن تستقر وتكون مستغلاًّ جديدًا؛ وما هي مستقرة أو يهلك العرب والمسلمون، فخصومه في الملك والسلطان أمراء جزيرة العرب المستقلون، وكل واحد منهم يفوقه قوة وإدارة وعدلاً، وخصومه في الخلافة الشعوب الإسلامية ماعدا بعض أهل فلسطين وسورية والعراق من المنتفعين بماله، والراجين لنواله، أو المخدوعين بدعايته ودعاية رجاله، أو المتلذذين بنكاية فرنسة، والخائفين من شماتة جيرانهم من النصارى الذين عادوا ولده فيصلاً في تلك الأيام، التي كان المسلمون فيها سكارى بخمرة الأوهام، أو عائشين في غمرة من أضغاث الأحلام، على أن هؤلاء الأنصار يقلون عامًا بعد عام؛ لأن جناياته ظهرت للخواص والعوام، وطفقت تتبرأ منه الجماعات والأحزاب كالأفراد. كان هذا الرجل المفتون بالألقاب الضخمة والمظاهر الفخمة أميرًا للحجاز، وكان بدو البلاد كحضرها يخضعون له، ويخشون بأسه، ويقبلون حكمه لعلمهم بأن وراءه دولة يرجى برها، ويخشى ضرها، وقد صلي نار الحرب العامة باسم العرب، وهو لم يعمل ولا يعمل ولن يعمل إلا لنفسه وولده، ولم يكن إلا متجرًا بالعرب وبلاد العرب، وبدين الإسلام أيضًا كما ظهر واتضح لغير العميان المنكوسين من البشر، استبد بالأمر وحده على جهله وعجزه، فأضاع الفرصة التي سنحت لاستقلال العرب واتساع ملكه، ولم ينل شيئًا من مطامعه الواسعة لنفسه، بل لم يبق له من إمارة الحجاز إلا هذه المدن والقرى المعدودة على الأصابع , وأما القبائل القوية فليس له عليها من سلطان. ولكن افتتانه بعظمة الملك وفخامة الألقاب، وغروره بالوعود الشيطانية والأماني فيما يسميه (الحسيات النجيبة للعظمة البريطانية) جرآه على تسمية نفسه: ملك العرب وصاحب البلاد العربية، وصار يمتع نفسه بما تصبو إليه من عظمة الملك الصورية، فأحدث أوسمة ورتبًا متعددة. تصدر جريدته (القبلة) آونة بعد آونة , وفي صدرها إما عنوان (توجيهات) الذي كان يعهد في الجرائد العثمانية الحميدية، وتحته: وجه وسام النهضة أو وسام الاستقلال العلي الشأن إلى فلان، ووجه ٠٠٠ إلى ٠٠٠ وإما نبأ من أنباء القصر العالي , ومن تشرف بتقبيل أعتابه، حتى إن أولاده يقبلون فيما يكتبون إليه الأعتاب، ويعبر أحدهم عن نفسه بخادم تراب الأقدام (؟ ؟) ولم يدع سيئة من سيئات عبد الحميد إلا وتقلدها، حتى إذكاء الجواسيس على رجال حكومته وأولاده، دع غيرهم من الناس الذين قد يعذر بعدهم أعداء له؛ لأنه لهم عدو مبين , وقد حمله ادعاؤه هذا الملك، وافتتانه به إلى ما تقدم بيانه من مصارحة جميع أمراء جزيرة العرب بالعداوة، وإنذارهم إسقاط إمارتهم وضمها إلى ملك البلاد العربية كلها. كان هذا بعض شأنه، على ضعفه وعجزه، وخيبة آماله في (العظمة البريطانية وحسياتها النجيبة) - إلا أن يقال - ولا يعوز الدليل من قال: إنه لا يقنط من رحمتها، ولا ييأس من روحها. فإنه تبرأ من رحمة الله، إن كان يقبل بقرار الدول كلها أضعاف ما تعطيه هي إن لم يكن بواسطتها؛ فماذا ينتظر من غروره وطمعه وعنجهيته وكبريائه , وقد ادعى الخلافة العربية، وطفق ينشر في جريدته الكاذبة