لليافعي ٥ بقية بحث أحاديث الآحاد وكونها من أصول الدين قال في الاعتراض الثالث من هذه الكلمة: فكأنهم يثبتون صحة الروايات بعدالة الرجال، ثم يثبتون عدالة الرجال بالروايات، مما لا يخفى على أحد فساد ذلك. إلى قوله: وربما أدَّانا ذلك إلى التسلسل أو الدور في البرهان. وأقول: إن هذه مغالطة من الفاضل أيضًا؛ إذ لا يلزم ذلك، اللهم إلا إذا كان المعدِّل والجارح لغيره هو المعدل لنفسه. أما إذا كان المعدل والجارح قد عرفت عدالته بالإجماع، ونقل هذا الإجماع بالإجماع أو بما يقاربه كالتواتر، بل لو نقلت عدالته بأسانيد أخر - فلا فساد، ولا يلزم شيء مما ذكر الفاضل. وقوله: إن أكثر هذه الروايات مقتضية إلى آخره. فجوابه أنهم (رحمهم الله) يروون ما تلقوه على نحو ما يسمعون، فما كان له سبب ذكروه وهو كثير، إنما قد يترك بعضهم ذلك لسبب ومناسبة؛ حيث لم ير لذلك ضرورة؛ ولذلك تراه في موضع آخر يذكر السبب والمناسبة، وقل أن يهملوا ذلك. وأما ما كان يلقيه عليهم صلى الله عليه وسلم بما يشبه التعليم والتشريع العام، فلا يلزم أن يطلب له سبب، وأكثر الأحاديث وآيات الأحكام كذلك فلا محذور. أما قوله: وقد أيدنا فيه الأستاذ الكبير العلامة المحقق صاحب المنار الأغر فنقول فيه: إن كان يعني ما كتبه شيخ الإسلام المذكورعلى إثر ما كتبه أخونا العلامة خاتمة المحققين: رفيق بك العظم - حفظهما الله - فنحن قد رأينا ذلك، ولم نر فيه تأييدًا لحضرة الدكتور الفاضل، وغايته أن يكون رجح أن ما كتبه المجيبون لم يدفع الشبهة تمامًا على أن حضرة العلامة المحقق رفيق بك العظم - حفظه الله - إنما ذكر تاريخ الكتابة عند العرب، وبين بعض حالاتها في الإسلام وذلك في خطبة ألقاها، والخطب لا تحتمل الاستقصاء في الاستدلال أو أن يغاص فيها وراء عويصات المسائل. ونقول أيضًا: قد عرفت مما كتبناه سابقًا وما قدمناه حال الصحابة - رضي الله عنهم - في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأنهم كيف يروون عنه صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه كيف كان يبين لهم، وعرفت أن حفظهم لما روينا عنهم ليس بالمستبعد، وأن المكثرين منهم وغير المكثرين قد كتبوا في حياته أو استكتبوا، وهم لم يزالوا يكتبون بعد وفاته ما فات بعضهم عن البعض الآخر، والفاضل الدكتور هو إن قدر أنْ يثبت كراهية بعضهم، فهو لا يستطيع يبين علة منصوصة لذلك غير ما ذكرناها عنهم في رسالتنا السابقة. وقلنا: إن من كره ذلك؛ فإنما كره أن يكتب رأيه. أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد كتبها كثير منهم بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومنهم - رضي الله عنهم - فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك ولا هم أنكروا ذلك، ولم يتلف بعضهم ما عند البعض الآخر بالإحراق، وغايته أن بعضهم أتلف مكتوبات نفسه ورأيه، وهذا بخلاف فعلهم بالقرآن الذي كان عند بعضهم غير ما أجمعوا عليه. وبذلك يظهر ظهورًا لا غبار عليه أن كتابة الحديث لم تكن في معتقدهم مكروهة مطلقًا وحاشاهم من ذلك. فقد كان الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - وغيرهم من كبار الصحابة؛ - رضي الله عنهم - إذا وقعت واقعة ووجدوا فيها حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدلون به سواه؛ بل يحكمون بمقتضاه ويحفظونه ويكتبونه في رسائلهم إلى عمالهم، فكتابة الحديث بالصفة التي ذكرناها كانت من عملهم ومما أجمعوا عليه: فعلاً وتقديرًا. وغاية ما يثبت عن بعضهم أنه كره كتابته في كتاب واحد لا يرجع إلى سواه، ويكون مرتبًا كما كتب القرآن، يعمل به الناس ويتركوا ما لم يكن فيه، على أنهم قد عزموا على ذلك، وكان ميل أكثرهم إلى الفعل، ومن كره ذلك؛ فإنما كرهه رجوعًا بعد الموافقة على الكتابة، ومع ذلك هو لم يكرهها ويتركها لأجل أن الحديث شريعة مؤقتة، ولم يستدل على الترك بما يدل على أنه فهم أن الأحاديث شرعية موقتة - كما بينا ذلك في رسالتنا السابقة - وهم صرحوا بأنهم لم يتركوا كتابة الحديث بالصفة المذكورة؛ إلا خوف الالتباس بالمصحف، وبعضهم لم يقل: إلا جردوا القرآن. فالأصل الذي بنى عليه الفاضل الدكتور مذهبه إنما هو احتمال من عنده وظن توهمه، لم يسبقه إلى تخيله أحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بل قولهم وعملهم وأمرهم يناقضه مناقضة النقيض لنقيضه، وما هذا حاله لا يصح فرضه - على أنه لو لم يوجد عنهم ما يناقضه فلا يصح أن يجعل مثل ما هذا حاله أصلاً؛ لمخالفته نصوص القرآن - بل لو لم يوجد في القرآن ما يناقضه، فلا يصح كذلك لمخالفته ما يوجبه العقل للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولو تغاضينا عن ذلك كله، فغايته أن يكون احتمالاً من جملة احتمالات قاله غير معصوم وخالف إجماع المسلمين، والله جل شأنه قد ذم من يتبع غير سبيلهم وتهدده، فما رأيك باحتمالٍ هذا حاله، كيف يعول عليه، أم كيف يسوغ للمنصفين الاعتماد عليه والمفاضلة دونه وهو على كلِّ تقدير ومهما فرض فاسد مدفوع. فهذا بعض ما نقوله في شبهة الفاضل في عدم كتابة الحديث، وقد ذكرنا بعض أدلته في رسالتنا السابقة والمقام جدير بالإطالة، ولكن فيما ذكرناه كفاية لمن يريد الله له الهداية. أما من بعد الصحابة من رجال الأسانيد والأئمة المحدثين الذين رووا عن الصحابة - رضي الله عنهم - وروى عنهم من بعدهم من الأئمة كذلك، فهم الذين كتبوا الأحاديث وأجمعوا على كتابتها، وكانوا كلهم رحمهم الله يكتبون، وكان المحدثون - رحمهم الله - يكتبون كل مروياتهم عن الشيخ حين الدرس، يكتب ذلك الطلبة كلهم، ويقابلون ويصححون على الشيخ أو من كتابه، كل ذلك يكون بغاية الاحتياط مع كمال الفحص والتنقيب عن كل ما يحدث به. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك، لِمَ لَمْ تكن جميع الأحاديث بنقل الجموع والتواتر، قلنا: إن الأحاديث الصحاح هي هكذا في نفس الأمر ودليله تلقيهم ذلك بالقبول، وسبب كونها آحادًا إنما هو لأن أهل الكتب المعتبرة لا يثبتون إلا ما يرويه الأثبات الضابطون ومن سواهم لا يروون عنه؛ لئلاّ يغتر به من لم يعرف حاله تقليدًا لمن روى عنه؛ ولأنهم يختارون الاختصار، فلذا وذاك يختارون في مصنفاتهم الأمثل من الأسانيد ويتركون ما سواه، ونحن قد قلنا: إنهم لو اختاروا طريقة التواترية لكان كل حديث أو أكثر الأحاديث متواترة في أكثر الطبقات، فليتأمل الناظر. وإن أراد مصداق ما ذكرنا، فليفرض أي حديث مما اتفقوا على صحته، ثم ليتتبع طرقه في كتبهم، فلا نشك أنه حينئذ يوافقنا على ما قلناه على أنه إن وجد في أثناء سنده تفرد راوٍ، فذلك الراوي لا بد وأن يكون ممن أجمع على حفظه واعتباره وكماله وضبطه بالكتابة، ورُبَّ رجل يعدل رجالاً فتَفَكَّرْ. قال حضرة الفاضل في الكلمة الخامسة ما مؤداه: إن المسلمين خالفوا القرآن بإيجابهم العمل بالأحاديث إلى آخره، واستدل ببعض آيات في ذم الظن الذي أجبنا عنها في رسالتنا السابقة، وزيادة على ذلك نقول: قد قدمنا في هذه الجملة المختصرة الأدلة القطعية على أن أخبار الآحاد ليست مما تفيد الظن فقط؛ بل هي تفيد اليقين أيضًا، فلا بد للفاضل