مقابلة ومقارنة ومفاضلة في التوحيد والتصوف بمناسبة شهرة غاندي في العالم
الفصل الأول (١) الإسلام نشأته الأولى وحاله اليوم: الإسلام دين ودولة، ملة وأمة، ساد العالم بيسر تعاليمه الدينية وسماحتها وقلتها وموافقتها للفطرة، وبعدل دولته العام، ومساواته بين البشر في الأحكام، وجعل السلطان فيه للأمة التي تختار لنفسها الإمام، ويعد إجماعها من أصول الأحكام، فتح بهذه المزايا ثلاثة أرباع العالم القديم في ثلاثة أرباع قرن تقريبًا، واهتدى به عشرات الملايين فيه من جميع الأمم باختيارهم قبل أن يتم القرن الأول. بيد أنه ابْتُلِيَ بعد عصر النور المحمدي وعصر الخلفاء الراشدين المهديين ببدع تغلغلت في تعاليمه وتربيته الدينية بالتدرج فَكَثَّرَتْهَا وعَقَّدَتْهَا حتى جعلتها أضعاف ما جاء الرسول الرءوف الرحيم عن رب العالمين، وجعلتها حَرَجًا لا يطاق احتمالها، وسرت سموم فسادها في دوله فجعلتها استبدادية، وسلبت منها سلطة الأمة على خلفائها وسلاطينها، بتأويلات رجال الدين والشرع وتحريفهم لها؛ لأجل أن يشاركوا الحكام في السيادة عليها واستغلال ثروتها، ولكن انتهى بهم ذلك إلى عصر ما عاد يطيق فيه الحكام أحكامهم فصاروا يبعدونهم من مناصب السياسة، ويحرمونهم من منصات الرياسة، إلا أفرادًا منهم يخضعون العوام لنفوذهم، ثم أدى ذلك إلى ترك بعض أحكام الشرع الإسلامي نفسه، ثم إلى ترك بعضهم له كله أصوله وفروعه. قام في الأمة رجال مصلحون يدعون الأمة إلى الرجوع إلى دينها الذي وصفه الله باليسر وبرَّأه من الحرج، وترك كل ما عرض لأهله من الخرافات والبدع، وإلى استعادة حقها في المراقبة على حكامها، والشورى في أحكامها، فناوأهم زعماء البدع والخرافات من ناحية، وأرباب الاستبداد من ناحية ثانية، وما زالت الحرب بين الفريقين سِجَالاً في جميع الأقطار الإسلامية، لم يستطع قطر منها، ولا شعب أن يبلغ من الإصلاح العام، ما بلغته أوربة واليابان، ولا وثنيو الهند في هذه الأيام، وسبب ذلك أن السواد الأعظم من شعوب الأمة لم يبلغ من الرشد أن يفقه ما دعاه إليه المصلحون فيؤلف لهم عصبية تنصرهم على المبتدعين الخرافيين، وعلى المستبدين المستكبرين، ولذلك كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى يقول: يا وَيْح الرجل الذي ليس له أمة. إن شئتم أيها المسلمون أن تفقهوا كلمة هذا الإمام المصلح الكبير فقد ضرب الزمان لكم أكبر مثل لفقهها، ترونه بأعينكم، وتسمعون أخباره كثيرًا في صحفكم، وهو زعيم الهند الكبير المهاتما غاندي. (٢) زعيم الهندوس وزعيما الإسلام وأمة كل منهما: أتظنون أيها المسلمون أن غاندي أوسع من السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري علمًا بما تصلح به الأمم وتعتز وتنال حقوقها؟ أتحسبون أنه أشد غيرة على قومه ووطنه منهما على أمتهما وأوطانهما؟ أتحسبون أنه أقوى منهما إيمانًا، أو أقوى حجة وبرهانًا، أو أجرأ جنانًا وأفصح لسانًا؟ أتتخيلون أنه أقوى منهما إرادة، أو أصح عزمًا وأشد حزمًا؟ أم تذهبون إلى أن سبب فوزه في سياسته، سخاؤه ببذل روحه في سبيل أمته (وهو آخر ما أعجب به العالم من أخباره) وأنهما كانا يبخلان بها في سبيل أمتهما؟ كلا إن كل هذه الفروض والظنون والأوهام بعيدة عن ساحة حكيم الشرق والأستاذ الإمام، فطالما عرَّضَا حياتهما للموت والقتل، بل يعتقد أكثر الناس أو جميعهم أن أولهما قد قتل بالسم قتلا، ويظن بعضهم أن الثاني كذلك، ويرى أكثرهم أنه قتل قهرًا. وكان على الرأي الأول مستر ألفرد بلنت صديق الإمام، كما صرَّح به في مذكراته التي نشرت بالعربية في العام الماضي. وأما هذا الوصال في الصيام الذي يصومه غاندي على دينهم في تعذيب الجسد لتربية النفس فقد حرَّمه وأبطل قاعدته الإسلام الذي أعطى الجسد حقه والروح حقها، على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل في الصيام وينهى عنه، ويعلل وصاله بأن الله تعالى يطعمه ويسقيه، أي يعطيه قوة الطاعم الشارب كما قالوا. على أن هذين الإمامين المجددين قد فعلا لأمتهما وأوطانها ما لم يفعل غاندي لأمته ووطنه: هما اللذان نفخا فيها روح الإصلاح الديني والسياسي والأدبي فسرى في جميع شعوبها ولكنه لما يبلغ كماله بعدُ، إنما ظهر غاندي في أمة فيها ألوف من رجال التعليم العالي والتربية الصوفية المبنية على الإيمان بوحدة الوجود، وقوة الإرادة وبذل المال والنفس فيما توجبه العقيدة، مع ثروة واسعة، وجمعيات منظمة، فوجه إرادته إلى إكمال ما بدأ به غيره من السعي للوحدة والاستقلال. وأما أمتهما الإسلامية فكانت عند ظهورهما معتلة منحلة، ليس فيها تربية دينية ولا سياسية، ولا جمعيات إصلاحية، وإنما كان التعليم الديني مناقشات لفظية في عبارات كتب هي أبعد عن العلم الصحيح من كل ما كتب سلفهم في عصر حياة العلم، وكان أهل هذا التعليم العقيم في عزلة عن العالم لا يشعرون بشيء من أطوار الأمم في ترقيها وتدليها، وقوة دولها وضعفها، وما تجدد لها من التربية والتعليم والتشريع المُوجِب للتجديد. وكان تعليمها المدني قاصرًا على فئة قليلة تعلم؛ لتكون آلات وأدوات في معمل الحكومة. يمتاز غاندي ويَفْضُل جميع زعماء قومه بجمعه بين الزعامتين الدينية والسياسية، وفي كهنتهم من الصوفية من هم أعلم منه بالدين وأشد انقطاعًا للتنسك فيه، وفي زعمائهم السياسيين من هم أعلم منه بالقوانين وسنن الاجتماع، ولكن الجمع بين الدين والدنيا إيمانًا وعلمًا وعملاً هو الذي آتاه من القوة والتأثير في جمهور أمته ما لم يؤت أحد من هؤلاء، ولا من أولئك، وبقدر استمساك أمته به واتباعهم له كان تأثير نفوذه في الدولة البريطانية، فهي في كل بلاد تملكها أو تستعمرها تحترم رجال الدين والدنيا وتستميلهم إليها بقدر نفوذهم في شعوبهم، فما القول فيمن يجمع بين النفوذين الروحي والسياسي؟ على أنها لم تر بُدًّا من سجنه، ومنع قومه من لقائه. ولقد كان كل من زعيمي الإسلام الأفغاني والمصري عالمًا دينيًّا، وصوفيًّا روحانيًّا، وعالمًا بكل ما يحتاج إليه الإصلاح العام من علم الدين وفلسفة النفس والأخلاق وسنن الاجتماع وعِبَر التاريخ، وكان كل منهما كاتبًا بليغًا، وخطيبًا مفوَّهًا، ولو وجدا في الأمة الإسلامية ما وجد غاندي من قومه الهندوس لكان ما أحدثاه من الانقلاب تامًّا كاملاً في شعب مستقل أتم الاستقلال، ولكان ذلك يسري إلى سائر الشعوب الإسلامية كما كانا يريدان. (٣) اقتباس غاندي الإصلاح الذي دعا إليه الأفغاني: فالعبرة لنا معشر المسلمين في هذا الفوز الكبير لوثني الهند أن نعلم أن الإصلاح الذي تكون به الأمة عزيزة مستقلة لا بد أن يكون دينيًّا دنيويًّا، ونحن أولى بهذا من الهندوس؛ لأنهم إنما أخذوه عنا، ألم تروا أن زعيمهم الأكبر (غاندي) قد صرَّح أخيرًا بأنه يتشبه بنبينا وبعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، ألم تَرْوِ لنا جرائدنا عنه في العام الماضي أنه نصح في بورسعيد لمن زاره من طلاب العلم بمصر من إخواننا مسلمي الهند أن يتشبهوا بالخلفاء الراشدين في سيرتهم العالية، ولا سيما تقشفهم وعدم مبالاتهم بالشدائد؟ ألم تنقل لنا قبل ذلك جرائد الهند فسورية ومصر ما أثنى به على نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام القويم وشهد بأنه حق وأمر قومه بأن يدرسوه باحترام ويحبوه، (وقد نشرنا ترجمة قوله في الجزء الثاني من منار السنة الماضية المجلد ٣٢) . ألم تعلموا أن انقسام الهندوس إلى طبقات بعضها مقدس وبعضها رجس وبعضها بين بين، هو من أصول دينهم، وأن الإسلام هو الذي جاء بالأخوة العامة وبالمساواة بين جميع البشر وعدم التفاضل بينهم بالطبقات والأجناس والتقاليد، بل بتقوى الله وهي معرفته والتقرب إليه بتزكية النفس بالعبادات والفضائل، بعد التخلي عن الشرك والرذائل؟ وأن هذا الذي يدعو إليه غاندي الآن هو من إصلاح الإسلام؟ ولقد دعانا المصلحان المجددان الأفغاني والمصري من قبله إلى الجمع بين الإصلاح الديني الروحي والدنيوي المدني والسياسي، دعوانا بأن نكون وسطًا بين الدجالين الخرافيين الدينيين، والمتفرنجين الماديين الإباحيين، وضربا لنا على ذلك الأمثال، وأقاما الحجج والبراهين، بأنه سبيل الفوز والفلاح في الدنيا والدين فحزبهما هو الحزب الوسط الذي اعترف بسداده عقلاء الأوربيين، وبأنه لا يرجى بدونه حياة ولا استقلال المسلمين، كما بينا ذلك مرارًا في المنار، وفيما بسطناه من سيرتهما في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام، ولا سيما فاتحته وخاتمته. (٤) الدين عندنا وعند الهندوس والوثنية: المعروف عند المسلمين بالإجمال في كل العالم أن دين الإسلام دين التوحيد الخالص، وأن دين الهنود من البراهمة والبوذية والسيخ وكذا البرس وغيرهم أديان شرك ووثنية، وأن دين أهل الكتاب دين توحيد طرأ عليه ابتداع الشرك والوثنية. ويقل في المسلمين من وصل علمه في هذه الأديان إلى تفصيل لهذا الإجمال ولا سيما مسلمي العرب والترك والفرس، وقد يوجد من يعلم هذا في علماء الهند الذين اطلعوا على أديان أقوامها وتاريخها ولا سيما مذهبهم في التصوف وتربيتهم عليه. إن التوحيد هو أصل دينهم أو أديانهم أيضًا، وقد طرأت عليه الوثنية طروءًا، ولهم فيها فلسفة تجتمع مع وحدة التجلي والشهود ووحدة الوجود عند صوفيتنا، وقد سرى ضرب من وثنيتهم ووثنية غيرهم من أهل الأديان القديمة التي أصلها التوحيد إلى أكثر النصارى وضرب منها إلى مبتدعي المسلمين الذين نراهم عند الشعور بالحاجة إلى السلطان الإلهي الغيبي الأعلى لجلب نفع أو دفع ضر من غير طريق الأسباب يتوجهون إلى غير الله من الصالحين، فيدعونهم ويستغيثون بهم، إما وحدهم وإما لتوسيطهم عند الله بما يسميه عوامهم سوقًا أو سياقة فيقولون: يا سيدي فلان أنا سايقك على الله أو على النبي ويسميه خواصهم توسلاً. وقلما يوجد بين هذين الفريقين من يتوجه إلى الله وحده مخلصًا له الدين كما أمر الله تعالى في آيات الأمر باتباع الحنيفية ملة إبراهيم وهو التوجه إليه وحده دون سواه، وفي دعاء افتتاح الصلاة المقتبس منها (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين) إلخ. (٥) طغمة الدعاة لعبادة القبور باسم التوصل: ويوجد من أصحاب العمائم من يدعو إلى ذلك التوجه المشترك المنافي للحنيفية، ويحتج له بأن الذي يدعو غير الله من أحبابه إنما يقصد بدعائه إياهم واستغاثته بهم تقريبهم إياه إليه عز وجل. قال بعضهم في توجيهه من كتاب ألفه للدعوة إليه: وكل ما في الأمر أنه يرى نفسه مُلَطَّخًا بقاذورات المعاصي أبعدته الغفلات عنه تعالى أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم فإن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين، وشؤم المعاصي معروف أثره في الحرمان من الخيرات) إلخ ما قال، وقرر أن الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها، وفي خارجها، وأدخل هذا في باب الكرامات، التي جعلوها عملا كسبيًّا لهم جاهلين لمعنى كونها من خوارق العادات، وواطأه على ضلاله وإضلاله ٦٣ عالمًا أزهريًّا كما ادعى وذكر أسماءهم وإمضاوات أكثرهم بخطوطهم، وبَنَى على هذا أنه انعقد عليه الإجماع؛ لأن سائر علماء الأزهر يوافقونهم فيه، وأنه يجب على جميع المسلمين اعتقاده والعلم به، وإنما الإجماع الأصولي اتفاق مجتهدي هذه الأمة وليسوا منهم، بل هو يقول كجمهورهم: إن المجتهدين قد انقرضوا من القرن الثالث، فلو أجمع جميع علماء الأزهر لما كان إجماعهم حجة شرعية. هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) إلخ، وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: ٣) وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين، فهو مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) الحديث وهو متفق عليه. ما شرع الله تعالى للعاصي أن يتوجه إلى أحد غيره من أوليائه الميتين ولا الأحياء ليقربه إليه، بل قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: ٥٣-٥٤) الآية، وقال بعد ذكر مضاعفة العذاب للمشركين والقتلة والزناة: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: ٧٠) فشرع للعصاة التقرب إليه بالتوبة من الذنب والإنابة والرجوع إليه عز وجل، والآيات والأحاديث المحكمات في هذا المعنى كثيرة هي أصل الدين في المسألة وشرع لكل مؤمن أنه يتوجه إليه حنيفًا أي مائلاً عن كل ما سواه، وأن يدعوه كفاحًا في كل ركعة من صلاته بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: ٥-٦) فيجب أن يطلب منه وحده دون سواه أن يهديه الصراط الذي استقام عليه أحبابه المُنْعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا أن يطلب ذلك ممن يعتقد أو يظن أنه منهم، بل قال تعالى لأكرمهم عليه السلام: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: ٥٦) أي الهداية بالفعل، وإنما عليه صلى الله عليه وسلم هداية التعليم المُرَادة بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: ٥٢) وفاقًا لقوله له: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: ٤٨) وقال له: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: ٢١) أي ولا نفعًا ولا غيًّا ففيه احتباك: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: ٢٢-٢٣) إلخ، والآيات في هذا المعنى عديدة. الفصل الثاني (٦) توحيد الإسلام والهندوس ومبتدعتهما وصوفيتهما: إن كتاب الله تعالى قد علَّمَنَا أنه بعث في كل أمة من الأمم رسولا يدعوهم إلى عبادته وحده واجتناب الشرك والطاغوت وإلى العمل الصالح، وأنه لما بعث محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كانت جميع الأديان قد فسدت ببدع الوثنية فَبَيَّنَ الإسلام الذي جاء لجميع أهلها دين الله الحق، وأن أساسه التوحيد المجرد، ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري، وأستاذه الدجوي للمستغيثين بالبدوي والدسوقي والمتبولي وأبو سريع وغيرهم ممن لا يُحْصَى عددهم، واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله تعالى بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين ليقربه إليه زلفى. ولا تظنوا أنه ليس عندهم صوفية لهم من الخوارق ما حار أكبر علماء الإنكليز وغيرهم في فهمه أو تأويله، بل اعترف قدماء صوفيتنا بكشفهم وخوارقهم وسموها ظلمانية أو صورية ولا أنه ليس عند طغمة مقلديهم من الحكايات التي يستدلون بها على قضاء الأموات لحاجات المستغيثين بهم ما هو أكثر وأكبر من الحكايات التي يتناقلها عَوَامنا، وأكبر مما ينقله النصارى عن سيدة لورد في فرنسة وغيرها. إن عند الهندوس علماء أقدر من هذا العالم، ومن الذين أجازوا كتابه بزعمه (وهم ٦٣ معًا من المنسوبين إلى المذاهب الأربعة) على تأويل بدعهم بفلسفة أرقى من هذه الفلسفة الباطلة التي نقلنا لكم كلمة منها، حتى إنهم أقنعوا كثيرًا من الإنكليز بدينهم فدخلوا فيه، ونشرت الصحف أن أحد دعاة النصرانية من الأميركان قد دخل فيه هو وامرأته، والمعجبون من الإفرنج بدين غاندي كثيرون، وقد قال بعضهم: إنه لم يوجد في البشر أحد يشبه المسيح مثله أو غيره، فهذا بعض أثر الهندوس في خدمة دينهم الوثني، فماذا يفعل علماؤنا في خدمة دين التوحيد المُصْلِح لجميع الأديان؟ ها أنا ذا أذكر لكم محاورة دارت بيني وبين أحد كهنة الهندوس في مدينتهم المقدسة (بنارس) في التوحيد عندهم وعندنا، بعد أن نشرت لكم مسامرة في انتقاد كتب التوحيد وتعليمه عندنا، كانت بيني وبين الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر فأقمت بها الحجة على أن تعليم التوحيد في الأزهر ومعاهد التعليم التي على منهاجه لا يصلح في عصرنا هذا للعوام، ولا للخواص، وما يجب من إصلاحه، ولم يرد عليها شيخ الأزهر بكلمة. (٧) محاورة بيني وبين كاهن هندوسي في التوحيد ووحدة الوجود: في ضحى يوم الأربعاء لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة ١٣٣٠ (٨ ... أبريل سنة ١٩١٢م) وصلت إلى بنارس (مدينة الهندوس المقدسة) فاستقبلني في محطتها (محمد ممنون حسن خان) المعاون المسلم لواليها الإنكليزي، وهو شهم أفغاني الأصل، وأنزلني ضيفًا مكرَّمًا في داره بضاحية المدينة، وهي في حديقة غناء غبياء فيها بعض الشجر المقدس عن الهنود كالبيبل والبيبر، وإذ كنا جالسين في ظل شجرة منها متدلية الأغصان مفتحة الزهر الأبيض جاء كاهن من كهنة الدين لزيارة مهراجا من أمرائهم محجور عليه لمرض عقلي بكفالة مضيفي، هو مرسل من قبل زوج المهراجا، فلما علمت أنه من علماء دينهم أحببت البحث معه بما أدونه هنا. قلت: ما الذين جعل هذا النوع من الشجر وأشرت إلى الشجرة التي فوقنا مقدسًا؟ قال: إن أوراق هذه الشجرة إذا وضعت على المجدور لا يلبث الجدري أن يذبل ويزول من قريب. قلت: إن صح هذا فهو لا يوجب لشجرة قداسة دينية، فإن لشجرة الخروع زيتًا يطهر الأمعاء من الفساد فيشفي من الذرب والهيضة، وأن لشجرة الكينا مادة تزيل الحمى، ولكل شجرة وكل مخلوق خاصية أيضًا. قال: نعم وإن كل ذلك أو كل ما في الوجود ما ظهر الفيض الإلهي (ونطق كلمة الفيض بالظاء وكان يتكلم باللغة الأوردية، ويترجم لي كلامه ترجماني السيد عبد الحق الأعظمي رحمه الله تعالى) فالله تعالى يعبد ويتوجه إليه بمظاهر وجوده ومجالي فيضه وآياته في خلقه. وذكر أن مذهبهم هذا في وحدة الوجود هو الذي ينتهي إليه كبار العارفين منا كشمس الدين التبريزي ومحيي الدين بن عربي وأمثالهم. فرددت عليه بكلام حاصله أن التوحيد الحق الذي جاء به الإسلام المجرد من شوائب الشرك، الوسط بين إفراط صوفية الهند وغيرهم وفلسفتهم في