لعل صاحب هذه المجلة (المنار) أول من فطن في هذا القرن لما غفل عنه المسلمون منذ بضعة قرون من كون الإسلام قد جعل اللغة العربية لغة لجميع المسلمين بالتبع لدينهم الذي هو كتاب الله المنزَّل بلسان عربي مبين، وسنة رسوله العربي الكريم، وإن هذا أمر مجمع عليه بين المسلمين وجرى الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون على تنفيذه في جميع الشعوب غير العربية إلى أن قوي الأعاجم وصار لهم دول تتعصب للغاتها وترجحها على لغة دينها بجهل ملوكها وحكامها بحقيقة الإسلام وبنائه على أساس الوحدة الدينية والاجتماعية والسياسية التي تحقق أخوة الإسلام وكون أهله أمة واحدة لا يفرق بينهم جنس ولا وطن ولا لغة. دعونا المسلمين إلى إحياء لغة دينهم منذ عشرات السنين، وكان أكبر أملنا في إجابة هذه الدعوة من قبل الشعوب الأعجمية الشعب الهندي؛ لأن تمسكه بلغته الأوردية ليس مقترنًا بعصبية دولية كعصبية الفرس والترك، بل عصبيته الإسلامية أقوى من كل عصبية؛ وإنما كان جعله التعليم العام بلغته الوطنية وجعله العربية لغة علماء الدين فقط لأسباب عارضة لا محل هنا لبسطها، وطالما كلمت العلماء والزعماء منهم الذين كنت ألقاهم بمصر في وجوب إحياء اللغة العربية في بلادهم، فيعترفون بالوجوب ويعتذرون بالعجز عن أداء هذا الواجب. ولما زرت الهند في سنة ١٣٣٠ إجابة لدعوة جمعية ندوة العلماء لرياسة مؤتمرها العام كلمت كثيرًا منهم في هذا الواجب، ونوهت به في بعض الخطب العامة التي ألقيتها في معاهد العلم، ولا سيما مدرسة ديوبند العلماء فرأيت منهم قبولاً وارتياحًا. وأبشر العالم الإسلامي اليوم بأنه قد وصل إلينا قبل إتمام تحرير هذا الجزء من المنار - الذي تأخر صدوره عن وقته ليصدر مع الذي بعده - مجلة عربية أنشئت في لكنهؤ مركز ندوة العلماء باسم (الضياء) لأجل هذا الغرض، وجعلت تحت إشراف صديقينا الأستاذين الجليلين السيد سليمان الندوي والعلامة الشيخ تقي الدين الهلالي المغربي؛ فإننا نعجل بنشر فاتحتها للأول في هذا الجزء وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم طلوع الضياء (بقلم العلامة الجليل الأستاذ السيد سليمان الندوي رئيس دار المصنفين) باسمك اللهم نفتتح وبك نستعين، فنعم الفاتح أنت ونعم المعين، فاشرح لنا ربنا صدورنا، ويسر لنا أمورنا واهدنا سبيل الرشاد، وألهمنا طريق السداد، واحلل عقدة من لساننا ليفقهوا قولنا، ونصلي ونسلم على النبي العربي الأمين، الذي أُنزل عليه الكتاب بلسان عربي مبين. وبعد، فللإسلام مزايا تفوت الإحصاء دررها، وتستغني عن الأنباء غررها، إحداها أنه دين وحدة الشعوب والأمم، ودين مؤاخاة البشر، والنصيحة لعامة الصالحين، ومن الوسائل التي اتخذها لتحقيق بغيته هذه أن جعل للمؤمنين بقرآنه والخاضعين لسلطانه، على اختلاف ألسنتهم وبلدانهم، وجنسياتهم وألوانهم، لغة خاصة وهي لغة كتابه المنزَّل من السماء يتفاهمون بها معاني القلوب، ويتعارفون بها [١] هواجس الأفكار، ويخطب بعضهم مودة بعض، فهي على تقلب من الأحوال لغة عصبة الأمم الإسلامية منذ قرون وأجيال قد رأى الآن رجال من النصارى الإفرنج في حلمهم أن يدعوا أممهم إلى الوحدة الإنسانية، والمودة البشرية، فأحدثوا لغة واحدة يسهل عليهم أخذها، يتحادثوا (؟) بها الأقوام، وينادوا (؟) بها إلى الالتحام؛ ولكن أولي النهى ممن يرون العواقب رأي العين يفتون أن لا بقاء للغة إلا إذا كانت لها دعائم من الدين والسياسة يتعصب لها ذووها، ويسعى لها بنوها، وإن الإسلام قد قضى وطره منها منذ خُلق، فجعل لأممه المنتشرة في أكنان الأرض مشارقها ومغاربها لغة تعم أطرافها، وتضم أشتاتها، وهي لغة نبيها المصطفى، ودينها المرتضى، وكتابها المنتقى، وهي لغة علومهم، وآدابهم وحضارتهم، ولها أهل يحمون حوضها، ويذبون عن حماها، فهي تبقى معهم مهما بقوا، وترحل معهم أينما رحلوا، وتحل معهم بأي أرض حلوا، وهي تجمع بين دفتيها دفاتر أربعة عشر قرنًا، فيها الدين والشرع، والرواية والأثر، والتاريخ والخبر، والشعر والأدب، والجد واللعب، تلم بين طرفيها شعث ما تركه سلفهم، وكسبه خلفهم، وما جادت به طبائعهم، وفاضت به ينابعهم (؟) وفاهت به مجامعهم، وزرعته أفهامهم، وحصدته أقلامهم، وما أبدعوا من أنواع الطرف، وما أودعوا من أوراق الصحف، فلغتهم هذه كنز خير لهم لا يفنى، وثوب فخر لهم لا يبلى. لا تكاد تجد قرية احتلها المسلمون من بلاد الأرض إلا وفيها رجال ينطقون بالضاد ويتغنون بالقرآن، ويفهمون لغة قريش، ويتدارسون آداب العرب، وإن كانت في لسانهم عقدة، وفي بيانهم عجمة، هذه بلادنا الهند فيها نحو من ثمانين مليونًا من المسلمين، وفيها نحو من مليون ممن يفهم لغة القرآن ويعرفها، وإن لم تكن لهم قدرة على التكلم بها، وتقدر مدارسهم العربية بألف من صغارها وكبارها، وطلبة العربية فيها نحو من مائة ألف أو يزيدون؛ فإن صقعًا واحدًا من أصقاع الهند يعرف ببلاد بنغال يضم بين جناحيه ستين ألفًا من طلبة العلوم العربية وتلامذتها، وتجد في مدينة واحدة وهي دهلي عاصمة الهند نحو مائة مدرسة عربية بين صغيرة وكبيرة أثراها مدرسة جامع فتحبوري، وأعمرها المدرسة الأمينية، وتلقى في مدرسة واحدة وهي المدرسة العالية في ديبوند أكثر من خمسمائة طالب تدر على أكثرهم المدرسة رواتب شهرية تفي بمآكلهم وملابسهم، ودع عنك دار علومنا التي قامت بتأسيسها ندوة العلماء بلكنهؤ فهي أحدثها عمرًا، ولكل منها من المزايا ما لا يخفى على ذي عينين. وعلى ذلك ما يؤلمنا ذكره، ويشوكنا نشره، أن هؤلاء الجم الغفير، والعدد الوفير، أكثرهم بكم عن التكلم (؟) باللغة العربية، ولهم عي عن الكتابة البديعة السلسة المنسجمة فضلاً عن الخطابة فيها مرتجلين، وليست كتابتهم إلا في أمور طفيفة من الفقه، أو أبحاث سمجة في المنطق، تمجها الآذان، ولا تسمن ولا تغني من جوع العلم، وتنبو طباعهم عما تنشره الصحف والمجلات الأردية، فلا يقرءونها، فيستفيدوا، فيُحرمون من حظ وافر من العلم الذي يتزايد أمره كل يوم، وينمو شأنه كل صباح ومساء، وزادك (؟) أسفًا لو رأيت مناهج دروسهم العقيمة، وما فيها من الكتب السقيمة، ذات الأساليب الرميمة. وأول من تنبه لسد هذا الخلل، وملافاة هذا الخطأ، دار العلوم التي أسستها ندوة العلماء بلكنهؤ، فأفرغت جهدها في تعليم اللغة العربية قديمها وحديثها كتابة وخطابة، وزادت في قائمة درسها كتب الأدباء المجيدين، من السلف الكرام المجيدين، الذين كتبهم ينبوع الأدب، ومادة لغة العرب، مثل مصنفات ابن قتيبة الدينوري، وعبد القاهر الجرجاني، وقدامة بن جعفر البغدادي، وأبي الهلال العسكري، وجاحظ البصري، واستبدلت دواوين قدماء الشعراء بما تكلفته خواطر المحدثين المتأخرين بعد القرن الرابع. ثم وضعت بعض كتب ابتدائية لدرس المبتدئين، وألفت معجمًا جديدًا يضمن شرح الكلمات الداخلية والمعربة التي لا غنى عنها في فهم الجرائد والمجلات العربية، وعينت معلمًا خاصًّا لتعليم اللغة الحديثة فيها. وآثرت لتعليم الآداب العربية رجالاً معروفين من العرب أنفسهم لكون اللغة لهم طبعًا وذوقًا، ولنا تكلفًا وتعمقًا، فأسندت أولاً رياسة