وضعت الحرب أوزارها، وأخمدت المدافع أنفاسها، وأعيدت السيوف إلى أغمادها، وعادت الدول المتناجزة بالأمس عن ميادين القتال إلى ردهات المجلس فعقدت بعضها مع بعض معاهدات تضمن صيانة السلام إلى حين. ثم خلت كل واحدة إلى نفسها تناقشها الحساب، وتبحث في ما نالها من الغُنم. فكانت الهمة الأولى منصرفة إلى اقتسام الأراضي المكتسبة. ثم إلى النظر في ما ثغرته النفقات الحربية في ميزانياتها، وما يقتضيه سد تلك الثغور من الأموال الطائلة، وهي لا سبيل إليها إلا بعقد القروض. ولو انحصر الأمر في الدول الخارجة من ميدان القتال لهان الخطب، ولكن ثمت دولاً أخرى أبت إلا أن يكون لها من الغنيمة نصيب. تنازلت تركيا لإيطاليا عن ولاياتها الأفريقية. ثم تخلت لحكومات البلقان عن ولاياتها الأوربية غير ولاية أدرنة. ثم تقاسمت الدول ما بقي بشكل مناطق نفوذ كل واحدة بحسب ما توحيه إليها مطامعها في العلانية والجهر. ورضيت إنكلترا نصيبًا لها سواحل خليج العجم من الأوقيانس الهندي إلى البحر الأحمر. فأصبحت سلطتها مبسوطة على البلاد العربية من البصرة إلى السويس ومن الخليج العجمي إلى ترعة السويس. وأصبحت في يدها الطريقان البحريتان الموصلتان من أملاكها الشرقية إلى أملاكها الغربية. واتصلت إمبراطوريتها الأسيوية (الهند) بملكها الأفريقي (مصر) . أما إيطاليا ولية أمر طرابلس الغرب والواضعة يدها على جزيرة رودس وما جاورها من جزر البحر المتوسط فإنها فازت بهذه البقعة الآهلة باليونانيين والأروام، والقائمة بين خط بغداد والأرخبيل، ومعها ميناء أضاليا وخط حديد يمتد إلى الداخلية، ويتصل بالخطوط الألمانية؛ خط بغداد وخط أزمير. وأما ألمانيا فكان نصيبها هذا الخط البغدادي الكبير بجملته لا مسيطر عليها فيه ولا مهيمن، وهو الذي طمحت إليه، ومن ورائه ما بين النهرين وكل البلاد الواقعة بين أسكودرا والبصرة من البوسفور إلى الخليج العجمي. وإن اتفاق بوتسدام مهّد للألمانيين السبيل إلى بلاد إيران؛ إذ خوّلهم حق تمديد خط حديدي من بغداد إلى طهران. وفي مقابل ذلك جعلت حصة روسيا أرمينيا الكبرى. وهي تتناول الأراضي الواقعة إلى شمال الخط البغدادي وإلى جنوبه بجملتها بين أنقره وبغداد. على أن ثمت عقبة كان لا مندوحة عن تذليلها. فإن الاستئثار بتلك البقاع الواسعة كان لا بد من تمويهه بحجة من الحجج ووسيلة من الوسائل فكانت هذه الوسيلة الأشغال العمومية والمشروعات النافعة الواجب إجراؤها. بيْد أن روسيا لم يخطر لها أن تبذل أموالها الخاصة في هذا السبيل بل لجأت إلى فرنسا. أفليست هي على الدوام مستعدة لبذل أموالها استعداد تركيا للتخلي عن أراضيها؟ وعلى هذه الصورة تم الاتفاق على أن فرنسا تتولى إنشاء مينائي يني بولي وهر كله (على البحر الأسود) والخطوط الحديدية (سمسون سيواس - ديار بكر، وديار بكر - أرضروم - طرابزون) مع العلم بقلة إيراداتها المتوقعة؛ لأنها لازمة لروسيا تأييدًا لموقفها السياسي والاقتصادي والحربي أيضًا، وإن كان لا فائدة لنا نحن منه على الإطلاق. وإنما أعطينا في مقابل ذلك البقعة السورية في جنوبي غربي خط بغداد، مع حق إنشاء مينائي حيفا ويافا وتمديد خط رياق الحديدي إلى القدس، ثم الاتفاق على اقتسام النقل بين خط دمشق - حماه والخط الحجازي، وكلاهما متصل بالسواحل