بيّنّا في العدد الماضي معنى الخلافة وأهم شروطها ووظائفها، وفائدة الاستخلاف ومضرته، وأومأنا إلى ما كان من خلاف في الدين بسبب التنازع في الخلافة، وقد ورد في الحديث أن الخلافة تكون بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثين سنة، ثم تصير ملكًا عضوضًا، وإذا أمكن النزاع في صحة رواية الحديث فلا مجال للنزاع في معناه، فلقد خرج بنو أمية بالخلافة عن حدها، وبعدوا بها عن عهدها، وقام الملك بالعصبية وانحرف القائمون عليه عن جادة العدالة العامة والعلم الديني وهما أقوى أركان الخلافة، وانغمسوا في الترف والنعيم واستبدوا بالأعمال كافة وأسرفوا في النفقات من بيت المال إلا أنهم أعطوا الملك حقه من الفتوح والتغلب والعدل في القضاء وحفظ الأمن والراحة، وكيف لنا بمثل ذلك اليوم؟ ولذلك كان الفقهاء يعتبرون خلافتهم شرعية، وقد احتج الإمام مالك في الموطأ بعمل عبد الملك بن مروان، ومع هذا فقد أذن الله تعالى بانقراض ملكهم لفسق ملوكهم وإسرافهم في أمرهم، ولا سيما بعد عمر بن عبد العزيز العادل، فقد كان يزيد بن معاوية أفسق الفساق، وكان عبد الملك جبارًا عنيدًا، على أنه كان سياسيًّا ماهرًا، وكان سليمان همه في قضاء شهواته، وكان الوليد الثاني بن يزيد سفيهًا مستخفًّا بالدين، وقد حفظ عليهم التاريخ سيئاتهم، ولم يكد يبلغ ملكهم قرنًا واحدًا حتى حدث فيه من البدع والفوضى في العلم والدين ووضع الأحاديث واختلاقها على الرسول ما زعزع قوائم الدين، ولبس أهله شيعًا، وفرقهم مذاهب، وذاق بعضهم بأس بعض، فكان مذهب الخوارج ثم المعتزلة والجبرية، ولو لم يخرج الأمويون بالخلافة عن رتبتها العلمية الدينية لجمعوا أمر المسلمين على أصول الدين الأساسية، وأطلقوا لهم الحرية في النظر فيما وراءها، وأنشأوا جمعية علمية دينية تحت رياسة الخليفة للحكم في مسائل الخلاف ومواضيع النزاع، تحظر الدعوة إلى ما تحكم ببطلانه وتعذر بعده من لم يتضح له ظهور برهانها على برهانه. ثم دالت الدولة إلى العباسيين، فساروا سيرة حسنة إلى عهد أبناء الرشيد والفوضى العلمية على حالها، وقام المأمون العباسي على علمه وفضله ينتصر للمعتزلة، ولكن انتصاره كان علميًّا فقط، وغالى بعده المعتصم في الاعتزال، وكانت فتنة القول بخلق القرآن التي اضطهد فيها الأئمة المجتهدون، وطبعت النفوس على الغلو المفرط، وظهر في زمن العباسيين الرواندية الذين قالوا بعبادة الخلفاء وقد قاتلهم المنصور والزيدية. بل ظهر ما هو أدهى من ذلك وأمر، وهو مذهب الباطنية الذي ظهر بمظاهر كثيرة وسمي بأسماء مختلفة، وأشهر فرقه الإسماعيلية، وقد اجتهد رئيس الباطنية حسن الصباح في إفساد الدين الإسلامي والخروج به عن حقيقته. ولا ريب أن ضرر هذا المذهب - وأكثر فرقه من الدهريين - كان من أشد المصائب على الدين؛ لأنه تعضد من القوة السياسية بانتصار الخلفاء الفاطميين له، ودعوتهم إليه، ومن القوة العلمية الدينية بما كان من اختلال أقوال غلاة المتصوفة الذين خاضوا في الكلام على ما وراء الحس استنادًا على الكشف، فشايعوا الباطنية على أن للقرآن معاني غير ما تعطيه اللغة وأساليبها، وفتحوا على الأمة باب