للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
(أخذ الأثاث واللباس من أهل الكتاب)
(والنفقة على الزوجة الممكنة)
(س ٦٨ - ٦٩) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
(١) ما قولكم، رضي الله عنكم، فيما عمت به البلوى في هذه الأيام من
اتخاذ المسلمين نحو اللباس وأثاث البيت من النصارى واليهود، ولم يتمكن عليهم
(كذا) تجنبه إلا بعسرة شديدة، وهل هو جائز أم حرام أم كيف الحال؟ فإن قلتم
بالجواز فما المراد من هذا الحديث الشريف: (من تشبه بقوم فهو منهم)
فإن قلتم بالتحريم فذاك، أفتونا فلكم الأجر والثواب.
(٢) ما قولكم - عز قدركم - في امرأة لا تمكن نفسها على الزوج بأن لا
تعرضها عليه، كأن لا تقول: (إني مسلمة نفسي إليك) ولكنها تطيع لزوجها
بأن تجيب أمره الذي يجب عليها، هل تجب لها النفقة عليه أم لا؟ فإن قلتم
بالوجوب، فما تقولون في عبارة فتح القريب ونصها: وتجب النفقة على الزوجة
الممكنة. قال العلامة الباجوري: بأن عرضت نفسها عليه كأن تقول: (إني مسلمة
نفسي إليك) فإن قلتم بعدمه فما قولكم في إفتاء بعض العلماء بالوجوب؛ لأن
إجابة أمر الزوج الذي يجب عليها عين التمكين، ولسان الحال أفصح من لسان
المقال، بينوا لي بيانًا واضحًا، هذا وأسأل الله أن يعطيكم الفضل والرضوان،
بجاه سيد ولد عدنان، اللهم آمين.
... ... ... مكة المؤرخ في ١٤ القعدة سنة ١٣٢٩ هجرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علوي
(تشبه المسلمين بغيرهم ومخالفتهم لهم)
(ج) اتخاذ اللباس والأثاث من اليهود والنصارى ظاهر لفظ السؤال؛ أن
المراد اتخاذ ذلك من مصنوعاتهم واشتراؤه منهم، ولا أعلم أن هذا كان موضع
خلاف بين الفقهاء، وما زال الناس سلفًا وخلفًا يشترون ما يحتاجون إليه من
مصنوعات أهل الكتاب وغيرهم، من تجارهم وغير تجارهم، وقرينة الحال وإيراد
حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، يدلان على أن مراد السائل باتخاذ اللباس والأثاث منهم هو أن يلبس المسلم مثل لبساهم، ويستعمل مثل أوانيهم فيكون متشبهًا
بهم، وإن كان ذلك اللباس والأثاث من صنع المسلمين.
وهذه المسألة قد كثر السؤال عنها من جزائر جاوه والملايو؛ ولعل السائل
منهم، وأجبنا عنها مرارًا كثيرة في عدة مجلدات من المنار. وبينا أن الإسلام لم
يفرض على المسلمين زيًّا مخصوصًا لذاته ولا حرم عليهم زيًّا مخصوصًا لذاته، وأنه
ثبت في السنة الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الجبة الرومية
والطيالسة الكسروية. ولم يثبت عنه ولا عن خلفائه أنهم كانوا يأمرون من يدخلون في
الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس أن يغيروا أزياءهم، ولكن الذين كانوا
يدخلون في الإسلام كانوا يتبعون المسلمين حتى في أزيائهم وعاداتهم.
أما مسألة تشبه المسلمين بغيرهم؛ فإن كان في أمر دينهم أو ما حرمه ديننا
وإن لم يبحه دينهم فلا شك ولا خلاف في حظره، بل صرح بعض الفقهاء بأن من
تشبه بهم في أمر دينهم وشعائرهم بحيث يظن أنه منهم يعد مرتدًّا، ويجري عليه
حكم المرتد قضاء. وإن كان هذا في أمور الدنيا المباحة في نفسها؛ كالأزياء
والعادات فهو مكروه، ولكنه إذا فعل مثل فعلهم ولبس مثل لبسهم غير قاصد للتشبه
بهم، فلا يسمى متشبهًا، ولا يكون منه ذلك مكروهًا.
هذا ملخص ما حرره الفقهاء ومن أخذ الحكم من حديث: (من تشبه بقوم فهو
منهم) جزم بأن القصد في المحاكاة داخل في معنى التشبه؛ لأن صيغة التفعل
تدل على ذلك. وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع من المنار، وبينا في
ص ٦١ من المجلد الثالث عشر أن ابن حبان قد صححه، وكان يتساهل في
التصحيح، وأن غيره ضعفه، وأن معناه من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم في
شيء بتكرار محاكاتهم فيه؛ انتهى التشبه به إلى أن يكون مثلهم في ذلك الشيء، وهذا من قبيل حديث: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) رواه الطبراني، ولذلك قالوا:
إن التشبه بالكرام فلاح
والحديث لا يدل على ذم التشبه في كل شيء، ولا على مدحه في كل شيء،
ولا على أن المتشبه بقوم في شيء يكون مثلهم في جميع الأشياء.
