قال حضرة الدكتور: وإذا فتشنا الأحاديث - إلى أن قال - فالقرآن لا يجوز أن ينسخ بالسنة ولو كانت متواترة , وبه قال الإمام الشافعي رحمه الله , وليس فيه منسوخ مطلقًًا كما قال أئمة بعض المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني , وكما دل على ذلك الاستقراء والدليل , وأتى بكلام , ثم قال: والذي نراه نحن أن العقل لا يستقبح وقوع النسخ في القرآن الشريف إذا كان القرآن يبين لنا نصًّا جميع ما نسخ، وجميع ما لم ينسخ، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بيانًا ينقل متواترًا ويتفق عليه عملاً بين المسلمين , إلخ. والناظر يرى بادئ بدء بعد المقارنة بين كلام حضرة الدكتور أن قوله (والذي نراه نحن، إلخ) هو رجوع منه ونسخ لقوله: فالقرآن لا يجوز أن يُنسخ بالسنة ولو كانت متواترةً؛ لأنه إذا كان النسخ هو كما ذكر إبطال حكم إلى بدل أو لغير بدل , وجاز أن يقبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية منسوخة , لا إلى بدل مثلاً في حق من علم صدور ذلك القول منه صلى الله عليه وسلم , فما ذلك إلا قول بجواز نسخ القرآن بالسنة , وهو مناقض لقوله: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة. وسيأتي لنا كلام على الأخبار التي يلزم الأخذ بها , ويعلم صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ما ذكر حضرة الدكتور من اشتراط أحد الأمرين للنسخ , إما تبيين القرآن لنا نصًّا جميع ما نسخ وجميع ما لم ينسخ , أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك وينقل متواتراَ , إلخ. فنقول فيه: إن حضرته ذكر أن النسخ لمقتض لا يستقبح عقلاً يَعْنِي أنه جائز عقلاً , فهل ما اشترطه للنسخ واجب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم عقلاً , فما هو؟ أم شرعًا، فأين هو؟ وهل يشترط ذلك فيما نسخ لفظه ومعناه لا إلى بدل؛ لأن تعريف النسخ الذي ذكره أول الرسالة يشمله , وليس هو داخل فيما أنكر وقوعه من نسخ لفظ بلفظ , أو نسخ لفظ وإبقاء حكمه؟ وما معنى اشتراط التواتر , فإن النسخ إنما كان يقع في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وَقْتَ نًُزُول الوحي , وذلك مضى وانقضى , والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يلزموا الأُمّة , ولم يوجبوا عليهم أن ينقلوا الدين إلى من بعدهم بالتواتر , ولم نَرَ ذلك ولا في موضع من كلامهما , ولم يجعلا ذلك شرطًا لا للتبليغ ولا للقبول , وسيأتي مزيد بيان لذلك. إن اشتراط حضرته ذلك مع اشتراطه أن يتفق عليه عملاً بين المسلمين مِمّا لا يجوز عقلاً لامتناع تأخُّر ما يلزم في وجود شيء عن وجوده , كأسبابه وشروط وجوده والنسخ قد وقع؛ بدليل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: ١٠٦) الآية , والتواتر واتفاق عمل المسلمين إنما هو بعد ذلك، والله تعالى لم ينصب ذلك شرطاً لِقَبُولِنَا ذلك , أو أن الحال لا ينكشف لنا إلا بأحدهما , فظهر أن ذلك لا يصلح لأن يكون سببًا للنسخ، ولا لبلوغه إلينا. أما اشتراط حضرته في رسالتيه لبيان النسخ طريقة معينة مخصوصة , وهي أن يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية ناسخة , وهذه منسوخة , فهو التزام لما لا يلزم , واكتفاء بما لا يكفي , ولا يطرد في جميع المسائل , فإن النسخ مشترك لفظًا يصدق على معاني مختلفة وصدقه عليها مختلف فيه , ثم هو في أفراد كل واحد من مَا صِدْقَاتِه قد يكون عامًّا. ثم معرفة المراد منه قد يكون مجملاً , فإذا قيل هذه الآية منسوخة أو هذه ناسخة فقط. ولم يقرن ذلك بما يعين المراد احتمل ذلك نسخ كل هذه الآية أو بعضها أو زيادة