أن ينقض ذلك أولاً بأدلة أصح مما سقناها، ثم لا بد له من أدلة جديدة تدل على أن جميع أحاديث الآحاد الثقات الضابطين الذين تنطبق عليهم شرائط أهل الحديث لا تفيد العلم، ولو لبعض الناس. ثم لا بد له من دليل يدل على أن المراد بالظن في هذه الآيات ما يرى أنه الظن الراجح، وبدون ذلك لا يصح ولا يتم له الاستدلال بهذه الآيات على رد العمل بالأحاديث، نحن لا نرى أن هذه الآيات مما تدل على ذم العمل بالأحاديث، ومن أراد ذلك منها فقد حمَّلها ما لا تحمله؛ لأن من تفكر في هذه الآيات وأمعن النظر فيما اشتملت عليه مما سماه الله ظنًّا فيها يراه لا محالة، إنما هو مما يسميه الناس في زماننا هذا بالشك. فالقرآن إنما يذم ما يكون بمرتبة الشك، بل بمرتبة الوهم والخرص فقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ١٤٨) هو استدلال منهم بالمشيئة والقضاء والقدر الذي لم يعرفوا سره ولا ما هو، ولا آمنوا به على رد وإنكار دين الله وشرعه، وعلى تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم يقولون: إن كل ما فعلناه هو حَسَن ودين مقبول عند الله، حتى الغصب والسرقة وقتل النفس التي حرم الله إلى غير ذلك مما يقوله إخوانهم الجبرية اليوم، فهل يصح هذا الاستدلال؟ وهل هو ظن راجح؟ وما المرجح؟ وهل أخبار الثقات الضابطين مثل ما ذمه الله عن المشركين في هذه الآيات؟ وما لم تتحد العلة ويُعلم انتفاء المانع لا يصح القياس. والفاضل - حفظه الله - كثيرًا ما يستدل بهذه الآية ونحوها على رد وذم العمل بالأحاديث الصحاح في زعمه. وقد سبقه إلى الاستدلال بها على ذلك الخوارج، واستدل بها بعض العلماء على رد القياس المساوي والأولوي، وبعضهم على رد وجوب الأخذ بالعمومات القرآنية مطلقًا، أو الذي قد وقع فيها تخصيص أو احتمال، وعلى رد الأخذ بالاستصحاب، وعلى رد الاجتهاد بترجيح أحد الاحتمالين الراجح. واستدلالهم على ذلك أظهر من استدلال الفاضل على ما نحن بصدده، فليسلم بما هو أولى من استدلاله، فإن سلم لزمه القول بأن ما سوى المنصوص في القرآن ليس من الدين مطلقًا، ولا يجوز العمل به، وعليه فلا ندري ماذا يقول في الوقائع التي لم ينص عليها القرآن. إنه مهما يريد أن يقول فيها؛ فالحديث أولى من قوله ورأيه، وأقرب إلى العلم واليقين منه، وإلا لزمه أن الدين ناقص غير كاف لفصل كل ما وقع. ونقول: إن ما استدل به هؤلاء المشركون قد سماه الله ظنًّا وذمهم عليه، وإذا كان الظن يطلق على الراجح من الاحتمالين، وعلى المتردد بينهما على السواء وهو الشك، وعلى ما هو دون ذلك؛ كالوَهْم والحزر والخرص ونحوه، فهو مشترك لفظي؛ إنما يدل على ما يراد منه بقرينة على الراجح، ولما كانت هذه المعاني متفاوتة ومختلفة الحقائق فلا يصح أن يقاس هذا منها على ذاك، إلا إذا استكملت شروط القياس؛ كاتحاد العلة، وأن لا يكون في المقيس أو المقيس عليه وصف يصلح أن يناط به حكم غير الحكم الذي يراد أن يطرد فيها مع عدم المانع كذلك. ومن صحح النظر فيما ذمته هذه الآية؛ يرى أنه لا يصح قياس الأحاديث الصحيحة عليه بوجه من الوجوه مطلقًا، وكذلك العمومات والقياس والاستصحاب ونحوه، كل ذلك لا تدل الآية على ذمه. وهذه لا تتعارض بل هي مرتبة، وأعلاها نص القرآن ثم نص الحديث. وهذا الثاني مقدم على العموم مطلقًا، وقيل على العموم الذي قد تطرقه الاحتمال، وليس شيء من هذه الأشياء من الظن المذموم، حتى عند من يجعل كل ذلك من الظن؛ لأن كل ما ذمه الله - تعالى - من الظن في غير هذه الآية من كتابه؛ فإنما هو شقيق ما ذمه في هذه الآية؛ ولئلا يدخل