السورية: الأول في بيروت والثاني في حيفا. وكلها امتيازات لا نفع لنا منها ما دمت حكومتنا متغاضية عن معاهدنا الكاثوليكية في الشرق، ضاربة بما لنا من الحق في حماية الأراضي المقدسة وحماية المارونيين عرض الحائط، ومهدت للإيطاليين قطع السبيل علينا بما ينشئونه لأنفسهم في رودس وأضاليا وطبرق وسراقوسه. لا يتوهمن متوهّم أن الدولة العثمانية بذلت كل ما تملك للآخذين على أنفسهم صيانة كيانها. كلا! فهي لا تزال باقية لها الأراضي الواقعة على ضفتي المضايق. وما زالت في عهدتها حماية البوسفور والدردنيل (! !) وإنه لشرف عظيم (! !) وفخر باق وإن كان يلقي على كاهل صاحبه مسؤوليات عظمى. ثم إنهم لا يزالون مالكين أدرنه والآستانة وبروسة وأزمير وأسقاعًا متراميةَ الأطراف خصبة التربة تكفي إيراداتها - فيما يقولون - لدفع فوائد ديونها المتراكمة (! !) . بهذا الثمن نجت الدولة العثمانية من الطور الثاني، وأعني به طور التقسيم أو طور التجزئة. بقي الطور الثالث وأعني الحاجة إلى المال. ومعلوم أننا نحن معاشر الفرنسيس لا نبرح أبدًا من بال أحد متى بلغت المسائل هذا الطور وأعني طور الدفع. إذن إلى فرنسا اتجهت الأبصار للمطالبة بسد الفراغ الذي سببته هفوات وجنون بل جنايات الآخرين حتى يتهيأ لأرباب الجشع والطمع ممن ذكر أن يستتبعوا تحقيق مطامعهم. أما ما يطالبوننا به هذه المرة فثماني مئة مليون فرنك. ولقد غامرت الأمة الفرنسوية إلى هذا الحين بمبالغ طائلة من توفيرات أبنائها في المشروعات العثمانية فلا ينكر عليها حق السعي في استرداد ذلك المال. ولكن هذا لا يجب أن يتخذ ذريعة لتضحية مصالح البلاد في سبيل منافع بعض الماليين، فبعد نكبات الجيوش العثمانية اتفقت الصحافة وأجمع الرأي العام في فرنسا والعالم كله على إلقاء تبعة تلك الانكسارات على عاتق جمعية الاتحاد والترقي. فإن الاتحاديين هم المسؤولون عن سوء انتظام الجيش وسوء الإدارة وضياع أموال الحكومة. وإن هؤلاء الاتحاديين هم أنفسهم المتقلدون الأحكام اليوم وفي أيديهم التصرف بالأموال العمومية. وهم أنفسهم الذين يتطلبون اليوم الأموال الفرنسوية في حين أن لاستعمالها في فرنسا وجهة أولى وأنفع، ولكن ما ثَمَّ مَنْ يعترف، فإن قلم المراقبة في وزارة الداخلية كان قد ألغي، فأعاده المتمولون - على شكل أضمن لمصلحتهم. ومن أهم ما يتهمون به جمعية الاتحاد والترقي نزعاتها الألمانية وهي تكاد تكون تحرشاً بنا. ثم يتهمونها بأنها ألقت بين يدي الضباط الألمانيين تنظيم جنديتها حتى ألقى بعضهم على الجنرال فندر غولتز تبعة انكسارات العثمانيين في قرق كليسة ولوله برغاس. فلما استعاد الاتحاديون السلطة كان أول عمل قاموا به انتداب بعثة ألمانية جديدة لتنظيم الجيش العثماني. ورضي العاهل الألماني بإيفاد ثلاثة وأربعين رجلاً من ضباط جيشه إلى الآستانة، ولكنه اشترط أن تكون لهم مع تحمل المسئولية السلطة الفعلية، وأن تكون القيادة العليا لزعيم البعثة، وأن يكون الضباط العثمانيون في الجيش خاضعين للضباط الألمانيين. ولما كان الخط البغدادي الذي يجتاز آسيا الصغرى من أدناها إلى أقصاها - من خليج العجم إلى البوسفور - وكل الخطوط الحديدية الأخرى فروع له، هو الوسيلة الوحيدة لتعبئة الجيش وحشده، فإن الجيش العثماني بقيادة الضباط