وحدة الوجود، وتفريط المشركين منهم ومن سواهم في تعديد الإله المعبود، هو التوجه إلى الله تعالى وحده غير مقترن بأحد من خلقه، مهما تكن مراتبهم في مظاهر فيضه، وحظوظهم من خواصه وآياته في خلقه، وهو المُعَبَّر عنه بالحنيفية والموصوف صاحبها بالحنيف، فهكذا يتوجه إليه المسلم الموحد الحنيف عند الدعاء والصلاة والذكر، يلاحظ أنه هو العلي العظيم القاهر فوق عباده، فلا يصوب نظر قلبه إلى ما دونه عند وقوفه في حضرة مناجاته، وبسط أكف الحاجة إلى كرمه، والسجود والذل لعظمته وكبريائه، وهو قد كرَّم الإنسان بالعبودية له، وفرض عليه مخاطبته كفاحًا بغير وساطة كما ترى في سورة الفاتحة، وفي غيرها من آيات كتابه، كقوله فيها وهو ما نقرؤه في كل ركعة من صلاتنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) وقوله في غيرها: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) . وأما إذا نظر المسلم إلى كل من هؤلاء المخلوقات وحده فمقتضى كمال التوحيد ألا يحجبه شيء من آياته تعالى فيها وما أودع فيها من جمال وخواص ومنافع لعباده عن كونها من آلائه ومظاهر فيضه، وتجليات أسمائه وصفاته، ولا عن تسخيره بعضها لبعض في عالم الأسباب، ووقوف كل منها في محيطه، لا يتجاوزه إلى مشاركته تعالى في شيء مما هو فوق الأسباب المسخرة والسنن العامة في خلقه، فهو يعطي كل مخلوق منها حقه، ويعطي ربها وخالقها حقه، ومن ثم لا يشركها معه بشيء ما من التقديس والتعبد، لا بالذكر ولا بالدعاء ولا بالتوجه، ولا بوضعها أو وضع شيء مما يذكر بها من صورة أو تمثال أو قبر في بيوت العبادة تفعلونه في هياكل هذه المدينة (بنارس) وغيرها اهـ. (٨) معابد الهندوس ومعابد غيرهم: في بنارس هذه قبر أبي البشر آدم عليه السلام وقبر زوجه وقبر أمه (ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب، كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره من أئمة أبنائه (عليهن السلام والرضوان) في كربلاء والكاظمية وغيرها، وبجانب قبة آدم تمثال العجل الأحمر الذين يزعمون أنه كان يمتطيه في انتقاله من مكان إلى آخر، وترى الأزهار منثورة عليه ومن حوله. وجميع هذه القبور تُعْبَد بالطواف حولها والتمسح بها، وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنِّحَل أو التعبدات فيها أن علماء وثني الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في عباداتها، كيف وهم أئمة الفلسفة الأولى، ولا سيما فلسفة علم النفس والأخلاق والتصوف وتربية الإرادة، وعنهم أخذ غيرهم من الشعوب، وقد بينت هذه الحقائق في مواضع من المنار وتفسير القرآن. أفيصح لنا معشر المسلمين أن نرى وثني الهند يقتبسون من ديننا الحق ما يصلحون به دينهم الفاسد، ويبقى فينا من يصرون على البدع الوثنية التي اتبعنا بها سننهم وسنن من قلدهم قبلنا من أهل الكتاب؟ أما آن لنا أن نعلم أننا في مصر وغيرها مهملون لعلم التوحيد وهو أعلى العرفان الذي يصلح النفوس ويزكيها، ويربأ بها أن تقبل الاستبداد، أو تدين بالذل والعبودية لغير خالقها، وكذا تعليم أخلاق الإسلام وتاريخه، وأن وثني الهند وأهل الكتاب أشد عناية بتعليم دينهم منا؟ أما آن لنا أن نعلم أن فشو هذه الخرافات وتأييد بعض المعممين لها باسم الإسلام، هو أكبر أسباب ترك أكثر معلمي المدارس العصرية لهداية الإسلام، وحسبان بعضهم أنه كغيره من الأديان الوثنية الخرافية؟ (٩) الإسلام بين الخرافيين والإباحيين: لقد كاد الإسلام يضيع بين فريقين أحدهما غلبت عليه الخرافات والبدع الملصقة بالدين، فهو يطلب سعادته في الدنيا والآخرة من قبور الميتين، والآخر استحوذت عليه الشهوات البدنية فارتكس في حمأة الإباحة، المفسدة للصحة، المفنية للثروة، الهادمة لبناء الأسرة. وكل من الفريقين في ضلال مبين، العارفون بحقيقة الإسلام الجامع بين مصالح الدنيا والآخرة قد أصبح صوتهم خافتًا لفقد الزعامة التي تجمع شملهم، وتصدي الخرافيين لمحاربتهم، وتأييد الزعامة الدينية لهؤلاء بمجلة الأزهر، ولم يسبق لهذا نظير في القرون الأخيرة، فالأمة ضائعة بين الخرافيين والإباحيين. كتب بعض رجال التاريخ في بعض الصحف أن السيدة زينب بنت الإمام الحسين السبط عليهما السلام غير مدفونة في المشهد المبني لها في المسجد المضاف إلى هذا الاسم، فتصدى الخرافيون للرد على هؤلاء المؤرخين، وكان دليلهم على الإثبات قول الشعراني: إن شيخه عليًّا الخواص قد علم بالكشف وجودها في هذا القبر، وهذا الكشف الذي يدَّعُونه ليس بحجة شرعية ولا عقلية ولا لغوية، وكتب الشعراني هذا طافحة بالخرافات التي لا يقبلها عقل ولا دين، ولعلها أقوى أسباب الاستمساك بها عند كثير من المعممين. من هذه الردود أن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً في الموضوع نشره في المقطم يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الإمام الحسين في القبر المنسوب إليه: (إنك جئتَ تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية ... تريد أن تطير البقية من دينهم، وذكر أن وجود أبناء النبوة بين ظهرانيهم كما يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. وأن الأمة عامتها وخاصتها يرون الأنوار النبوية تتلألأ في مقاماتهم، والعزة الهاشمية تتجلى على أضرحتهم، ويحسون بذلك أثناء الزيارة ويشعرون أنهم يتوسلون بهم إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم فتقضى، وفي شفاء مرضاهم فيشفون) . ويحتجون بمثل هذا على وجود رأس الحسين عليه السلام في المشهد المعروف بمصر، وأنه حي فيه يقضي حوائج المستغيثين به، ولا ندري ما يقولون في حكمة حياة الرأس وحده في مصر والجسد وحده في العراق، وكون كل منهما حيًّا يقضي حوائج الناس أي فلا حاجة مع وجود هذه المقامات إلى الطب والأطباء، ولا إلى الأسباب الدنيوية في قضاء الحاجات، بل لا حاجة إلى دعاء الله تعالى وحده فيما وراء الأسباب والعادات. (١٠) اقتراح مؤتمر ديني: أيها المسلمون: إن دعاة البدع الخرافية قد نظموا دعايتهم وألفوا لها عصبية يؤيدونها بإيهام العامة إجماع علماء الأزهر عليها (وحاشاهم) وبمجلة مشيخة الأزهر، وهو ظاهر فيها، والأزهر قوة معنوية لا تُنْكَر، والعامة قوة أكبر وأخطر، والله أجل وأكبر، ودينه أظهر وأنور، ومعاذ الله أن يجمع علماء الأزهر على بدع أحدثها ملاحدة الباطنية وغيرهم بعد عصر النبوة، وعهد الأئمة وخير قرون الملة، ولكن آن لأهل البصيرة من المسلمين أن يستبينوا حقيقة هذه الدعاية الجديدة ويمحصوها في جرائدهم بأقلام الأحرار من علماء الأزهر الذين لا يخافون انتقام أستاذهم الأكبرة، وأن يلخصوا هذه البدع في قضايا كلية، ويطالبوا مجلس الأزهر الأعلى بعقد مؤتمر إسلامي عام لبيان الحق فيها، فإن لم يفعل فليطالبوا الحكومة بذلك، فإنه لا يوجد في رجال الحكومة من يستطيع الإيمان بهذه الخرافات المبتدعة، بل هي أكبر أسباب فشو الإلحاد في نابتة الأمة، وإننا سنبين صفة هذا المؤتمر وموضوعه في مقال خاص، إذا أيدت الأمة طلبنا له.