أساتذة اللغة العربية إلى الأستاذ العلامة الشيخ محمد طيب المكي، ثم إلى الأستاذ الفاضل الكامل الشيخ محمد بن حسين الخزرجي اليماني رحمهما الله تعالى، وأخيرًا يملأ هذا الفراغ فيها صديقنا الأستاذ الكبير الشيخ تقي الدين الهلالي المغربي. وقد كان لمسعاها دويٌّ في سائر أندية المدارس العربية، وأخذت تبذل ما في وسعها من الجهد في مباراتها، والحق أحق أن يقال، إنه بعدما تملك صديقنا العزيز، ورفيقنا في طلب العلم، ورديفنا في تلقي الدروس، وشريكنا في الشيوخ وأولنا في الجمع بين علوم الشرق والغرب الشيخ ضياء الحسن العلوي الندوي زمام مفتش عام تفتيش المدارس العربية ورياسة امتحاناتها في ولايتنا البلاد المتحدة صار لهذه المدارس العربية وامتحاناتها في العلوم الشرقية طور آخر، ودور زاهٍ زاهر؛ فإنه أدخل فيها تعديلات نافعة، واتخذ لإصلاح أمرها تدبيرات ناجعة، فجعلها متسقة النظم، ومتحدة النظام، وانتقى لها مناهج درس، وقوائم كتب، تضمن بالنجاح، وتؤذن بالفلاح، فجعل فيها للأدب العربي محلاً يليق به، وألزم متعلمي المدارس العربية الكتابة وإنشاء المقالات بالعربية. وكذلك فعلت رياسة المدارس العربية في ولاية بنجاب، فجعلت الكتابة والإنشاء بالعربية من مواد امتحاناتها الشرقية التي لا غنى عنها لطالب. وتلتها الجوامع الإنكليزية الرسمية؛ فإنها أدخلت تحسينات نافعة في فرعها العربي بأيدي أساتذة فضلاء دكاترة في العلوم العربية نالوا شهادة الدكتورية من جوامع ألمانيا وإنكلترة، ولهم يد بيضاء في استبدال المناهج الجديدة المفيدة بالمناهج القديمة العقيمة، وقد أسفرت مساعيهم عن نتائج ذات بال، ولجامعتي لاهور ودهاكة خطوة في هذا السبيل بعيدة الشوط، وتبعتهما جوامع اله آباد ولكنؤ وبتنة وكلكتة، واهتمت بها من المعاهد العربية التي للحكومة الكلية الشرقية بلاهور ومدرسة شمس الهدى ببتنة، والمدرسة العالية بكلكتة. وأشد الجوامع الإنكليزية اعتناء باللغة العربية جامعة دهاكه؛ فإنها خصصت لها قائمة درس تدرس فيها اللغة العربية وعلومها مع بعض العلوم الجديدة واللغة الإنكليزية، وتمنح الناجحين فيها شهادة تؤهلهم للدخول في كل ما يمكن الدخول فيه للناجحين في العلوم الإنكليزية المحضة من الوظائف والمناصب، أما جامعتنا الإسلامية بعليكرة فأرادت أن تقتفي أثر جامعة دهاكه في جعل العربية وآدابها فرعًا لها خاصًّا فقررت لجنة لتحقيق أمنيتها، ونيل بغيتها، وعسى أن تأتي بأثر يُذكر، وعمل يُشكر، وأما الجامعة العثمانية بحيدر آباد الدكن فهي أكثر الجوامع إنفاقًا على فرعها العربي وأشدها اهتمامًا بأمره، وإكرامًا للناجحين في علومه وآدابه، وأسخاها منحًا بالمناصب والوظائف لهم. هذا، ولكن هذه الأموال المنفقة، والجهود المفرغة، تكاد أن تذهب سدى، ولا تأتي بجدوى؛ لأن جو الهند غير عربي، يكدر فضاءها زعازع هوجاء من العلوم الإفرنجية، والآداب الإنكليزية، فتحدق بالطلبة الصحف الأردية، والجرائد والمجلات الإنكليزية، وترد عليهم النشرات الأردية والإنكليزية تترى فلا تدع لهم جانبًا فارغًا للعربية، فلا تجد للهند صحيفة عربية يقرءونها ولو مرة في الشهر، ويكتبون فيها ولو مرة في السنة، فيتمرنون في الإنشاء العربي، ويحذقون فيه ويسهل عليهم الكتابة في اللغة العربية، ويستطيعوا إبداء المعاني العلمية غير الخيالية التي يقرءونها في الكتب، فيُخيل إليهم من سحرها أنهم في جيل غير جيلهم، ويقتدروا على إبراز المعاني المستحدثة في طراف حلل تسر الناظرين، وتجري أقلامهم في نقد السياسة والأخلاق ونشر التربية