للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السياسة الإنكليزية الجديدة في مصر

ننشر هذه المقالة بالإمضاء الرمزي لكاتبها لِمَا فيها من البشارة بالمجلس النيابي
كان عميد الدولة الإنكليزية في عهد توفيق باشا يدير الأمر معه وما يتفقان عليه
ينفذ بهدوء وسكون , ولكن توفيق باشا كان لضعف إرادته يواتي العميد فيما يريد ,
قَلََّمَا يُرَاجعه في شيء , فلما ولي العباس رأى منه ذلك العميد ما لم يكن يرى من
والده من المقاومات , فكان ينتهز فرصة كل حركة لتقوية نفوذ دولته في البلاد ,
فأكثر من المستشارين والمفتشين والقضاة وكبار العمال من الإنكليز , وفعل ما فعل.
ثم ظهرت المقاومة في الجرائد وعلى ألسنة الناس حتى صارت تشويشًا
مزعجًا. وقد كان لورد كرومر يتمنى لو يتفق مع الأمير , ولكن كان في طبيعة كل
منهما وطبيعة الوقت ما يحول دون ذلك , حتى إنهما تَكَلَّمَا غيرَ مَرَّةٍ في أَمْرِ
الوفاق , وبعد التواطؤ بزمن قصير أو طويل كان يعود التدابر كما كان أو أشد
حتى قِيلَ: إن اللورد عزم في آخِرِ مُدّتِهِ على إقناع دولته بوُجُوب عَزْل الأمير ,
ولكن جاء هذا الرأي في عهد وزارة الأحرار الحاضرة , وهي وزارة تميلُ إلى
التساهل في المستعمرات , وما في معناها كمصر في عرفهم , فلم يتم للورد ما يريد
بل خرج هو من مصر وبقي أميرها فيها. ومما كان قد عزم عليه الرجوع إلى
كبار الأمة في معرفة مطالبها الحقيقية؛ لإنالتها ما يمكن منها مع الإعراض
عن الأمير.
ولا ننسى ما كان في آخر مدته من حملة الجرائد الإنكليزية على الخديو ,
لا سِيَّمَا بعد أن نشر مكاتب الطان عن الأمير ذلك الحديث الشهير , فعالج الأمير تلك
الحملة عليه بحديث آخَرَ عهد إلى مستر ديسي الإنكليزي بنشره في جريدة الديلي
تلغراف الإنكليزية , أهم ما فيه الإشارة إلى رغبته في الوفاق , فكان ذلك مقدمةً
للسياسة الجديدة التي سنبينها.
وهناك مقدمة ثانية شرع فيها لورد كرومر , وتكفل سر ألدن غورست بالمضي
فيها وهي اختيار الأَكْفَاء من المصريين للوظائف الكبرى وتحميلهم (مسئوليتها) ,
وأول ما بدأ به الأول من ذلك جعل سعد باشا زغلول وزيرًا للمعارف , وأخيه أحمد
فتحي باشا وكيلاً للحقانية، وآخر ما قرره الثاني جعل عبد الخالق ثروت باشا نائبًا
عموميًّا.
وهناك مقدمة ثالثة جربها العميد الجديد , فجاءت كما يراد وهي اعتماد إنكلترا
على الأمير في سياسة البلاد العامة , وعدم الالتفات إلى مطالب الأمة وجرائدها.
فالسياسة الجديدة للإنكليز في هذه البلاد هي أن يلقوا تبعة سياستها وإدارتها
على غاربها , فلا يحملوا منها شيئًا في مصر بل يحملوها الأمير وحكومته ومجلس
نواب الأمة، وما دونه من مجالس المديريات.
ما هو مجلس نواب الأمة؟ هل هو مجلس الشورى أم الجمعية العمومية؟ وما
معنى تحميله تبعة وهو لا يتبع رأيه؟ لا لست أعني بمجلس النواب ما ذكر وإنما
أعني أن الحكومة البريطانية عزمت على أن تمنح مصر ما تطلبه بلسان جرائدها
وأحزابها من الدستور والمجلس النيابي، وأن تجعل الفضل في هذا للأمير , فهو
يُكاشفها بذلك , وهي تظهر له الموافقةَ على رغبته بكيفية مخصوصة. والأمير ينفذ
لها رغائبها بمصر.
إننا نعلم من مصدر رفيع أن الإنكليز عزموا على أن يمنحوا مصر المجلس
النيابي , وأنه ليس للإنكليز مقاصدُ في مصر تُنافي السماح للمصريين بذلك , بل
يفتخر أحرار إنكلترا بذلك لموافقته لسنتهم في تحرير الشعوب , وترقية الحكومات
ويكتفون في الأمن على مصالحهم بمصر باستمرار الاحتلال , والثقة بمودة أمير
البلاد , ولا يبالون بالجرائد والأحزاب , بل يعتقدون أن ستسكن من نفسها , وأن
خير علاج لها إهمالها.
هذا ما أرويه للقراء روايةً لا يشوبها رأي ولا تخرص، فما كان منه عن
شيء مضى فهو مما يعرفه العارفون، وما كان عن شيء يأتي فسيراه الناظرون، وقد
يقال من باب الرأي: إن الإنكليز مخطئون في ظنهم أن الحركة الوطنية ستسكن من
نفسها؛ فإن وراء مجلس النواب الذي سيكون محدود السلطة كلامًا كثيرًا في سلطتِه ,
ووراء ذلك مسألة الاحتلال نفسها.
نعم , إن معظم حماسة الجرائد يمكن أن تتحول إلى نقد الوطنيين الذين يحملون تبعة
الإدارة , وتكون الحُجَّةُ على المحتلين ضعيفةً بل ظهرت بوادرُ هذا في كلام
اللواء في أول مصري عريق حمل تبعة العمل في الحكومة , وهو سعد باشا زغلول ,
فإن اللواء أشد عليه منه على مستشاره مستر دنلوب. فمن مثل هذا قد استنبط
الإنكليز أن السياسة الجديدة التي شرعوا فيها ستعقبهم راحة من ضوضاء مصر ,
وتشغل المصريين بأنفسهم , والله أعلم بما تأتي به حوادث الأيام.