للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه

وأما النوع الثالث وهو الفناء عن عبادة السوى فهذا حال النبيين وأتباعهم ,
وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته
عن خشية ما سواه , وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه , فهذا تحقيق توحيد
الله وحده لا شريك له وهو الحنيفية ملة إبراهيم , ويدخل في هذا أن يفنى عن اتباع
هواه بطاعة الله فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع
إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
ومن قال: (فارفع بحقك إنيي من البين) بمعنى أن يرفع هوى نفسه , فلا
يتبع هواه , ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته , بل يكون عمله لله لا لهواه ,
وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته , كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) فهذا حق محمود. وهذا كما يُحكى عن أبي يزيد أنه قال: رأيت
رب العزة في المنام فقلت: خدايي [١] كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك
وتعال: أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك , فيكون عملك لله , واستعانتك
بالله , كما قال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: ١٢٣) .
والقول المحكي عن ابن عربي: (وبي حلفت وأن المقسم الله) هو أيضًا من
إلحادهم وإفكهم: جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله فهو الحالف
والمحلوف به كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه فهو المرسل
والمرسل إليه والرسول , وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك:
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصلٍّ واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان بي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زالت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي حنَّت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفْعَتِي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت
وأما المنقول عن عيسى بن مريم - صلوات الله عليه - فهو كذب عليه ,
وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني،
فإنه لا يوافق قول النصارى قوله , إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة , فخلق من
نوره آدم , وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها , وإني أنا ذلك النور وآدم
المرآة , فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض , وذلك أن الله سبحانه
يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد
مخلوق لله قال لأصحابه: (إني أراكم من ورائي كما أراكم من بين يدي) فإذا كان
المخلوق قد يرى ما خلفه وهو أبلغ من رؤية نفسه , فالخالق تعالى كيف لا يرى
نفسه؟ وأيضًا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم يقتضي أنه لم يكن في
الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم، ثم ذلك الشوق كان قديمًا كان ينبغي أن يفعل ذلك
في الأزل , وإن كان محدثًا فلا بد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال:
الشوق أيضًا صفة نقص ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى , وقد روي (طال
شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق) وهو حديث ضعيف.
وقوله: خلق من نوره آدم , وجعله كالمرآة , وأنا ذلك النور , وآدم هو المرآة ,
يقتضي أن يكون آدم مخلوقًا من المسيح , والمسيح خلق من مريم , ومريم من
ذرية آدم , فكيف يكون آدم مخلوقًا من ذريته؟ وإن قيل: المسيح هو نور الله ,
فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى، فإن
النصارى يقولون: إن المسيح هو الناسوت واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر
الابن، وهم يقولون: الاتحاد اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن
المسيح، لا يقولون: إن آدم خلق من المسيح؛ إذ المسيح عندهم أسم اللاهوت
والناسوت جميعًا , وذلك يمتنع أن يخلق منه أدم، وأيضًا فهم لا يقولون: إن آدم
خلق من لاهوت المسيح.
وأيضًا فقول القائل: إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح , إن أراد به
نوره الذي هو صفة لله فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه؛ إذ يمتنع أن
يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه فمعلوم أن
المسيح لم يكن شيئًا موجودًا منفصلاً قبل خلق آدم , فامتنع على كل تقدير أن يكون
آدم مخلوقًا من نور الله الذي هو المسيح، وأيضًا فإذا كان آدم كالمرآة وهو ينظر
إلى ذاته المقدسة فيها , لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته لا أن آدم هو
ذاته ولا مثال ذاته ولا كذاته، وحينئذ فإن كان المراد بذلك: أن آدم يعرف الله
تعالى , فيرى مثال ذاته العلمي في آدم؛ فالرب تعالى يعرف نفسه , فكأن المثال
العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم
القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدام سأل الله فلا يكون آدم هو المرآة؛ بل يكون هو
كالمثال الذي في المرآة.
وأيضًا فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور, هو قول النصارى الذين
يخصونه بأنه الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد
حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح.
وأما قول ابن الفارض:
وشاهد إذا استجليت ذاتك من ترى ... بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة
فهذا تمثيل فاسد , وذلك أن الناظر في المرآة مثال نفسه فيرى نفسه , وكذا
المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة , فقولهم: بوجود باطل وبتقدير صحته ليس هذا
مطابقًا له , وأيضا فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شيء
فتخصيصهم بعد هذا آدم أو المسيح يناقض قولهم بالعموم , وإنما يخص المسيح
ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص؛ كالنصارى , والغالية من الشيعة , وجهال النّسّاك
ونحوهم، وأيضًا فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة فالمرآة خارجة عن نفسه
فرأى نفسه أو مثال نفسه في غيره , والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى , فليس
هناك مظهر مغاير للظاهر ولا مرآة مغايرة للرائي.
وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق (فإن قالوا) : المظاهر غير الظاهر
لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شيء
في شيء , ولا تجلى شيء في شيء , ولا ظهر شيء لشيء , وكان قوله:
وشاهد إذا استجليت نفسك أن ترى ٠٠٠ كلامًا متناقضًا؛ لأن هنا مخاطِبًا ومخاطَبًا ,
ومرآة تستجلى فيها الذات فهذه ثلاثة أعيان , فإن كان الوجود واحدًا بالعين بطل
هذا الكلام , وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم.
***
فصل
وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة , وأمر بغير
واسطة إلى آخره؛ فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني
والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني , وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر
بغير واسطة كلام باطل , فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة , فإن الله
كلم موسى وأمره بلا واسطة , وكذلك كلم محمد صلى الله عليه وسلم وأمره ليلة
المعراج , وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة , وهي أوامر دينية شرعية , وأما الأمر
الكوني فقول القائل: إنه لا بواسطة خطأ؛ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها
ببعض , وأمر التكوين ليس هو خطابًا يسمعه المكون المخلوق , فإن هذا ممتنع ,
ولهذا قيل: إن كان هذا خطابًا له بعد وجوده لم يكن قد كون (به) بل كان قد
كون قبل الخطاب وإن كان خطابًا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع. وقد قيل
في جواب هذا: إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدومًا في العين.
وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب , وأما ما ذكره عن شيخه من أن
آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا , فكان قوله (لا تقرب) ظاهرًا , وكان أمره (بكل)
باطنًا, (فيقال) : إن أريد بكونه قال: كُلّ باطنًا أنه أمره بذلك في الباطن أمر
تشريع أو دين فهذا كذب وكفر , وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر
مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن
فيكون , فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر , وأكل آدم من الشجرة
وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم , فنفس أكل آدم هو الداخل
تحت هذا الأمر كما دخل آدم. وقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: كل مثل
قوله إنه قال للكافر اكفر وللفاسق افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد،
ولا يرضى لعباده الكفر , ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق
والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته وقدرته
وخلقه وأمره الكوني, فالأمر الكوني ليس هو أمرًا للعبد أن يفعل ذلك الأمر؛ بل هو
أمر تكوين لذلك الفعل في العبد , أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال , فهو
سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعًا {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ
مَنُوعاً} (المعارج: ٢٠-٢١) وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: ١٢٨) فهو
سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى
أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك , كما لو قال للجماد: كن فيكون , فأمر
التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان , وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا
إرادته ولا قدرته , لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى
به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف
ما أمره به في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنًا وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنًا
وظاهرًا، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنًا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع
أعماله باطنًا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله: (كن باطنًا وظاهرًا) .
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر , بل القدر يُؤْمَن به ولا يُحتج به،
والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم
أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه , وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم
في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم , ولا يغضب عليه
ولا يذمه , وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحدًا أن يفعله , فهو ممتنع طبعًا
محرم شرعًا.
ولو كان القدر حجة وعذرًا لم يكن إبليس ملومًا معاقبًا , ولا فرعون وقوم نوح
وعاد وثمود وغيرهم من الكفار , ولا كان جهاد الكفار جائزًا , ولا إقامة الحدود
جائزًا لا قطع السارق , ولا جلد الزاني ولا رجمه , ولا قتل القاتل , ولا عقوبة
معتد بوجه من الوجوه. ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطر الخلق وعقولهم لم
تذهب إليه أمة من الأمم , ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم ,
فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته , ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا
ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزمًا مع الآخر نوعًا من الشرع، فالشرع نور الله
في أرضه وعدله بين عباده , لكن الشرائع تتنوع , فتارة تكون منزلة من عند الله
كما جاءت به الرسل , وتارة لا تكون كذلك , ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير
أهل الكتاب شرائعهم , وتارة لا تغير ولاتبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها ,
وتارة لا يدخل.
أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه , فإذا فعل فعلاً بمجرد هواه
وذوقه ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته , استند إلى القدر
كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ١٤٨) قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ
هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ
فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: ١٤٨-١٤٩) فبين أنهم
ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين , وإنما يتبعون الظن، والقوم لم يكونوا
ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر , فإنه لو خرب أحد الكعبة أو شتم إبراهيم
الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه , كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم
على ما جاء به من الدين , وما فعله هو أيضًا من المقدور؟ فلو كان الاحتجاج
بالقدر حجة لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه , فإن كان كل ما يحدث في
الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر؛ إن , كان
الاحتجاج به صحيحًا , ولكن كانوا يعتمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم , وهم
في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))