في ذلك الظن الراجح، كالقياس، وما ذكرناه بعده ونحو ذلك أيضًا قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: ١٢) أي: بعض الظن الذي هو بمثابة ظن المشركين غير المستند إلى حجة تُرجّحه فهو إثم؛ لأنه من ظن ضعفاء العقول الذين ليس لديهم علم وبصيرة، وإنما هم يخرصون بالحرز والوهم الكاذب، ومفهوم الآية أن البعض الآخر أي: كالظن الراجح ونحوه ليس كذلك، وحينئذ نقول: إما أن يجعل الظن مراتب لا يتناول حكم إحداها الأخرى. وذلك مثل ما قلنا سابقًا، أو يجعل كالمتواطئ في إفراده، وهذا مع ضعفه، فالظن الراجح مستثنى كما عرفت أيضًا. وإما أن نجعل كل ما هو نظير ومثيل ما ذمهم عليه هو الظن، وكل ما كان مدركه أقوى مما ذكره الله عن المشركين وذمهم عليه هو من العلم، وعلى كل تقدير فاستدلال الفاضل الدكتور بهذه الآية ونحوها على ذم العمل بالأحاديث الصحاح فاسد، فما ذمه الله عن المشركين في وادٍ والأحاديث في وادٍ آخر. وبما ذكرناه تنحل عقدة الإشكال التي كثيرًا ما تورد مثل هذه المسائل، فتأمل ذلك، واشكر الله على أفضاله. قال أخونا الفاضل: وقد أقر الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي بأن الظن إنما يذم إذا عارضنا به الأمر القطعي. ثم رد عليّ بأني ومَن على مذهبي كثيرًا ما أعارض نصوص القرآن الشريف الصريحة وأخالفها؛ لأجل الأحاديث الآحاد، إلى قوله: وإليك بعض الأمثلة على ذلك. وأقول في الجواب: قد قدمنا الكلام على آية الوصية للوالدين والأقربين الوارثين، وهنا نقول للأخ المكرم حفظه الله: إن تجويز معارضة نص القرآن بالحديث الصحيح لم يقل أحد من المسلمين به فيما أعلم، والحقير لا يقول به أيضًا، هذا فصل. (الثاني) إن من جَوّز نسخ القرآن بالسنة متواترة كانت أو مشهورة أو آحادية، لا يلزمه أن يقول بوقوع ذلك فعلاً. (الثالث) إن من يُجوّز نسخ القرآن بالحديث الصحيح هو لم يعارض به نص القرآن، وإنما إذا صح حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متأخر عن نزول آية ولم يمكن التوفيق بينهما، فالمعارضة إنما هي بين الحديث واستمرار الحكم أي: بقائه أو عمومه وإطلاقه، وقد اختلف في الأول كبار العلماء - رحمهم الله -، وقد قدمنا بعض الكلام على ذلك. أما الثاني والثالث فقد قال بجوازه ووقوعه الجمهور. لكن قال شيخنا: ابن القيم - رحمه الله - مع تجويزه النسخ بجميع أقسامه ما معناه؛ أن كل ما يظنه الناس معارضة بين السنة والقرآن فليس الأمر كما يظنون، بل لا بد أن تكون السنة مبينة لآية من القرآن، هي في الحقيقة ناسخة أو مخصصة لما يظن منه أن السنة خصصته أو قيدته، وعلى كل تقدير فأهل العلم كلهم متفقون هؤلاء وهؤلاء على أنه لا يجوز إهمال وإلغاء شيء مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، سيَّان مَنْ جَوَّز وقوع المعارضة ومن التمس لها موافقة من آيات الكتاب العزيز، لأن المرمى والمحط واحد. قال الأخ الفاضل: حرموا أكل الحمر الأهلية للحديث مع أن الله يقول: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} (الأنعام: ١٤٥) الآية، ويقول: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ} (البقرة: ١٧٣) الآية إلخ، وأقول: إن الحصر في هاتين الآيتين قد عارضته آيات أخرى في القرآن نفسه [١] وإذا أخذ المطعوم المحرم أعم من لحم الحيوان فالمعارض أكثر. وحينئذ إما أن يقال الحصر منسوخ أو مخصوص بوقت نزولها، وكلا التقديرين مخالف لمذهب الفاضل؛ لعدم تجويزه النسخ أي: وقوعه، ولقوله: إن الخصوص بوقت دون وقت لا يكون في القرآن، وإنما يكون