للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدرسة زعزوع بك للبنين

أنشأ سيد أحمد بك زعزوع مدرسة في بني سويف , ففرح المسلمون بذلك
واستبشروا بهذا العمل الشريف والخدمة الإسلامية الجليلة , ولما تبين أنه جعل
لأكابر رجال الحكومة في بلدها حق النظر في إداراتها، ظن الناس أن هذا يحول
دون التربية الإسلامية التي يجب أن تقرن بالتعليم لأجل بث روح التهذيب الملي في
النشء الجديد , وأنشأ بعض المتبجحين بالوطنية أو انتقاد الحكومة ومعارفها مدرسة
وبشر الناس بأن سيكون امتيازها على سائر المدارس بالتوسع بتعليم الدين
والتربية الوطنية , فتوهم الذين يعتقدون الكمال بكل من ينتقد الحكومة أن هذه
المدرسة هي ضالة الأمة المنشودة؛ فأخطأ الظن وضل الوهم في المدرستين ,
وتبين بالاختبار أن مدرسة زعزوع بك منبع الحياة الملية , فالتلامذة يتلقون القرآن
الكريم مع تفسيره إجمالاً فما بالك بسائر العلوم الدينية؟ ويُصَلُّون في المدرسة
أجمعين , وليس في المدرسة الوطنية التي أشرنا إليها شيء من هذا.
مدرسة زعزوع بك اختبرتها بنفسي مرتين , والمدرسة الوطنية الأخرى
علمت ممن يوثق به من أهلها أن التلامذة لا يُلزمون فيها بالصلاة , وأنها دون
مدارس الحكومة في تعليم الدين.
وإنما قلنا هذا لأن الثناء بالصدق والانتقاد بالحق من أعظم أسباب الترقي
والكمال.
لا خلاف بين العقلاء في أن العناية بالتربية أهم من العناية بالتعليم لأن الذي
يتعلم ولا يتربى ربما يضر بعلمه أكثر مما ينفع، وقد رأيت بنفسي في مدرسة
زعزوع بك ما ملأ قلبي سرورًا ورجاء بحسن المستقبل , وإنني أذكر مسألة واحدة
يقاس عليها.
دخلنا مع حضرة ناظر المدرسة الفاضل على صف ابتدائي يتعلم القرآن
الكريم بالتجويد حفظًا , فقرأ علينا غير واحد من التلامذة , وأوقف الناظر واحدًا
منهم لم يكن حفظه جيدًا , ثم قال للتلامذة: إنني أذكر لكم واقعة حدثت لأحد تلامذة
المدارس , وأطلب منكم إبداء رأيكم فيها , وهي أن تلميذًا ضرب في الطريق تلميذًا
آخر من مدرسته فبماذا ينبغي أن يعاقبه أبوه على هذا الذنب؟ فقال أحدهم:
ينصحه بأن مثل هذا العمل يجعله ممقوتًا ومبغوضًا بين الناس ... وقال آخر: يهدده
بمعاقبة الحكومة ... وقال ثالث: يضربه , فانتهر الناظر هذا وخطَّأه , ثم قال لهم:
إن من رأيي أنا أن يفصل أبوه بينه وبين إخوته ويقول له: إذا كنت تؤذي إخوتك
في المدرسة فلا يبعُد أن تؤذي إخوتك في النسب , وإنني أخشى من مخالطتك
لإخوتك أن يتعلموا الشراسة والتعدي ومفاسد الأخلاق منك , فالأولى أن تكون خليعًا
لينجو إخوتك من شرِّك.
ثم قال لهم: واعلموا أن ذلك التلميذ الضارب جعله فساد أخلاقه أسوأ التلامذة
حفظًا وتعلمًا , وربما تتعجبون إن قلت لكم: إنه من مدرستنا هذه (فشخصوا عند
هذا بأبصارهم) بل هو من صفكم هذا , وموجود معكم الآن , وستعرفونه فطفقوا
يلتفتون يمينًا وشمالاً وذلك التلميذ السيئ الحفظ واقف شاخص لا يبدي حراكًا، فالتفت
إليه الناظر وقال: ألست أنت المقترف لهذا الذنب يا فلان؟ فأراد أن يدافع عن
نفسه بالإنكار فقلنا له: لا تضم جريمة الكذب إلى جريمة الضرب.
وقال له الناظر: إنني سأعاقبك بما قلت أنه ينبغي لأبيك أن يعاقبك به بأن
آمر التلامذة جميعًا باجتنابك وعدم مكالمتك بعد ما أذكر لهم جريمتك عندما
يجتمعون عمومًا للانصراف؛ لئلا نفسد أخلاقهم بمعاشرتك , أو يصيبهم الأذى من
شراستك , ففاضت العبرة من عيني التلميذ المذنب , وصارت الدموع تجري على
خديه , وتنحدر إلى الأرض من غير نشيج ولا كلام.
فعند هذا شفعت فيه على أنه يتوب توبة نصوحًا , فقبل الناظر الشفاعة على
شرط أن يطرده من المدرسة إذا هو عاد إلى مثل جريمته طردًا , فهكذا هكذا تكون
التربية.
مدرسة زعزوع بك للبنات
رأى بعض الأفاضل فتاة معصرًا من بنات الوجهاء في بني سويف لابسة لبسًا
أفرنجيًّا وماشية في الطريق , فسألها أين تقصد , فقالت: المدرسة , فقال: لا
مدرسة اليوم لأنه يوم (أحد) فقالت: إنما أريد الصلاة بها , فقال: أنت مسلمة
وإذا كنت تصلين صلاة النصارى يغضب أبوك , وربما يعاقبك , فقالت: إذا
عاقبني ولم يرض مني فإن الذين علموني لا يتركونني , ويمكنني أن أكون عندهم
راهبة في الدير! ! فقص الرجل هذه الحكاية على حضرة الفاضل الغيور أحمد بك
زعزوع , فاستفزته الحمية الملية في الحال إلى تأسيس مدرسة إسلامية للبنات , وقد
استحضر لها ناظرة فاضلة واستأجر لها محلاًّ مناسبًا , وكملت الآن بها لوازم التعليم
من المعلمات والمعلمين والأدوات.
وقد وضع لها ناظر مدرسة البنين قانونًا للتعليم مبنيًّا على أساس الحكمة
ومراعاة أهم ما يلزم للبنات , وسنتكلم عنه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى ,
وننقل بعض نبذ منه , فعسى أن يبادر جميع المسلمين في بني سويف لإخراج
بناتهم من مدارس الغالين في التعصب لدينهم المسيحي الذين يلزمون بنات المسلمين
إلزامًا بعباداتهم النصرانية , ويدخلوهم في هذه المدرسة الإسلامية.
وليعلم أن ما ذكرته في سبب تأسيس هذه المدرسة لم أسمعه من حضرة
زعزوع بك نفسه عندما كنت عنده في بني سويف , وإنما سمعته من آخرين في بلد
آخر.
وعلى كل حال نقول: شكر الله سعي هذا الفاضل الهمام , وأكثر في المسلمين
من أمثاله.