الألمانيين سيكون بمنزلة إحدى فرق الجيش الألماني، والثماني مئة مليون فرنك التي تطالبنا الحكومة العثمانية بها اليوم ستنفق في تسليح وتجهيز وتنظيم وتدريب جيش يكون في طليعة الجيوش المهاجمة لنا في أول حرب نخوض غمراتها. وتكون أموالنا نحن الفرنسويين قد تحولت إلى حديد ورصاص يخترق صدور أبنائنا. ولقد بلغ من حرج الموقف أن الحكومة الروسية مع عدم رغبتها في انتهاج خطة المجافاة والمشاكسة لم يسعها إلا إقامة الحجة في عاصمة السلطنة. وليست وزارتنا الحربية والخارجية في فرنسا ببعيدتين عن وزارة المالية فجدير بوزيريهما أن يجتمعا بزميلهما ويكاشفاه بأن في الحياة مواقف لا يجوز فيها تضحية الوطنية في سبيل مصالح بعض الأفراد، وأن بعض القروض يجب مجانبة قبولها في بورصة باريز. أما أنا فإني لا أبذل فلسًا واحدًا من مالي للذين يساومون في تربة الوطن وفي موارده الطبيعية تزلفًا لبعض العظماء، ولا أعتبر من يجود بأموال الأمة على هذه الصورة مؤتمنًا أمينًا. رُبَّ قائل يقول: ليس في الأمر شيء مما تخشاه، وكل ما هنالك تفاهم بتبيين مناطق نفوذ كل دولة. نعم؛ ولكن لتحدث غدًا فتنةٌ أو ثورةٌ أو مذبحة - وليس ذلك بالأمر النادر حدوثه في آسيا الصغرى - إذن لا نلبث أن نرى العمارة الإيطالية في أضاليا، والإنكليز في الكويت، والألمان في مرسين، والفرنسويين في بيروت، والروسيين في طرابزون. ومتى وطئت أقدامهم الأرض فهيهات أن تتزحزح عنها. وإن لدينا في موقف إيطاليا اليوم في جزر بحر إيجه خير شاهد، فالأمر إذن ليس بمنحصر في تبيين مناطق النفوذ، بل هو يتجاوزه إلى تقسيم الأملاك العثمانية الأسيوية والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام) ثم علقت الأهرام عليه بما يلي: هذا هو كلام ذلك الوزير وهو لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه ولكنه يقوله لنا ونردده على أنفسنا لنتعظ ونتخذ الحيطة ونعمل بقول الشاعر: ما حكَّ جِلْدَك مثلُ ظفرِك ... فتولَّ أنت جميعَ أمرِك (المنار) صدقت الأهرام، إن هذا السياسي الكبير لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه؛ أي لا يعرفه أهل البصيرة منا، ولكنهم - واحسرتاه - قليلون فينا، والجمهور مغرور بما يرى حينًا بعد حين من إيماض الذبال قبل الخمود، كلما أومض إيماضة حسبوا أنهم في عالم الحياة النورانية داخلون، وإذا أظلم عليهم عادوا في ظلمتهم يعمهون، وإذا صاح بهم المنذرون: يا قومنا فروا إلى النجاة فإنكم إلى الذبح تساقون - وسوس لهم الموسوسون: إن هؤلاء قوم غاشّون، وعن حظيرة الإخلاص للاتحاد خارجون، وبألسنة أعدائنا الإفرنج ينطقون، أمَا ترون وميض أنوار التجديد، يلوح لأعينكم من بعيد، فابذلوا لهؤلاء المجددين كل ما تملكون من المال، تنالون جميع الآمال! ! بيَّنا في المجلد الماضي وفيما قبله ما وصلنا إليه من الخطر القريب، وبيَّنا أن الأوربيين لا يقبلون أن يأخذوا بلادنا إلا بالفتح السلمي المعبر عنه بمناطق الاقتصاد والنفوذ، وبيَّنا طريقة النجاة ولكن لمن لا يسمع ولا يبصر، وها نحن أولاء نرى غير الرسميين من ساسة الإفرنج يصرحون بذهاب ملكنا تصريحًا، والرسميين منهم يصرحون بالعمل ويعرّضون بالقول تعريضًا، وحسبنا أَنْ نصحنا وأدينا الأمانة. وإن عرضنا نفسنا للأذى والإهانة.