والتعليم، وسرد الأنباء والحوادث، وقرض الشعر ونسج الأدب، ويضربوا بسهم نافذ في معرفة الآداب العربية المستطرفة المستظرفة، ويتمكنوا من الخوض في كل موضوع، والاستغراف (؟) من كل حوض، وتكون لهم صلات متواصلة بالبلاد العربية، فتقوى بها بينهم وسائل التعارف والتداني، ووسائط التصافح والتصافي، ولا تغني عنهم الجرائد والمجلات العربية التي تجلب من البلاد الأجنبية، لبعد شُقتها، وغلاء أثمانها، واختلافها عن ذوق متعلمي العربية بالهند {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: ٥٢) . فذلك ما دعانا إلى إصدار مجلة عربية، واضطررنا أن نتحمل هذا العبء الثقيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولقد ألقينا بأيدينا إلى التهلكة، ونصبنا أنفسنا غرضًا لسهام الحوادث، ونعلم ما أصاب إخواننا السابقين من خيبة المسعى وكبوة القدح، فكان أحد سلفنا رحمه الله أصدر جريدة الرياض فظهرت وزهرت، ثم تقلبت بها الرياح، فأصابها إعصار من نار الفقر فاحترقت، وتلتها مجلة البيان، فقصت من عمرها سنين، ثم أناخ الدهر عليها بكلاكله، فخرست [٢] عن النطق، ثم جاءت على فترة من رسل الكلام (الجامعة) لأبي الكلام، فلم تبلغ أشدها حتى دهاها ما فرق جمعها، وشتت لمها، فذهبت مساعيها أدراج الرياح، وغيرها من الصحف العربية التي لم ترزق الحياة إلا لشهر أو شهرين، فنخشى علينا ما أصابهم من خيبة الأمل وقربة الأجل. وليس لدينا قوة لنقتحم بها هذه العقبات إلا التوكل على الرحمن، ولا من زاد لهذا السفر الشاسع إلا الثقة بنصر من الخلان، ولا من بضاعة لهذه التجارة الكاسدة، إلا حسن الظن بناصري العربية في هذه البلدان، فمن أحسن إلينا فأجره على الله إن الله يحب المحسنين. وليحتسب حماة العربية في الهند أن خلو جوها من صوت صحيفة عربية عار لهم غير ظاهر (؟) فكم من لغات ميتة تدون لها في هذه البلاد ألسنة حال تنطق، وعيون حياة لها تتدفق، وما ذلك إلا بناصر من الدعاية، وهاجس في صدورهم يحس بفرض الكفاية، وكم من بلاد مثل أمريكة فيها جالية من العرب يقل عددهم عن عارفي اللغة العربية في الهند، ولهم صحف سائرة، فالرجاء من القائمين بالمعاهد العربية ومدرسيها الكرام، وأساتذتها الفخام، وتلاميذها النجباء، ومحبيها الأخيار، أن يأخذوا بأيدينا، وينصروا من ليس له قوة ولا ناصر {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (آل عمران: ١٢٦) . وليعلم أن المجلة مواد بحثها ومواضع إنشائها تنحصر في علوم الدين وفنون العلم وآداب اللغة وطرق التربية والتعليم وما يناسبها من المسائل والأخبار، وأنها لا تعزو نفسها إلى معهد دون معهد، ولا تتعصب لأحد على أحد، بل هي لسان حال المعاهد العربية كلها في هذه الديار. ونرجو من أساتذة لغة العرب، وجهابذة نقد الأدب، ولا سيما أمراء القول من العرب، ومالكي أزمة البيان منهم أن يسبلوا علينا ذيل الستر، ويمنوا علينا بغض البصر، فلسنا إلا متطفلين على مائدتهم، ومتكففين لرفادتهم، والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا. (المنار) نرحب بأختنا مجلة الضياء، ونرجو أن نرى منها خير مدد نوري للمنار، ونحث قراء العربية في كل مكان على الاشتراك فيها وإمدادها بالمساعدة المالية والقلمية، ونوجه عناية صديقينا الغيورين المشرفين على المجلة بأن يبذلا كل العناية لتصحيحها؛ فإننا رأينا في الجزء الأول أغلاطًا أكثرها من غلط الطبع، في مثل هذا المقام، ويغتفر في الابتداء ما لا يغتفر على الدوام، وسنعود إلى تقريظها والنقل عنها إن شاء الله.