في يوم الخميس الثامن أو التاسع عشر من المحرم توفي الشريف حسين بن علي آخر من تولى إمارة مكة للدولة العثمانية وأول من سُمي ملك الحجاز بعد الانقلاب العام الذي أحدثه حرب المدنية الكبرى. توفي في عَمَّان فنقل منها إلى القدس ودفن في جوار المسجد الأقصى بالقرب من مدفن محمد علي الزعيم الهندي وقد احتفل بدفنه احتفال عظيم اشتركت فيه الحكومة الإنكليزية رسميًّا. فنعزي أنجاله أصحاب الجلالة والسمو. ونسأل الله تعالى له المغفرة والرحمة التي وسعت كل شيء. كان الملك حسين ذا مواهب فطرية ووراثية عظيمة، صار بها من رجال التاريخ العام وتاريخ العرب الخاص. كان شجاعًا حازمًا قوي الإرادة، ماضي العزيمة، كبير الهمة، نزيه النفس، شديد البأس، عفيفًا عن الشهوات، عزوفًا عن الدنايا، محافظًا على الفرائض الدينية، أديب المجلس، حسن الحديث، على عظمة وكبرياء، وشَمَم وإباء، ولكن معارفه الدينية والمدنية ضيقة النطاق، مبنية على تقليد المقلدين من الآباء والعشراء، وخبرته ضعيفة مستمدة من أهل الملق والرياء في مكة، وأُولي التَّقِيَّة والعبودية والحميدية في الآستانة؛ فلهذا لم يكن ينال الزلفى عنده إلا المراءون المخادعون، وكان شديد الاعتداد بنفسه، والإعجاب برأيه، والثقة بعلمه، والظنة والريبة في كل مَن يتصل به، والإصرار على رأيه وإن فُرض أنه ظهر له خطؤه فيه حتى كان بعض خاصته يقول: لولا عناد سيدنا لكان كل ما يُنتقد عليه سواه هينًا، لا يُخشى ضرره، ولم يكن أحد من عماله ولا من أولاده يتجرأ على النطق أمامه بما يخالف رأيه، وهذا خلق يقطع على المتخلق به طرق العلم والاستفادة التي لا يستغني عنها بشر مهما تكن درجة عقله، وسعة علمه ودقة خبرته، وقد قال الله تعالى لرسوله خاتم النبيين وسيد ولد آدم {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: ١١٤) وقال الإمام الشافعي: ... كلما أدبني الد ... هر أراني نقص عقلي ... وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي وإن في هذين البيتين لَحكمةً لا يسمو إليها إلا أرقى الناس عقلاً وأوسعهم علمًا. وكان رحمه الله تعالى يكره دولة الترك ويتألم من سيادتهم على الحجاز، والظاهر أن بعض رجالهم في الآستانة كانوا يشعرون بذلك منه ويحسبون كل حساب لإمارته على الحجاز في عهد الدستور، وفي هذا دليل على أنه أعز من غيره من شرفاء مكة نفسًا؟ وأعلى همة وأبعد مرمى، وكان نجله الشريف عبد الله أشد منه بغضًا للترك وميلاً للاستعداد للخروج عليهم ونبذ سلطانهم، ولكن نجله الشريف فيصلاً كان إلى الترك أميل، وعلى الاتفاق معهم أحرص، كما أخبرني بذلك في بيروت والشام بعد الحرب. ولما أسسنا جمعية الجامعة العربية كاشفت بخبرها الشريف عبد الله في نزالته لدى الخديو من قصر عابدين وكان عائدًا من الآستانة إلى مكة هو وأخوه الشريف فيصل، ولم أقابل فيصلاً ثَم، وقد نظمت عبد الله في سلك الجمعية وحلفته يمينها الغَموس فحلفه، وأخبرني أنه موفد لإقناع والده بقتال السيد الإدريسي لاستقلاله في العسير دون الدولة انتصارًا لها فقلت له: إياكم تسفكوا دماء العرب بسيوف العرب. فوعدني بأن سيبلغ والده ما أمر به ويجتهد في إقناعه بأن لا يقاتل الإدريسي، وأن يعنى بالاتفاق معه ولو في الباطن تمهيدًا للحلف العربي الذي هو أُسّ الجامعة العربية. ولكن والده قاتل