الخاطئة دعاوى مبايعة جميع الشعوب الإسلامية، (لصاحب الجلالة الهاشمية، أمير المؤمنين، وخليفة رسول العالمين، المنقذ الأعظم) كقولها: (مبايعة أهل مصر، مبايعة بلاد جاوه، مبايعة بلاد السودان) إلخ. إلا أنه لا ينتظر من بعد هذا إلا الإسراف في الظلم، والإلحاد في الحرمين الشريفين، وتثقيل الغرامات على الحجاج، وبث الفساد السياسي في سائر بلاد العرب، وتمكين النفوذ الأجنبي فيها، ومقاومة الإصلاح , ونشر الخرافات في العالم الإسلامي كله. وقد أخرنا إتمام هذا الخطاب في العام الماضي؛ لنقف على ما يكون له من التأثير في عمله بعد لقاء أنصار وأصحاب الآمال فيه بزيارته لشرق الأردن , ثم بعد تنحله لمنصب الخلافة، حتى تكون النتيجة من خطابنا هذا بعد استيفاء المقدمات، فجاءتنا أخبار موسم الحج الأخير (سنة ١٣٤٢) بشر مما نشرنا خلاصته في أوائل هذا الخطاب من الإصرار على ما تقدم أو الزيادة عليه، وشرها قطعه لماء عين زبيدة في يوم عرفة؛ لأجل أن يبيع أعوانه الماء المدخر بأغلى الأثمان , واتفق أن كان حر الصيف شديدًا حتى في البلاد المعتدلة، فكان موقف عرفة كموقف الحساب يوم القيامة، شغلت شدة الحر وشدة الظمأ أكثر الناس عن أداء العبادة براحة وحضور قلب، ومات ألوف من الناس في عرفات وفي الطريق بينها وبين مزدلفة فمنى فمكة. أخبرنا الكثيرون من الحجاج بذلك، ونشره بعضهم في الجرائد، وقالوا: إن قربة الماء قد صارت تباع بعشرين قرشًا أو ثلاثين قرشًا في الغالب , واشتراها بعض الأغنياء بأكثر من ذلك. ومن الشواهد على الإفساد السياسي ما نقله الجرائد من إرسال دعاته إلى عدن وبلاد الشافعية من تهامة اليمن؛ ليأخذوا له البيعة، ويخدعوا الناس بأن خليفة المسلمين وملك العرب سيجعل أمرهم بأيديهم، وحكامهم من أهل مذهبهم، وإدارتهم كما يرغبون ويقترحون، وهذا موافق لتفسيره الرسمي للوحدة العربية , الذي بيناه في الوثيقة الخامسة المتعلقة بالجناية الثانية من هذا الخطاب. وقد تثبتنا في نشر هذه المفسدة، فكتبنا إلى اليمن بالسؤال عن ذلك , فجاءنا نبأ رسمي لا شك فيه بتأييد الخبر. ومن الشواهد على مقاومة الإصلاح ونشر الخرافات , وتحكم الجهل في العلم والدين ما قرأناه في أنباء الحجاز من جريدة المقتبس الدمشقية من تصدي الخليفة (خليفة الشيطان) لاستخدام مجلس شورى الخلافة الذي استحدثه؛ لمنع انتشار الكتب والرسائل التي اشتهرت في بلاد جاوه من قبل الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا، كما منع من قبل ذلك كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرها من الكتب القديمة التي لا توافق هواه، ولا نقول: رأيه أو فهمه؛ إذ هو عامي لا رأي له ولا فهم في علم ولا دين. ثم أخبرنا أحد علماء الأزهر الذين حجوا في الموسم الأخير، أنه علم من الثقات في الحجاز أن حسينًا كلف بعض علماء حكومته ومجلس شورى خلافته - كتابة فتوى , يطعنون فيها بالشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا صاحب المنار؛ تبعًا لتهم دونها في الأسئلة الذي كلفهم الجواب