في الحديث؛ لأنه - أي الحديث - شريعة مؤقتة بزعمه، وهو هنا لا محيص له من التزام أحد الاحتمالين رضي أم أبى. ثم نقول: إذا كان الحصر منسوخًا أو مقيدًا بحين النزول، فلا يكون الحديث المذكور معارضًا لنص القرآن المحكم بلا خلاف، وإنما هو من باب الزيادة على ما في القرآن أو ما سكت عنه، ومَن لا يجوّز ذلك فقوله غير مؤيد بحجة ولا بشبه حجة، على أنا نقول: إن الله حرم الخبائث والخبيث في القرآن كما حرم الإنفاق منه، فلِمَ لا يجوز أن يكون لحم الحمر الأهلية من ذلك، والحديث مبين لما أجملت تلك الآيات، وبذلك يندفع الاعتراض من أصله. قال الفاضل: قالوا بحرمة الذهب والفضة والحرير للأحاديث التي رووها، والقرآن يقول:] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [ الآية (الأعراف: ٣٢) ، قلت: وليس الأمر كما أطلق، وأهل الحق - رحمهم الله - لم يحرموا إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وعلى الرجال لبس الذهب في غير السلاح، والحرير الخالص لغير الضرورة، والآية ليست نصًّا في تحليل ذلك، بل لم يذكر فيها شيء من ذلك بخصوصه، وكان سبب نزولها في زينة مخصوصة حرمها المشركون؛ وهي ستر العورة، فكانوا لا يجيزون، بل يحرمون سترها عند الطواف، وكانوا يحرمون بعض الرزق الطيب فأمر الله عباده المؤمنين؛ أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، وأن يأكلوا ويشربوا من الطبيات من الرزق، ونهاهم عن الإسراف في الأمرين أي: اللباس والأكل والشرب، ورد على المشركين بأن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم أي: اسئلهم من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطبيات من الرزق الآية، فالآية لا يعارضها الحديث؛ لما عرفت أن ما أحل لنا من ذلك هو مقيد بعدم الإسراف، وأيضًا قوله: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (الأعراف: ٣٢) المراد بالزينة فيه: الزينة التي أمرهم بأخذها عند كل مسجد، وتلك معلومة لدى المخاطبين - رضي الله عنهم -، لم تكن هي ذهبًا وفضة ولا حريرًا، على أن سوى الأكل والشرب في آنية النقدين من كل استعمال لما ذكره جائز للنساء، وهن ممن يدخل في الخطاب، وأيضًا كل ما يطلق عليه لفظ الزينة، لا يمكن الدكتور أن يجوزه لكل أحد بلا تقييد، ولا نظنه يجوز للرجال لبس النساء ولا العكس مطلقًا، وإذا كان الأمر كذلك، فكان الأولى به أن لا يعترض علينا بهذه الآية في الأحاديث، لا سيما وقد عرفت أن آخر الآية إنما هو مبني على ما ذكره في أولها. إن من يعارض الأحاديث، ويحلل كل ما يطلق عليه لفظ الزينة بهذه الآية، قوله أشبه شيء بقول من يجوز أكل وشرب وتناول واستعمال كل ما على الأرض وكل ما يخرج منها، بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعا} (البقرة: ٢٩) الآية، فكما أن هذا لا يصح، فتحليل استعمال كل زينة بكل صفة لا يجوز مثله، والآية لا تدل عليه. قال: حرموا أن تنكح المرأة على عمتها وخالفوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) إلى قوله بعد أن ذكر سائر المحرمات، وليس من بينهن المرأة على عمتها أو خالتها. وأقول: هذه الآية قد دندن حولها الخوارج وأطالوا بما لا طائل تحته، وقد خالفوا إجماع مَن تقدَّم عليهم علمًا وفضلاً، ً وخالفوا نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذر منهم وذمهم وقال: إنهم يمرقون من الدين، استدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) وهو غير مراد على إطلاقه لوجود نصوص القرآن بتحريم محرمات لم تذكر في هذه الآية؛ كالمشركة وزواج الأَمة لمن يقدر على زواج الحرة والزانية، والملاعنة، والمطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، والعقد بالربيبة قبل أن يطلق أمها ويدخل بها على خلاف في ذلك بين العلماء، كما اختلفوا في المشار إليه في قوله: {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) وقد اختلفت طرق أهل العلم في الرد عليهم، ونحن إذا ناقشناهم الحساب قلنا لهم: إن الله ذكر ما ذكر من المحرمات منبهًا بها على ما لم يذكره مما اتحدت فيه علة التحريم، وليس المراد الحصر بالعدِّ ولا إقامته مقام الرسم والحد؛ وبناء على ذلك نقول: إن الله لم يذكر الجدات، ولا بنات الأولاد، ولا أم المرضعة، ولا بنات الأخت والأخ من الرضاعة، ولا سائر من يحرمن من الرضاعة، فكما أنه لم يصرح بذكر مَن ذكرناهن وهن محرمات غير داخلات في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) فكذلك تحريم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها من كل امرأة، لو فرضت ذكرًا حرمت على الأخرى - لا يحل أن تنكح عليها - فقوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (النساء: ٢٣) لا يأبى دخول الجمع بين إحداهما وبنت أختها وأخيها في المنع والنهي، بل دخولهما ظاهر لأهل العلم بالقرآن، لا سيما وقد دل الحديث الصحيح أو المتواتر عند بعضهم على ذلك. ولو سلمنا بالمعارضة فهي ليست لنص الآية. وإنما هي بين عمومها أو استمرار الحكم وتأبيده وهو ظني كما تقدم، والحديث أقل حالاته أن يكون أرجح، وإذا وقعت المعارضة فالجمع بين الدليلين هو الواجب إذا أمكن، وإلا لزم إهمال أحدهما بلا موجب، وهو لا يجوز. هذا على قول مَن يقول إن الأحاديث الصحاح إنما تفيد الظن، أما على ما اعتمدناه من أنها قد تفيدنا العلم، فالأمر واضح ظاهر ولا قباحة فيه. قال الفاضل حفظه الله: أوجبوا القتل مطلقًا على من ارتد عن الإسلام للحديث، والقرآن يقول:] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [ {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: ٢٩) } (البقرة: ٢٥٦) وأقول: قوله أوجبوا القتل مطلقًا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لو منع الإمام عن قتل المرتد لمصلحة؛ كمهادنة ومعاهدة ومأمنة بشروط ألجئ إليها، لا يجوز قتله، فقتل المرتد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات، وهذا الاختلاف الذي قد يرى أنه تسهيل في بعض الأوقات والأحوال، إنما يستفاد من الأحاديث والسنن لا من القرآن , ومن تفكر فيما اشتمل عليه صلح الحديبية من الأحكام عرف ذلك، فلنكتف بالإشارة إليه. أما ما ذكره حضرة الفاضل فهو ليس في حكم المرتد، وإنما الآية الأولى في شأن الكفار من أهل الكتاب، هل يجبرون على الإسلام أم لا؟ وأما الآية الثانية فليس فيها تجويز الكفر لهم، ولا حكم الإكراه لهم منا، بل هو مسكوت عنه كله، إنما هو في الكافر الأصلي؛ فالإيراد ليس في محله. ونحن نسأل حضرة الفاضل: هل يقول بإقامة الحدود والتعزيزات على فعل بعض الواجبات والفرائض الذي أجمع عليه المسلمون، ودل عليه الكتاب والسنة كما قال تعالى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (التوبة: ٥) إلى غير ذلك مما يدل على أن المسلم يجبر على التدين والخضوع لأحكام الدين. أم هو يقول بعدم جواز إقامة الحدود ونحوها. فإن قال بالأول وهو ظننا به، فقد وافقنا ونقض اعتراضه بنفسه، وإلا كان مخالفًا وواقعًا في أقبح مما ظن، وزعم أنَّ غيره واقع فيه. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))