للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القديم في الحديث والأول في الآخر

ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي كله
ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام , وحتى صرنا نعد وجود مثل
سعادة محمود سامي باشا من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة العربية
رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها , والظاهر
أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد وأن النابغين
فيها أكثر منهم في غيرها. ولقد وافى هذه البلاد من أشْهُرٍ رجل فاضل جدير بلقب
(الأديب) وقل الجدير به في هذا العصر ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن
الكاظمي (نسبة لكاظم بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح
والأخلاق الحسنة من الشاعر المفلق العذب المنطق الذي ناهز المقدمين , وخاطر
المقرمين. ومن السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس حتى إنك لا تشعر
في أول عهدك به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة. قال
صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب في مصر:
إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته فلما خبرته علمت أنه لا
تطيب مفارقته. وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير
الطرابلسي:
إِباء فارس في لين الشآم مع ... الظرف العراقي واللفظ الحجازي ...
أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة: طريقة الشريف ومهيار ,
وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود , الأهم من بلاغة القول
ولقد طلبنا منه شيئًا من شعره فوعدنا بذلك , ونشرت جريدة المؤيد الغراء
منذ يومين قصديته العينية التي نظمها في مصر فرأينا أن نتحف قراء المنار
بنشرها تباعًا , وهى:
إلى كم تجيل الطرف والدار بلقع ... أما شغلت عينيك بالجزع أدمع
أأنت معيري عبرة كلما ونت ... يحفزِها برح الغرام فتسرع
وهل عريت أرض كسوتُ أديمَها ... بماء شئوني فهي زهراء ممرع
فمن حرّ أنفاسي وفيض محاجري ... مصيف تراءى في ثراها ومربع
ألم تر جرعاء الحمى كيف روضت [١] ... وسال بمحمرّ الشقائق أجرع
فهاتيك من دمعي وهذاك من دمي ... فللعين ذا مبكى وللقلب مجزع
جرى ماء جفني عن سويداء مهجتي ... فمن أجل ذا وشيُ الرياض مجزّع [٢]
أفي كل دار أنت ماتح عبرة ... إذا غاض منها مدمع فاض مدمع
كأنك فيها ناظر رسم منزل ... حمته عن النظارة نكباء زعزع
تذكرت شعبًا في رباها ولعلعًا ... فهاج لكل البرحاء شعب ولعلع
كأن على عينيك عارض مزنة ... تصوب عزاليها ولا تتقشع
كأن بها خرقاء أوهت مزادها ... وليس لوهى سال واديه مرقع
تتبع تجد ما يغمر القلب سلوة ... وهل عدم السلوان من يتتبع
وهيهات تسلى الدار وهي فجيعة ... ويسلو أسير الدار وهو مفجع
وأفدح خطب شفني بصروفه ... وجرعني ما لم أكن أتجرع
وقوفي على تلك الديار وقد عفت ... معالم كانت زاهيات وأربع
معالم أعفاها البلى فتوزعت ... وما هي إلا أكبد تتوزع
وقفت عليها آخر الليل وقفة ... أودع من أطلالها ما أودع
ولا مسعد إلا الدموع وكيف بي ... إذا جف ما عندي من الدمع أجمع
أيا بانة الوعساء من أعلم الذوى ... بفرعك حتى اجتُث من حيث يفرع
ويا غفلات الجزع هل بعد عالج ... معاد لأيام الغميم ومرجع
فكم ليلة بتنا نَشَاوى ولا طلا ... وصرعى وما غير الأحاديث تصرع
يطير بنا الشوق ارتياحًا وكلنا ... رذايا [٣] هوى في ندوة الحي وقع
فمن مغرم يصبو لنجواه مغرم ... ومن مولع يرثي لشكواه مولع
ويا حبذا بالجزع فرع أراكة ... تميل وفي أفنانها الوُرق تسجع
ورب حمامات مع الصبح أقبلت ... تردد في ألحانها وترجع
تهيج تباريح الغرام ولم تُبل [٤] ... تذوب قلوب أو تقصف أضلع
نصبت لها أذني وقلت إصاخة ... عسى نبأ من ذي هوى يتسمع
فأعرضن عن ذي لوعة وروين لي ... أحاديث مجراها الجوى والتولع
فقلت: فظيع من نوى الدار حل بي ... فقالت: وما بالدار بعدك أفظع
أحن إلى النائي حنين موله ... وهل يُرجع النائيَ الحنينُ المرجع
وعندي وما عندي هل هي غُلَّة ... إذا عللوها بالتذكر تنقع
ولم أنس يوم الجزع والساعة التي ... وقفنا بها نبكي الديار ونجزع
وقفنا عليها برهة ويد الأسى ... تقطع من أحشائنا ما تقطع
ونادى المنادي حين أزمعت للسرى ... إلى أين يا حامي الحقيقة مُزمِع
فوسع من قلبي الأسى كل ضيق ... وضاق بعيني الفضاءُ الموسع
فلله ما فََتَّ الوداعُ من الحشا ... ولله ما قاسى الخليط المودع
سرينا نجوب البيد في غلس الدجا ... وصارت مطايانا تخب وتوضع
تعوج بنا شرقًا وغربًا كأنها ... تقيس بمسراها القفار وتذرع
كأنا وقد مالت بنا سنة الكرى ... سجود على أكوارهن وركع
نقطع من أعراض كل تنوفة [٥] ... سماوية الأعلام ما ليس يقطع
ونعتام [٦] تيار الدجى بعزائم ... تلوح بآفاق البلاد وتلمع
ويا مألف الآرام رد وديعتي ... فإن فؤادي عند سربك مودع
أقول وقد شَبَّت بقلبي جذوة ... تعلمني جمر الغضا كيف يلذع
أحباي هل من عطفة في رباعنا ... يطيب بها المصطاف والمتربع
وهل تنثني الأيام ثانية لنا ... ويجمعنا بعد التفرق مجمع
تهب صبا حتى تكاد من الصبا ... نزعًا إلى واديكم الروح تنزع
كأنكمو مني بمرأى ومسمع ... على حين لا مرأى هناك ومسمع