عنها، فكتبوا له ما لا يرضيه تمام الرضا؛ لأن ما يرضيه يغضب الله تعالى واتقوا شره بأن كتبوا أنهم لم يطلعوا على شيء من كتب الشيخين المذكورين مشتملة على ما ذكر في الاستفتاء هذا ملخص الخبر بالمعنى. *** علاوة من روايات الحجاج في ظلم حسين في الحرمين الشريفين: عهدنا إلى أحد علماء الأزهر الذين ذهبوا إلى الحجاز في الموسم الأخير أن يستقصي لنا أعمال هذا الطاغوت , وذكرنا له بعض الثقات الذين يعرفون هذه الحقائق , ولا يبخلون بها على من يثقون بأمانته، ويأمنون شر سعايته، فجاءنا بمسائل كثيرة. ثم جاءنا بيان آخر من بعض سكان المدينة المنورة الذين حضروا موسم الحج الأخير أيضًا , فنلخص البيانين؛ لإطلاع العالم الإسلامي عليهما، ودعوته إلى القيام بما يجب عليه من العمل لمهد الإسلام، وحرم الله تعالى وحرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وخدمة للتاريخ الخاص والعام. ملخص ما جاء به العالم الأزهري من مكة: (١) صدرت أوامر الملك حسين بمنع مشتري الأعشاب قبل أخذ ما يلزم لحيواناته , فتجاسر أحد التكارنة , واشترى، فقبض عليه، وسجنه عامًا واحدًا , وقال: إنه سجنه بمقتضى الوجه الشرعي من الكتاب والسنة. فاستفتى أبو المسجون المفتين الأربعة بمكة، فأفتوه أنه لا يستحق الحبس شرعًا , فأطلع الملك عليها فغضب وقال أنه يخالف الشرع ولا يطلقه من الحبس , وصار يكرر قوله: أشهد أني أخالف الشرع في أحكامي. (٢) في شعبان سنة ١٣٤٢ اشتكت فتاة امرأة من موالي الشناقطة أحد موالي العربان بأنه اغتصبها بعد أن تهددها بالقتل في طريق الرصفة , وهو حمى الملك الذي لا يدخله سوى جماله، وأي حيوان يدخله يصادر- وقد وصفت الفتاة المتهم , فقبض الملك على غيره من المغضوب عليهم، فقطع يده ورجله من خلاف من غير أن تراه الفتاة , وتشهد أنه هو الجاني، وهذا حكم الشرع. (٣) جعل رسمًا على كل جمل وحمار وبغل يجيء من جدة إلى مكة - نصف جنيه إنكليزي وريالين مجيدين , ومن مكة إلى عرفات نصف جنيه إنكليزي , ومن مكة إلى المدينة ثلاثة جنيهات: جنيهًا برسم الحكومة والخزينة الخاصة. (٤) لأجل جمع الإعانات من الحجاج؛ وضع في مجاري عين زبيدة أكياسًا من الرمل فوق عرفة بقليل , وذلك قبل يوم عرفة فلم يأت وقت الظهر حتى نضب الماء من حياض عرفة , ونشأ عن ذلك عطش شديد جدًّا , مات بسببه خلق كثير من الفقراء , ولما ظهر سره امتنع عن جمع الإعانة , وعلى ذلك أدلة: (منها) أن الماء كان فوق عرفة طافيًا في الآبار على وجه الأرض , حتى كان من أخبر بذلك من العرب يملأ بيديه من غير دلو ولا رشاء. (ومنها) أننا عند نزولنا إلى منى وجدنا الماء فيها كثيرًا , وما كان غلاء ماء منى إلا من توهم الناس أن الماء مقطوع مما جرى لهم بعرفة. ولكن الذي كان يشاهد الآبار بنفسه وهي تجيش بالماء الغزير يعلم الحقيقة. (ومنها) أنه قبل خروج الناس إلى عرفة بأيام , طلب من مطوفي الجاوه والهنود جمع حجاجهم له في الحرم؛ ليكلمهم في أمر مهم. ثم قال للمطوفين: تدرون هذا الأمر؟ فقالوا: لا. فقال: لأجل جمع إعانة لتصليح عين زبيدة. (٥) طريقته في جمع الإعانة للعين: أن ما زاد على عشرين جنيهًا يوضع في صندوقه الخاص , وما نقص عنها ففي صندوق العين , وإذا احتاجت العين للتعمير لا يعطيها شيئًا , وإذا طلب من صندوقه للحاجة يغضب. وحصل ذلك مرة، فغضب وحاسب أمين الصندوق , وعطل أعمال لجنة العين أحد عشر شهرًا. وبعض الحجاج لجهل أو غفلة أو حب رياء وظهور , يدفعون له مباشرة ما يتبرعون به , فيكون خالصًا له، والمعروف منه لا يقل عن ٥٠٠ جنيه. (٦) عند مبايعته بالخلافة في عمان وصلت منه برقية لقاضي القضاة بمكة بأنه إذا امتنع أحد عن البيعة يقتل رميًا بالرصاص. (٧) لما وصلت الكسوة من مصر أغرى بعضهم أن يحضروا له بعض المصريين؛ ليقولوا له: إنه بلغهم أنه يريد رد الكسوة , وأنه سيكسو الكعبة من عنده كما كساها في العام الماضي , وأن يسترحموا جلالته ويرجوه عدم ردها ويلحوا عليه في ذلك، فيقبل رجاءهم. وأظهر للناس أنه في غنى عن كسوة مصر ولولا إلحاح المصريين لم يقبلها , والكسوة التي جاء بها في العام الماضي ثمنها ٣٠٠ جنيه وهي من الصوف القيلان , وكانت عند ما دخلنا مكة باهتة وشكلها في غاية الكآبة. (٨) كان حول المسجد الحرام ميضأة من أوقاف سلاطين مصر والأتراك فهدمها , وجعل محلها دكاكين ملكًا له , وصار الناس يبولون في الشوارع، ويتوضؤون على أبواب المسجد الحرام , ورأيت بعيني ناسًا كثيرًا يفعلون ذلك. (٩) أمر أن لا يتجاوز الحمل ٢٠ أقة , والجمل يستطيع حمل ٧٠ فأكثر، فصار أكثر الحجاج يضطر لترك كثير من حاجاته في جدة. وهو يدعي أنه فعل ذلك شفقة على الجمال، والحق أنه أراد كثرتها لأجل المال , ومن جراء ذلك تعطل في العام الماضي عدد غير قليل عن الحج , وفاتهم يوم عرفة وهم بجدة ينتظرون عودة الجمال , التي رحلت بهذه الأحمال الخفيفة. (١٠) أنه يأخذ من أصحاب الخيام المعدة للأجرة ما يحتاج إليه لإكرام ضيوف منصبي الملك والخلافة بغير أجرة (وذكر الكاتب حكاية طويلة سمعها من رجل كردي فقير , كلفه الملك الخليفة الإتيان بخمس خيام , فاعتذر بفقره وغربته، فوضعه في سجنه الذي سماه هذا المسكين جهنم , ووصف ما فيه من السلاسل والأغلال ٠٠٠ ثم افتداه بعض الموسرين باستئجار الخيام المطلوبة له، ولكن لما آن وقت إرجاعها بعد عرفة أرجعوا ثلاثًا واغتصبوا اثنين. (١١) إذا حكمت المحكمة الشرعية حكمًا , وصدق عليه قاضي القضاة والتدقيقات الشرعية، ووسط المحكوم عليه واسطة أو رشوة أو نفاقًا أو تجسسًا أو إطراءً - انعكست القضية وأصبح المحكوم عليه محكومًا له , وهذا الباب مفتوح للجميع , وبعد قليل يصل الآخر إلى ما وصل إليه المحكوم عليه , فتنعكس القضية مرة ثانية , وبعد مدة تنقلب أخرى، وهلم جرًّا. (١٢) القاضي لا يحكم إلا بأمر الملك، وحجته أنه هو الذي ولاه فكيف يحكم بغير أمره واستحسانه , وإذا شهد شاهد فتزكيته أن يكون مخلصًا لسيدهم وبذلك يكون أعدل الناس , ويقوم مقام اثنين وأكثر. (١٣) كان على سواري المسجد الحرام كتابات من قبل سلاطين مصر وتركية وغيرهما بإبطال المكوس