لو لم يكن في هذه المسألة إلا هذا الحديث الذي جعله عبيد العادات العتيقة
هجيراهم عند مقاومة كل جديد؛ لسهل على عبيد العادات الحديثة الرد عليهم
والاحتجاج بما هو أحص منه متنًا وسندًا من لبس النبي - صلى الله عليه وسلم -
لزي مشركي قومه في الغالب، وزي النصارى والمجوس في بعض الأحوال،
ولأمكنهم أن يزيدوا على ذلك مثل قولهم: إن الدولة العثمانية لو لم تأخذ عن أهل
أوربة هذا السلاح الجديد والنظام العسكري الحديث وتتشبه بهم في أعمال الحرب؛
لسهل على حكومة صغيرة كانت بلادها ولاية عثمانية كالبلغار أن تدمرها وتأخذ
عاصمتها في أسبوع واحد، كما سهل على الأوربيين أخذ أكثر الممالك الإسلامية
التي لم تتشبه بهم في ذلك أو جميعها. ولكن وراء ما نسمعه من هؤلاء وأولئك من
العلم النقلي والعقلي والاجتماعي المؤيد بالاختبار ما لم تصل إليه روايتهم، ولم تسم
إليه درايتهم.
ثبت الهدي النبوي بمخالفة المسلمين لغيرهم فيما يتعلق بأمر الدين والدنيا؛
كحديث: (صوموا عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يومًا وبعده يومًا)
رواه أحمد والبيهقي في سننه بسند صحيح، وكان أمر بصومه وحده، فقيل له:
إن اليهود تصومه؛ فأمر بمخالفتهم بالزيادة، كما أمر بمخالفتهم بتغير الشيب وكانوا
لا يخضبون. رواه الشيخان وغيرهما، وخالفهم في سدل الشعر، فكان يفرق شعره
(كما ثبت في الشمائل) وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى عامله في بلاد العجم
عتبة بن فرقد ينهاه ومن معه عن زي الأعاجم.
والحكمة في هذه المخالفة أن يكون للأمة الإسلامية التي كانت تتكون في ذلك
العهد مقومات ومشخصات ذاتية تمتاز بها عن سائر الأمم، فتجعل نفسها تابعة لا
متبوعة وإمامًا لا مقلدًا. وأن لا تأخذ عن غيرها شيئًا لأن غيرها يفعله؛ بل تأخذ ما
تراه نافعًا أخذ العاقل المستقل الذي يستعمل عقله وعلمه في عمله، ولا يكون إمعًا
يتبع غيره حذو النعل للنعل الحكمة ضالة المؤمن.
ولو اتبع كل جيش من الصحابة فتح بلادًا لعادات أهلها وأزيائهم لفني فيهم،
ولكن المسلمين على قلتهم كانوا يجذبون الأمم باستقلالهم إلى أتباعهم، حتى انتشر
الدين الإسلامي ولغته في العالم سريعًا. ثم كان من شؤم التقليد الذي أصبنا به أن
نتقل جماهير المسلمين في هذه الأزمنة من التقليد في الدين والعلم إلى التقليد في
العادات، حتى غلبت عليهم عادات الأمم الأخرى فوهت قوتهم، وسحلت مرائرهم،
وصاروا عالة على غيرهم، فأين نحن اليوم من حكمة عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - حين زينوا له في الشام أن يظهر بمظهر العظمة والزي الرائع لأهل البلاد
الذين تعودوا أن يروا حكامهم كذلك، إذ قال: إنما جئنا لنعلمهم كيف نحكمهم لا
لنتعلم منهم كيف يُحكَمون.
إننا أسهبنا في هذه المسألة في كتابنا (الحكمة الشرعية) الذي هو أول كتاب
ألفناه، ونحن في طور الطلب والتحصيل، وفرقنا هنالك بين حكم الأزياء في نفسها،
إذا تزيّا بها الأفراد لحاجتهم إليها، وبين تشبه الأمة بغيرها، وما فيه من المضار
الاجتماعية والسياسية، وكذا بين اقتباس الفنون والصناعات الحربية والعمرانية عن
الإفرنج، وبين التشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم، وما في الأول من النفع الذي لا
نحيا بدونه، وما في الثاني من الضرر الذي يحل جامعتنا، ويفسد كياننا، على أننا
مفتونون بالضار معرضون عن النافع، ونقلنا في العدد ٢٩ من سنة المنار الأولى
نبذة في بيان ضرر الثاني أولها:
(إذا نظرنا إلى التقليد والتشبه من طرف السياسة تجلى لنا أن الصواب
امتناع أمتنا عن التشبه أو التقليد لغيرها من الأمم في الأزياء والعاد (جمع عادة) ،
وكل ما لا فائدة فيه ولاسيما المناصبين والمحادين لنا) .. إلخ، فليراجعه من شاء
في ص ٥٥١ من الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول.