السيد الإدريسي بغضًا فيه وطمعًا في ضم بلاده إلى الحجاز لا حبًّا في الترك وانتصارًا لهم، فقهره الإدريسي ورده خائبًا منكسرًا. ولما اشتعلت نار الحرب الكبرى وانضمت الدولة العثمانية فيها إلى الحلف الألماني كان من سياسة الإنكليز فيها أن يستميلوا الأمة العربية إلى الانضواء إليهم وإلى حلفهم، والخروج على الدولة العثمانية ووعدوهم بأن يكون جزاؤهم على ذلك الاستقلال وتأسيس دولة عربية جديدة تحيي حضارة العرب الزاهية، ولعلِّي قد كنت أول مَن أرادوا أن يستخدموه ببث الدعاية لهم في جزيرة العرب وفي الولايات العربية العثمانية، وكلفوني إرسال مندوبين من قِبَلي إلى أمراء الجزيرة وجمعيات العرب السياسية في الولايات بذلك. ولما كنت أعلم من سياسة الإنكليز أنهم كالسيل - يقذف جلمودًا بجلمود، ويقاتلون الأمم والشعوب بعضها ببعض ثم يستأثرون هم بالغنيمة - اشترطت عليهم أن تقرر دولتهم بالاتفاق مع حلفائهم الاعتراف باستقلال الأمة العربية في جميع بلادها معرفة بحدودها الطبيعية استقلالاً مطلقًا من كل شرط وقيد.. إلخ ولم تنتهِ المراجعات بيني وبين رجلهم هنا في ذلك إلا وقد أيقنت أنهم مخادعون، وأنهم إذا انتصروا جعلوا البلاد العربية غنيمة لهم ولحليفتهم فرنسا، ولهذه المناقشات قصة طويلة وفيها وثائق مكتوبة ليس هذا محل بيانها. كنت قررت أن أرسل أخي المرحوم السيد صالح إلى الحجاز للكلام مع الشريف حسين في هذه المسألة وقرر الإنكليز أن يرسلوه من طريق السودان فحالت العوائق دون إرساله حتى زال من أنفسهم ما كانوا يرجونه مني، ووجدوا واسطة أخرى لمخاطبته وإقناعه بالخروج على الدولة العثمانية، وإعلان الانضمام إليهم وكانت فظائع جمال باشا السفاح التركي في سورية قد أيأست أهلها من إمكان البقاء تحت سيادة الترك وبثوا شكواهم إلى الشريف حسين وأظهروا له ميلهم إلى الخروج على الدولة، فأعلن الثورة العربية ولكنه لم يُطْلِعْ أحدًا من حاشيته ولا من بطانته ولا من أولاده على الأساس الذي بناها عليه بالاتفاق مع الذين أغروه بها من الإنكليز؛ لأنه لا يثق بأحد. لا ينكر عاقل أن الاحتراس والحذر والكتمان من أركان السياسة، كما لا يخفى على عاقل أن من لا يثق بأحد لا يمكنه أن يقوم بعمل عظيم ولا سيما الأعمال السياسية والانقلابات القومية، وتأسيس الدول والممالك وأن شدة الحذر تفضي إلى التردي في شر مما يخافه الحذر من ناحية ضعف الثقة بالعاملين، فإنه يضطر إلى الاعتماد في أعماله على صغار النفوس المتملقين الذين يرضون أن يكونوا كالآلات المعدنية والأدوات الخشبية في يده لأجل منافعهم الشخصية منه أو من الأجانب الذين يدسون له من جواسيسهم من يوافقونه على هواه في كل شيء لينقلوا لهم عنه كل ما يعلمون من أعماله وأحواله. وإن أغرب ما أنكرناه من أموره المتناقضة أنه على عدم ثقته بأحد من أمته ولا من أولاده قد وضع ثقته كلها في الإنكليز المشهورين في العالم كله بالخداع والمكر والعبث بالرجال العظماء وبالدول والأمم - وثق بهم ثقة عمياء صماء بكماء ورهاء بلهاء، معتقدًا أنهم أعلى البشر أو فوق البشر في الصدق والوفاء! ، بل كان يعتقد أنهم سيمنحونه كل ما يؤمّله ويتمناه، لا ما وعدوه به خداعًا وتغريرًا ولا ما اقترحه عليهم مما سماه مقررات النهضة فقط. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))