بمكة والمدينة , فطمس الكتابة بالجير , ولكنها لا تزال ظاهرة الأثر. (١٤) إذا أراد اغتصاب قطعة أرض من صاحبها؛ تذرع بالطرق العامة وأنه يريد أن يفتح طريقًا أو يوسعه، فيكره صاحب العقار على تركها له في مقابل شيء لا يذكر , ثم يأخذ الملك منها قطعة صغيرة للطريق , والباقي يبنيه لنفسه بيوتًا ودكاكين، وبهذه الطريقة صار له عقار كثير جدًّا. وإنما يأخذ ذلك باسمه بناءً على فتوى من القضاة بأن التمليك للحكومة لا يصح؛ لأنها هيئة , وإنما يصح لشخص بعينه. (١٥) إذا اضطر أحد الأعيان - من شدة تضييقه عليهم - إلى عرض بعض الحلي والجواهر للبيع , فللشريف دلال مخصوص , لا يمكن أن يباع شيء من ذلك حتى يعرض عليه , وهو يأخذها بأبخس الأثمان لحساب سيده بعد أن يحذر الدلالين من المساومة فيها والمزايدة. (١٦) إذا ورد رقيق يأخذ لنفسه الوصائف والغلمان الحسان بأبخس ثمن، فإذا تظلم النخاس يقال له: هذه عشور الحكومة التي تحافظ عليك من قناصل الدول. ومرارًا طلب قنصل الإنكليز تسليم النخاسين من رعاياهم ورعايا الحكومة الإيطالية , فلم تسلمهم الحكومة. (١٧) كان له دار في المسعى , جعلها مدرسة بعد أن جمع لها إعانات كثيرة , وسلب الأوقاف من أهلها وحبسها على المدرسة , وشرط لها شروطًا تجعل المدرسة في أي وقت عرضة للإغلاق وطرد المدرسين والطلبة، ويرجع بناءها لملكه الخاص يؤجره , وزاد أن ضم الأوقاف الكثيرة إلى ملكه أو أوقافه أيضًا. (١٨) أسس شركة تجارية سماها (الشركة الوطنية) رئيسها أحد صنائعه يدعى عبد الوهاب قزاز , ولا مال لهذه الشركة , وإنما رأس مالها ما تأخذه من التجار من البضائع بالطريقة الآتية: إذا وصلت البضائع إلى الجمرك , فللملك عمال هناك يعرفون البضائع الرابحة , فيحجزونها على اسم الشركة، وترسل إلى مكة في أول قافلة , وتمنع البضائع الأخرى من الخروج حتى تباع هذه كلها , وبعد ذلك يسمح للبضائع الأخرى بالخروج إلى مكة، والبضائع التي أخذتها الشركة هي من أموال التجار , ولكن لا يدفع ثمنها إليهم إلا بعد بيعها بأشهر، ونادر جدًّا أن يدفع الثمن كله. وهذه الشركة تخلط الزيت مع السمن , والماء مع الغاز , وتتطفف الكيل والميزان وقد صار الآن رأس مالها عظيمًا , وهي ملك خالص للشريف لا شريك له فيها. (١٩) يقول دائمًا: (جوِّعْ كلبك يَتبعك) فلذلك تراه دائمًا ضد التجار ويسعى في معاكستهم , وفي كل شهرين أو ثلاثة يزيد رسم الجمرك، والغرامات عظيمة , والبضائع متراكمة بدون بيع؛ لأنه لا يسمح لهم إلا بالكاسد بعد أن يبيع هو ما انتقاه من بضائعهم، وإن دام هذا الحال على التجار فعاقبتهم الإفلاس حتمًا. وكذلك يضيق على العربان أولاً: في بيع ما يجلبونه إلى مكة من غنم وغيرها، فلا يأذن لهم أن يبيعوها إلا بالسعر الذي يسمح لهم به، ولا يسمح لهم بشراء الطعام إلا بمقادير قليلة جدَََّا، فمن طلب أرزًّا أو دقيقًا لا يعطى إلا الربع , ومن طلب ثوب قماش لا يسمح له إلا بالربع , حتى أصبح العربان في ضيق شديد وضنك من العيش , حتى قال بعضهم: إنه يمنعنا طعامنا الذي