التأويل الذي ضلت فيه الأمم من قبل. هذا التفرق في الدين كان منتشرًا في البلاد الإسلامية، والخلفاء وادعون ساكنون لا يهتمون لجمع الناس على عقيدة واحدة، بل تركوا هذا السيل وما يجرف حتى بلغ مدّه غايته، ووقعت الفوضى الحقيقة بالتظاهر بالمفاسد، والخروج على السلطان، فنهب القرامطة الكوفة سنة ٢٨٥ في خلافة المعتضد، وأغاروا في خلافة المكتفي على الشام وفلسطين، وأوقفوا تجارة العراق والحجاز، ثم حاصر رئيسهم أبو طاهر مكة وأخذها عنوة، وهدم الكعبة، وكان ذلك في أوائل القرن الرابع، واستباح الحرم بسفك الدماء، وأخذوا الجزية من الخليفة القاهر والخليفة الراضي، ثم سخر الله ملوك الهمدانية والإخشيدية للتنكيل بهم، ولولا ذلك لاستفحل أمرهم ودامت لهم السلطة، ولكن الباطل قد يطول أمده، ولكنه لا يدوم {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: ٨١) اجتهد الأمويون في إضعاف سطوة العرب في الحجاز؛ لأن ضلعهم كان مع الهاشميين، وتمكنوا من ذلك بواسطة عمالهم الظلمة كالحجاج وغيره، حتى إن المؤرخين قالوا: إن الوليد بن عبد الملك ما بنى تلك القبة على صخرة بيت المقدس وجعلها بحيث يطاف بها إلا ليحول الناس إليها عن الكعبة، وكثر اضطهاد العلويين في زمنهم، فكان ذلك مغريًا لقلوب محبيهم على زيادة الشغف بهم، وانتهى بالغلو الذي تعلم، ولما أمنوا في عهد العباسيين بعض الأمان ظهر من شأنهم ما غير قلوب بني العباس عليهم، ولما عهد المأمون بالخلافة لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أرادوا خلعه واستبدال آخر به منهم، فبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي وكان من اضطهاد هؤلاء للعلويين وقتل الكثير من عظمائهم سرًّا وجهرًا ما جمع كلمتهم ودفع بهم إلى تأسيس خلافة مستقلة، فكانت الخلافة الفاطمية، وظهر معها مذهب الشيعة كمال الظهور، فامتزج بمذهب الباطنية أتم الامتزاج، كما أنشأ الأمويون خلافة أخرى في الأندلس بعد تغلب العباسيين عليهم، ونزع الأمر من يدهم. اضمحلت الخلافة العباسية وتلاشت بما اضمحلت به الخلافة الأموية، من الخروج بها عن العلم والعدالة وبعوارض أخرى عرضت عليها، منها: كثرة الفتن والبدع التي فرقت الكلمة، ومنها: إعطاء المأمون طاهرًا ولاية خراسان يستقل بالحكم فيها؛ لأنه قتل أخاه الأمين، ففتح باب الاستقلال بالحكم دون الخليفة، فكان منفذًا للخلل وتفريق السلطة الممزق للمملكة، ومنها: الاعتماد على الدخيل من العجم والترك الذين استفحل أمرهم، فعجز المتوكل وغيره عن تلافي ضررهم واجتناب شرهم، ومنها: عزل الخلفاء وقتلهم، كما فعل الرشيد بالبرامكة حين استبدوا بالأحكام وكادوا يتفردون بالسلطة، ومنها: إهمالهم أمر ممالكهم الغربية، ولا سيما في إفريقيا وإرخاؤهم العنان فيها للأغلبية، كإهمالهم أمر بلاد الأناضول، حتى تمكن التتار منها. ولو ساروا بالخلافة على منهاجها الشرعي لقيدوا أنفسهم بالشورى حتى تحفظ لهم سيادتهم بحفظ سيادة الأمة وقوتها. وأين منصب الخلافة من الاستبداد والانفراد بالأحكام الذي كانوا يتوارثونه بقوة العصبية التي تقلد الخلافة للجهلاء كالمعتصم، إلى غير ذلك من إطلاق التصرف الذي سوغ لهم الإسراف في مال المسلمين وصرفه في الشهوات؟ ومكن المتوكل من حرق وزيره وتسليط الوحوش على داره وإعداده المأدبة لرجال حكومته وقتله إياهم. فأين المسلمون يومئذ من المسلمين في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، وأين هذا الاستعباد والرضا بالضيم من تلك الحرية والعزة؟ أين هذا التفريط في الأخذ على أيدي الحاكمين من الإفراط المؤدي إلى قتل الخليفة؛ لأن بعض عماله كانوا ظالمين، ولم يعجل بالانتقام منهم مع أنه قال على المنبر: أمري لأمركم تبع. لا جرم أن التفريط شر من الإفراط؛ لإن الإفراط فيه الكمال المطلوب وزيادة، واعتبِر ذلك في السخي المبذر والشجاع المتهور وفي ضدهما تلقه واضحًا جليًّا، فإن الشحيح المقتر يذهب إمساكه بفائدة المال حتى كأنه معدوم، والجبان الهلوع ينتهك عرضه ويجنى على حقيقته وهو واجم مستكين، وهذا التفريط في الأمم مطوح لها في مهاوي العدم، وإن شئت مثالاً للإفراط والتفريط في الحرية، من حيث الأخذ على أيدي الحاكمين أو العبودية لهم، فارم ببصرك إلى الأمة الفرنسية والأمة العثمانية يتضح لك المراد وتهتدي إلى سبيل الرشاد، ومما شرحناه تفهم السر في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية) فإن العصبية الجنسية (أي النسَبية) التي أراد محوها وجعل النفوذ للأمة كلها في ضمن دائرة الشريعة هي التي فعلت بالمسلمين تلك الأفاعيل، وأول من عمل على قلع المبدأ الديمقراطي الذي جاء به الإسلام بصورة معتدلة هم الأمويون، وجرى العباسيون من بعدهم على آثارهم، حتى عاد لأمراء المسلمين وملوكهم الاستبداد الآسيوي على أشده، والعصبية النسبية على أتمها، ولم يبق من المساواة التي جاء بها الإسلام إلا العدل في القضاء والأمن العام في غير أيام الفتن التي كانت مهب رياحها من قبل طلاب الملك أو الدعاة إلى المذاهب، وكان أهل الذمة يرتعون في بحبوحة الراحة ويتفيأون ظل الأمان الكامل لبعدهم عن مثار النزاع والشقاق. هذا مجمل خبر الخلفاء العباسيين، بدأ في سلطتهم الخلل من زمن أعظمهم دولة وعلمًا (المأمون) واستفحل بعد ذلك حتى آل إلى استبداد مواليهم عليهم كما علمت، ثم إلى مشاركة السلاطين لهم في ذكر أسمائهم في الخطبة، ثم إلى قناعتهم باسم الخليفة مع فقد السلطة بالكلية (انظر إلى غرور الشرقيين كيف يقنعون بلقب ضخم لم يمسهم شيء من حقيقة معناه) ولو قام بوظيفة الخلافة واحد منهم حق القيام فجمع الكلمة على مذهب واحد وعقيدة واحدة، وقيّد السلطة وحقق معنى الشورى - لما تمزقت السلطة وتضعضع الدين وأضعف الأمة ضعفًا مكّن سيوف جالية التتار من رقابهم من غير ما مقاومة، كان التتاري يقول للرجل: أعطني سيفك ونَمْ لأذبحك، فيفعل. واتفق أن أحدهم ذبح مائة رجل في مكان واحد، وهم ينظرون إليه يذبح الواحد بعد الآخر، ولا يعدو عليه منهم أحد! ! هكذا هدم أولئك الرؤساء أركان السيادة الإسلامية بهدم التعاليم التي جاءت بها الشريعة واتبعها الخلفاء الراشدون، فحق للأمة أن تقول فيهم {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: ٦٧) . (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))