أمر في الناسخ مع بقاء المزيد , أو رفع شرط أو قيد أو زيادتهما إلى غير ذلك فتبين أن مجرد قوله: هذه الآية ناسخة وهذه منسوخة لا يكفي في بيان المراد إلا بانضمام ما يبين المراد مع ذلك مما يتبين به مورد النسخ المعين , وإذا كان الله أجاز النسخ في شرعه بجميع معانيه كما دل عليه كلام السلف , أو بعضها كما هو قول المتأخرين ففي الموارد المخصوصة؛ أي: ووقت البيان لا يجوز أن يؤتى بما لا يتبين المراد منه إلا مع مبين - والبيان: إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيز التجلي , فظهر بذلك أن معرفة الناسخ والمنسوخ لا يتوقف على خصوص ما ذكره حضرة الدكتور بل معرفته في كل محل بما يبين المراد هو الأولى , وإن لم يكن بلفظ ناسخ أو منسوخ , ومن ذلك ما ذكره العلماء في معرفة الطريق الذي يكون الناسخ بها ناسخًا والمنسوخ منسوخًا. وَلَيْتَ شِعْرِي , ألا يكفي في الدلالة على النسخ تأخّر التاريخ مع التعارض والتناقض بين الحكمين , ككون الشيء في آية حلالاً , وفي آية بعدها متأخرة نزولاً حرامًا أو العكس؟ وقد ذكر علماء الأصول طرق معرفة النسخ والناسخ والمنسوخ , وبينوا ذلك فارجع إلى كتبهم إن شِئْتَ. ثم لا ندري ما الموجب لطعن الطاعنين، واستهزاء الهازئين بعد ثبوت جواز النسخ عقلاً وشرعًا ووضعًا , ووقوعه في الشرائع فعلاً كما اعترف بذلك حضرة الدكتور؛ فليتأمل حضرته في هذا الموضع , وليعلم أنه بادر إلى التهكم والتعريض بمخالفيه إلى استحقاقهم أشد العذاب قبل أوانه؛ إذ لم يقم حجة على ما قال , ولم يحط علمًا بما لديهم من الحجج؛ لا سِيَّمَا معاصريه , إذ لا يمكننا إنكار اطلاعه على ما هو مسطور في زبر الأولين , وإنْ كنا نستبعد إمكانَ اطلاعه على الكل نقول ذلك قياسًا على أنفسنا , وكما قال ذلك الكبار. ونقول أيضًا: إذا كان النسخ هو ما ذكرنا سابقًا عن السلف رضي الله عنهم , وما ذكره حضرته وأنه يرى أن العقل لا يستقبحه , فلا محل للتشنيع على مَنْ قال بوقوعه في القرآن , وعليه فالقول بوُقُوع النسخ في القرآن أو عدم وقوعه منحصر في الدليل النقلي , وفي الاستقراء؛ أي: تتبع آيات القرآن , فحضرة الدكتور استدل على عدم وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: ١١٥) حيث قال: فلا يجوز أن يبدله الله بعد وعده بعدم تبديله؛ إذ النكرة (أي لفظ مبدل) في سياق النفي تعم. وأقول: قد اختلف في أن المتكلم هل يدخل في عموم خطابه أم لا؟ والحق أنه لا يدخل إلا بقرينة , وليس هنا قرينةٌ تدل على ذاك , بل القرينة تدل على عدم دخوله. فالآية المذكورة ليس هي عندنا مما تدل على منع النسخ بمعناه السابق , وإنما تدل على صيانة القرآن عن انتحال المبطلين وعبث أعداء الدين , وأن الله لا يجعل لهم عليه سبيلاً , وذلك نظير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) , وقوله: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) , ونقول أيضًا: نفي الشيء فرع عن ثبوته , ولا شَكَّ هنا أن المراد بنفي المبدل نفي جميع التبديل بجميع معانيه , وأكثر معاني التبديل لا يجوز أن ينسب إلى الإله؛ وعليه فلا يدخل في عموم المنفي كما خصص عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ٢٠) بما سوى الواجب لاستحالة تعلق القدرة به - ويقرب من ذلك قوله تعالى: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} (الجن: ٢٦) فإنه لولا الاستثناءُ لمن ذكره لَوَجَب أن لا يطلع على غيبه أحد مطلقًا , لكنه لا يجوز بحال أن يقال: إنه تعالى داخل في عموم المنفي. فتبين بما ذكرناه أن التبديل المنفي في قوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: ١١٥) إنما هو التبديل الذي يكون مِن البشر , كما كان يفعله اليهود والنصارى في كتابيهم. أما التبديل بمعنى النسخ بأن يبدل الله آية مكان آية أو ينسخ حكمها هو أو رسوله لا من تلقاء نفسه , فهذا لا عَيْبَ فيه كما ذكر الدكتور , والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن التبديل من تلقاء نفسه , وإذا كان النسخ هو ما ذكرناه عن السلف , فإنكار وقوعه مكابرة، ومخالفة لما هو ثابت في الواقع كما دل على ذلك الاستقراء؛ إذ ما من عامٍّ إلا وقد خصّ , وما من مطلق إلا وقد قيد إلا آيات التوحيد، وما ضاهاها. وأيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: ١٠١) خاصة في معنى من معاني التبديل , ومحله المعين والفاعل معلوم , فهي بلا ريبَ نصّ في جواز النسخ الذي لا عيبَ فيه عقلاً , أمّا قول حضرة الدكتور فما ذكرناه هنا وهناك يدل على أن تفسير الآية هكذا: وإذا أتينا بحكم في الشريعة الإسلامية بدل حكم في الشرائع السابقة , ووضعناه مكانَه قالوا: إنما أنت مفتر كذّاب تختلق الأحكام , وتنسبها إلى الله إلى آخر الآيات - وزعم أن القول بأنه مفترٍ في قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل: ١٠١) إنما صدر من أهل الكتاب الموجودين بالمدينة إلخ. وأقول: إن قوله إنما صدر من أهل الكتاب الموجودين بالمدنية هو اعتراف منه بجواز أن تكون هذه الآية مدنيةً , فاحفظه. ثم إن ما ذكره حضرته، وحمل الآية عليه غير صحيح لِمَا قدمناه؛ ولأن سياق الآية لا يدل عليه , وإنما يدل على خلافه , فإنه تعالى ذكر المشركين , ثم حكى هذا القولَ عنهم , ورَدّ عليهم بأن أكثرهم لا يعلمون؛ لأنهم ليس معهم كتاب والمشركون هم الذين زعموا أن الغلام النصراني يُعَلّم النبي صلى الله عليه وسلم افتراءً وكذبًا كما كذبهم الله في هذه الآية وغيرها، ويدل على ذلك أيضًا أن الله لما بَرَّأَ رسولَه صلى الله عليه وسلم من تُهَمهم الكاذبة ذَكَرَ أن سبب تهجمهم وإقدامهم على ما هو واضح البطلان إنما هو ضلالهم , وعدم إيمانهم بآياته , فإنه تعالى لا يهديهم، وأكد في الردّ عليهم بأن المفتري في تبديل آيات الله إنما يكون مَنْ لا يؤمن بها , وهذا نص أيضًا في إرادة المشركين , فظهر أن القائل بأنه مفترٍ إنما هم المشركون , ولأن الآيات قبلها وبعدها إنما هي في ذكر مساوئ المشركين , وتحذير المؤمنين من التخلق بأخلاقهم، والاقتداء بعاداتهم , وعن الإصغاء والالتفات إلى شُبُهاتهم عند نزول ناسخ، أو تبديل آية مكانَ آية؛ لأنهم لا يؤمنون بآيات الله , فلم يهدهم للصواب في الجدل , فهم يستدلون على كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يرون في كتابه من النسخ لاعتقادهم أن ذلك تناقض لعدم علمهم بما في ذلك من الحكم والمصالح. أما أهل الكتاب (اليهود) , فلم يَأْتِ لهم ذكر حتى يعودَ الضمير إليهم وأيضًا , فإن الله تعالى قد عيّن هؤلاء القائلين بأنهم الذين لا يؤمنون بآياته , وهذا لا يصحّ صدقه على اليهود إذا كان المُراد بالآيات: الأحكام , وبالآية الواحدة الحكم لإيمانهم بالتوراة , وإن أريد بالآيات الجمل من الكلام المحدود المخصوصة , فإن أطلقت على عبارات التوراة فكذلك , وإن لم تطلق بَطَلَ حمْل الآية المبدلة على شيء من عبارات التوراة، فثبت بذلك أن المراد: وإذا بدلنا آية من القرآن مكان آية منه، قال المشركون: إنما أنت مفتر. وهم لا علم لهم بالتوراة ولا بأحكامها. ثم نقول: لو كان التبديل؛ أي: النسخ ممنوعًا في القرآن مطلقًا , وأن الله لا يبدل آية مكان آية لَمَا صَحّ تقييده في جواب الكفار حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (يونس: ١٥) حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: ١٥) , فإنه لا معنى للتقييد حينئذ وبذاك وهذا تعين عدم دخول المتكلم , وهو الله تعالى في عموم لفظ (مبدل) من قوله: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: ١١٥) . إن من تتبع آيات الكتاب وجد فيه ما يلجئه إلى القول بوقوع النسخ فيه فعلاً كما أخبر الله بوقوعه فيه مستدلاًّ على جواز ذلك , وحسنه بارتباط الشرع بالقدر أي: تلازمهما - لا ينكر ذلك إلا من كابر وجدانه , وخالف ظاهر القرآن , وخرج به عن حدود مرامه الذي فهمه رسوله صلى الله عليه وسلم , وبيَّنَه لأصحابه رضي الله عنهم , الذين شاهدوا التنزيل , وعرفوا التأويلَ والتفسير , والمراد من الخطاب لمعاينتهم الوقائع والأسباب , فلا يجوز لمن لم يحضر الوقائع، ولم يعرف الأسباب والموانع ولم يمارس محاورات أهل الشرائع أن يهجم على كلامهم - فضلاً عن كلام الله - ويؤوّله بأن يحمله على معاني يفترضها , مع ترك ما سيق الكلام فيه وله. إنما يختار هذه الطريقة المحرفون الخرَّاصون كالقرامطة والملحدين من المتصوفة، وسائر الطوائف المبتدعة , الذين إذا تكلموا في القرآن يتراءى للناظر في كلامهم أنهم كأنما يتكلمون في دين جديد نزل عليهم ابتداءً , وكأنه لم يكن نزل على رسول قد بين حدوده , وأوضح أحكامه , وفسر مرامه , وكأنه لم تتلقه أمة , ولم تعمل به الطوائف حتى جاء هؤلاء بآرائهم السخيفة , وأقوالهم الساقطة الضعيفة - كل ذلك لم يقع من هؤلاء إلا بتركهم السنن النبوية , وهجرهم لطريق السلف وبالأخص آثار الصحابة رضي الله عنهم ولنعد إلى ما كنا بصدده، فنقول: قد تقدم لنا أن قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: ١٠١) دليل واضح على جواز النسخ في القرآن كما أنه في سائر الأديان , وأنه لا تعارض بين هذه الآية وقوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: ١١٥) الآية. ومن الأدلة الناصة على جواز النسخ في القرآن , بل على وقوعه قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: ١٠٦) الآية , وقد قدمنا كلام السلف في تفسير هذه الآية نقلاً عن تفسير ابن كثير رحمه الله. ودونك ما ذكر حضرة الدكتور في تفسيرها , فإنه قال في رسالة له سابقة أدرجت في الجزء الثاني من المجلد التاسع من المنار الأغر بعد أن ذكر قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) ما نصه: (الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم , والمعنى: ما ننسخ من آية نقيمها دليلاً على نبوة نبي من الأنبياء؛ أي: نُزيلها، ونترك تأييد نبي آخر بها , أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها , فإننا بما لنا من القدرة الكاملة، والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع، وإثبات النبوة , أو مثلها في ذلك) . ونحن ندعو القراء الكرام إلى المقارنة بين ما نقل عن السلف في تفسير هذه الآية , وما قاله حضرة الدكتور , فإذا كان لفظ آية يدل بالاشتراك اللفظي على معان متعددة؛ فهل يجوز لأحد كائنًا مَن كان ترْك المأثور عن العارفين بالمراد، واختراع معنى آخَرَ مِن عندِ نفسه بعد أكثر من ثَلاَثَ عَشْرَةَ مائة سنة؟ وهل هذا إلا تفسير بالرأي في مقابلة المأثور , الذي توافرت الأدلّة الشرعية على منعه، والتحذير منه كما دل العقل على قُبْح تفسير كلام أحد على غير مراده. ونقول أيضًا: إذا كانت الآية هنا هي (المعجزة) كما يقول حضرة الدكتور , فما معنى إزالتها , وترك تأييد نبي آخر بها؟ فإن المعجزات إنما هي أمور خارقة للعادة يظهرها الله على أيدي أنبيائه لتدل على صدق دعواهم , وقد انقضت بانقضاء الزمن المشترط لوجودها , وليست هي جاريةً على سنن الكون المعتادة حتى تبقى ككل باقٍ يرى تابعًا وخاضعًا لأسبابه ونواميس جريه في بقائه وتطوراته , وأكثر المعجزات أعراض لا قيامَ لها بنفسها , وإنما هي واقعات تنقلها الأمم كسائر الأخبار. إنه لا يمكن تأييد نبي بمعجزة هي نفس معجزة نبي آخر , والممكن إنما هو أن يؤيد بمثلها؛ لأنها إن كانت معجزة النبي الأول موجودة بين أيدي الناس , فكونها معجزة للثاني ممتنع ولأفضى ذلك إلى تحصيل الحاصل , وإن كانت قد فقدت فالأخرى إنما هي مثلها، والنسخ أو الإزالة أو الترك لا يكون إلا لما يجوز أن يظهر , أو لما هو موجود، فإذا امتنع عقلاً أن تكون نفس معجزة نبي متقدم هي نفس معجزة نبي متأخر لم يبقَ في تفسير الآية إلا أن يُقال هكذا: ما ننسخ من آية , أي من مثل آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها. ومؤداه: ما نترك مثل معجزة إلا نأتِ بمثلها. أليس هذا تناقضًا يجب أن ينزه القرآن عنه؟ ونقول أيضًا: إنه لو سلم جواز وقوع النسخ في المعجزات فإنه لا يتصور وقوعه إلا في القرآن حين إمكان النسخ؛ أي: وقت نزول القرآن، وقبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فثبت الاستدلال بهذه الآية على جواز النسخ، ووقوعه في القرآن حتى على تفسير حضرة الدكتور للآية بمعنى المعجزة , فإن القرآن من أعظم معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم. ونقول أيضًا: ما ذكرناه عن السلف هو المتعين , ويلزم الأخذ به؛ لأن هذا الدين إنما جاءنا بتوسطهم , فلا يجوز لنا أن نخرج عن جميع أقوالهم إلا بِحُجّة واضحة , ومن المحال أن يوجد لأحد منهم قول موافق لها. وأيضًا لو كان هذا الكتاب نزل علينا ابتداءً، ولم يبينه مبين لنا لَمَا جاز لنا أن نستبد بعقولنا في مواطن الاشتباه , وعدم وجود مرجح، ومن هنا قالوا: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وفوق ذلك كله أن هذه الآية ذكرت في ذيل خطاب الله لعباده المؤمنين تسكينًا لهم , ودفعًا للشبه التي يبثها بينهم أهل الكتاب والمشركون من قولهم: إن محمدًا يأمر بالشيء، ويمنعه غدًا. إلى غير ذلك من تشكيكاتهم الكاذبة , فرد الله عليهم , وأعلم عباده المؤمنين بالحكمة في ذلك , ونبههم على أن هذا إنما هو حسد من أعدائهم ودونك الآية وما قبلها يتبين لك أن ما ذكرناه عن السلف هو المطابق لظاهر سياق الآية بعد ما عرفناك فساد تفسير حضرة الدكتور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٤-١٠٦) , فالآية دلت على أن الذين كفروا يكرهون نزول الخير على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين , ولما كان النسخ إنما هو زيادة خير، وفضل من الله كنسخ بعض الأحكام الشاقة التي كلف بها بني إسرائيل , وكنسخ ما فيه خير مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما هو أكثر خيرًا منه ذكره تبارك وتعالى كالفرع من قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: ١٠٥) , وأتبع الآية بقوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٦) استدلالاً لصحة النسخ؛ لأنه إذا كان من المقرر لديك، ومن المسلم لَدَى أعدائك أن الله تعالى هو خالق الخلق، واستعدادهم المختلف باختلاف الزمان والمكان , فمن اللازم لذلك إذا وجد المقتضى نسخ بعض الأحكام والتعاليم الأهلية إلى ما هو أنسب بأحوال المكلفين، وأكثر خيرًا لهم، وهذا ظاهر في تلازم الخلق والأمر , وقوله تعالى عقب ذلك: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (البقرة: ١٠٧) هو زيادة لإيضاح الحجة معناه أنه إذا كان هو الخالق للأشياء , فهو يعلم المناسب والأصلح بها , وإذا كان هو الولي والملك فلا بُدَّ لكل ملك من أحكام، فإذا كان الملك ذا حكمة وعدل مختبرًا أحوال الرعية فلا يليق بعدله ترك ما فيه زيادة الخير والأنسب بأحوالهم لما هو أحط منه مع علمه بذلك. أما قول حضرة الدكتور في رسالته السابقة بعد قوله تعالى: {أوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) : ننسها الناس لطول العهد بها (يعني: المعجزة) إلى آخره - فيقال عليه: إن الضمير في] نُنْسِهَا [عائد على الآية , وقد قدمنا فساد تفسيرها بالمعجزة؛ لأنا نقول: إن الله قد وعد في هذه الآية بأنه إذا نسخ آيةً أو أنساها فهو لا محالةَ يأتي بخير منها أو مثلها وعدًا لازمًا لتلازم الشرط والجزاء - فإذا أبى الدكتور تفسير الآية إلا بالمعجزة فهل أتى الله بخير من كل معجزة أنسيت أو أتى بمثل كل معجزة أنسيت كل واحد من أنبيائه؟ وما معنى قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ} (الأعلى: ٦ - ٧) فهل كان يقرئه عدد معجزات الأنبياء قبله عليه وعليهم الصلاة والسلام. وأيضًا قد قرأ بعض القراء (ما ننسخ من آية أو ننسأها) بفتح النون وهمزة بعد السين، ومعناه حينئذ: نؤخرها وحضرة الدكتور ذكر أن معنى ما ننسخ: ما نترك. وعليه يكون المعنى هكذا: ما ننسخ؛ أي: ما نترك من آية أي: معجزة أو ننسأها أي: نؤخرها. وهو على ما فيه من الركاكة ومخالفة ما ذكرناه عن السلف لا يعطي ما أراده. ذكر حضرة الدكتور في رسالته السابقة بعض الآيات المنسوخة، ورد بزعمه على من قال بنسخها وحيث إني رأيته إنما مال إلى التأويلات الزائفة، ومع ذلك هي لا تنتج مراده. فلم أر للتطويل فائدة بالرد عليه؛ لأن ما ذكره بين البطلان بنفسه. ويكفي في الجواب عليه عن ذلك كله حتى بعد تسليم تأويلاته أن يقال له بجواب مجمل: إن هذه الآيات التي زعمت أنها ليست بمنسوخة كآية تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك هل ترى أنها محكمة بمعنى أن دلالتها حين نزولها وبعد نزول آيات التخفيف بعدها على السواء من كل وجه؟ فإن قلت: نعم. فعليك البيان بشرط عدم التأويل والخروج عن الظاهر، لأنا نرى التأويل للمنسوخ على غير ظاهره وإبقاء الناسخ على ظاهره هو القول بالنسخ عندنا لا فرق إلا في اللفظ والعبارة. وإن قلت بتغيير الدلالة ولو من بعض الوجوه فقد قلت بالنسخ صراحة، ووافقتنا وهو غاية ما تتمناه. لم يقع خلاف بين المسلمين في جواز النسخ ووقوعه من غير فرق بين كونه في الكتاب أو السنة حتى قيل: إنه مما اتفق عليه أهل الملل - إلا اليهود فقد منعوه للتوراة، وقالوا: إنه لا يجوز أن يرسل الله رسولاً بنسخ شيء من التوراة. قالوا ذلك وجوزوا لأحبارهم نسخ ما شاءوا من التوراة - وإلا ما يحكى عن أبي مسلم الأصفهاني أنه قال: لم يقع شيء من ذلك في القرآن. وهذا مما يعد من أكبر غلطاته حتى قال الحافظ ابن كثير بعد أن حكى قوله: وقوله هذا ضعيف مردود، ومرذول. وقال السيد صديق حسن خان ولعله نقلاً عن الإمام الشوكاني: وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل لهذه الشريعة المحمدية جهلاً قطعيًّا وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين، لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى الغاية. انتهى. ولم أر أحدًا حكى قول الأصفهاني إلا وأنحى عنه باللوم. ونحن لا نرى في الطعن فائدة [١] لأنا نعلم أنه ما من أحد غير أنبياء الله ورسله إلا ويؤخذ من قوله ويترك، ومن تتبع الغلطات ولو كبار الرجال وجدها في كل شيء من الأشياء، وأمر من الأمور، ولا يبقى بيديه شيء من الحق، وذلك هو الخسران المبين. ((يتبع بمقال تالٍ))