نأخذه بدراهمنا , حتى صرنا نهرب من الضيوف؛ لأننا لا نجد ما نطمعهم بعد أن كنا في كل ليلة نذبح الخرفان ونطبخها بالأرز , وثانيًا: في أجور جمالهم للحجاج والقوافل لأجل سمسرته كما تقدم. وقصده من كل ذلك جعل جميع الناس فقراء؛ حتى يتبعوه، ويجند منهم من يشاء بمرتب عشرة ريالات مجيدية؛ ليقاتل بهم ابن السعود والإمام يحيى والإدريسي. (٢٠) سبب منع العربان للحجاج من زيارة المدينة المنورة إلا بجعل يأخذونه منهم - أنه كان لقبائل حرب منذ القدم مرتبات من الدول الإسلامية وآخرها الدولة العثمانية (٤٠) ألف جنيهٍ سنويًّا في مقابل أمن الطرق وحفر الآبار وإحضار الحطب والماء للحجاج في الطريق ومحطاتها , ولما ثار الشريف على الدولة العثمانية كان يعطيهم إياها للاستعانة بهم على فتح المدينة بعد حصارها , فلما فتحت المدينة بالهدنة قطع تلك المرتبات , وصار العربان من حرب وغيرهم يتعرضون للحجاج في طريق المدينة , ويأخذون من كل شخص جنيهين فأكثر، وفي كل سنة يكون عدد الزائرين (٣٠) ألف جمل أو يزيدون , ثم ما اكتفى بقطع المرتبات , بل صار يجعل أجرة الجمل من مكة أو جدة إلى المدينة (١٦) جنيهًا يأخذ منها (٦) لنفسه وللحكومة واحد , وللمقدم والمطوف والرهينة (واحد) ولقائم مقائم القصر الشريف محسن (واحد) وللوسائط (واحد) فيبقى للجمال خمسة , فتضرر العربان من هذه الحالة وطلبوا منه الإنصاف، فامتنع وامتنعوا هم أيضًا من حمل الحجاج، وذهبوا بجمالهم إلى ديارهم , فأرسل لهم الوسائط تسترضيهم، فرجعوا وشرطوا شروطًا منها: منع السخرة على جمالهم، وعدم تكليفهم بالذهاب بها إلى مواقع الحرب جهة أبها عسير والطائف وعدم شراء جمالهم من المزاد، وإعطاؤهم المعاشات من رجب سنة ١٣٤٢ إلى آخر سنة ١٣٤٢ مبلغ (١٨) جنيه مقدمًا , وجعل كراء الجمل الصافي بيدهم (٨) ولغيرهم (٨) , وإذا وقع على القافلة تعد فهم يقاتلون المتعدي إلى آخر قطرة من دمائهم خلافًا لما كان سابقًا من عدم القتال، فحلف لهم بالوفاء ولكنه لم يف، وأعطاهم من الثمانية عشر ألف جنيه ألفي جنيه , فامتنعوا عن قبولها وخرجوا من مكة غضابًا , ولما وصلت القافلة إلى رابغ أرجعوها إلى مكة بدون زيارة , وقد مكثت القوافل في رابغ عشرة أيام؛ لأن بعض الجمالة هربوا بجمالهم إلى منازلهم التي حول المدينة , وأما من كانت منازله حول جدة ومكة فقد عادوا بالحجاج , وقد أرسلت الحكومة بواخرها إلى ينبع ونقلت الحجاج على حسابها بزعمها , مع أنها كانت أخذت رسم الجمل (٨) جنيهاتٍ , وزادت رسم الجمال إلى مكة مجيديًّا , ولما رجعت القوافل بهم خرج وقابلهم من الزاهر والشهدا راكبًا حصانه , وقد سبقه بساعتين محسن راكبًا السيارة , فلما سمع الجمالة صوت السيارة أيقنوا أنه يريد أذاهم؛ فقطعوا أربطة الأحمال , وقلبوا الشقادف بمن فيها , فمنهم من جرح ومنهم من كسرت يده أو رجله , والقليل منهم سلموا ودخلوا مكة على حالة مبكية. هذا قليل من كثير من المظالم الواقعة على الحجاج والأهالي. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))