ولو أردنا أن نبين هذه المسألة بالتفصيل التام، لاحتجنا إلى تأليف مجلد كبير
أهم مباحثه؛ ما ورد في الكتاب والسنة، وعمل الصحابة من النصوص والأفعال
في ذلك، وما أخذه المسلمون عن غيرهم في الصدر الأول، وما تحاموه من ذلك
بقصد المخالفة لغيرهم لتكوين جامعتهم، وما يفعله المسلمون في هذه الأزمنة، وما
يتركونه من ذلك اتباعًا للهوى أو العادة لا للمصلحة ولا للشرع، وإن ادعى بعضهم
اتباعه فيه.
إن النصوص والمسائل التي تتعلق بالتشبه وعللها وحكمها، تختلف باختلاف
المنافع والمضار والمقاصد. وقد ألف ابن تيمية فيها كتابًا كبيرًا سماه: (اقتضاء
الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) توسع فيه ببحث مشاركة المسلمين
لغيرهم في أعيادهم، وشدد في ذلك بالدليل والبرهان، وناهيك بسعة اطلاعه ودقة
فهمه، ومع هذا تمكن أن يزاد ويستدرك عليه، ولكن لكل مقام مقالاً، ولكل زمن
مصالح وأحوالاً، وما يعقلها إلا العالمون المستقلون، وإن من موانع العقل والفهم
أن تجعل المسألة دينية تعبدية، وما هي إلا من المصالح الاجتماعية السياسية، فلا
نجمد فيها جمود بعض المغاربة الذين تحرجوا من زيّ الجند الأوربي الذي يتوقف
على مثله إتقان الحركات والأعمال العسكرية التي تعد من أعظم أسباب تفوق جند
على جند، ولا نغلو غلو بعض المشارقة الذين يقلدون الأوربيين في كل زي تقليدًا
أعمى من غير حاجة إليه، كالحازقين الذين يلبسون الثياب الضيقة الضاغطة التي
تعوقهم عن العبادة والحركة، ولا هي من أسباب الصحة ولا الراحة في بلادهم
الحارة، بل نتأمل فيما عند غيرنا من أمثال هذه المستحدثات الدنيوية، فما وجدناه
ضارًا بأجسادنا أو بثروتنا أو بآدابنا اجتنبناه ألبتة ونجتنب أيضًا ما لا يضر ولا
ينفع، وما كان ضره أكبر من نفعه. وأما ما وجدناه نافعًا نفعًا لا ضرر معه أو معه
ضرر قليل يزيد عليه ضرر تركه وإهماله فإننا نقتبسه لا بقصد التشبه والتقليد، بل
بقصد النفع الذي ثبت عندنا، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - في اقتباس
حفر الخندق من الفرس، ونجتهد مع هذا في جعله أحسن مما عليه غيرنا أو مخالفًا
له نوعًا ما من المخالفة التي تكون عنوان استقلالنا وتميزنا، وسدًا دون فنائنا في
غيرنا من الأمم.
أنا أعتقد أن تقليد المسلمين في الآستانة ومصر وغيرهما للأوربيين،
وتحريهم التشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم، قد كان مفسدة من المفاسد التي أضعفت
جامعة الأمة، وراخت عقدتها، وأوهنت أخلاقها، وجرفت ثروتها. وترى هذه
المفاسد على أشدها فيمن تعلموا لغات الإفرنج، وولعوا بزيارة أوروبة، فإن ما
يبذله المصريون منا في أوربة كل عام على الشهوات واللذات والزينة والقمار يكفي
لتعميم التربية الملية والتعليم النافع في القطر المصري كله؛ ومنه الفنون التي يجب
أن تقتبس من أوربة لإحياء الصناعة والتجارة، وإننا نرى الشاب أو الكهل منا
يترك زيه الوطني ويستبدل به الزي الإفرنجي ما عدا القبعة (البرنيطة) التي
يلبسونها في أوروبة فقط؛ لأجل أن يأمن الانتقاد إذا هو جلس في الحانات العامة
لمعاقرة الخمر، أو دخل مواخير البغايا لأجل الفسق، ونرى أن لابسي هذه الأزياء
تضعف رابطتهم بلابسي الأزياء الوطنية الأولى، وتقل ألفتهم وأنسهم بهم، ونسمع
منهم من انتقاد بعضهم على بعض، كما نسمع من المتغايرين في الجنس أو الملة أو
الوطن، ومن أغرب ضروب هذه التفرقة أن المتخرجين في المدارس العليا؛ لم
يقبلوا أن يكون المتخرجون في دار العلوم (مدرسة المعلمين العربية (أعضاء في
ناديهم، عندما أسسوه وهم أساتذتهم ومعلموهم، فاضطر هؤلاء إلى تأسيس ناد لهم
خاص بهم، وإني أعتقد أن اختلاف الزي مباعد بين القلوب أنه سبب باطن من
أسباب ذلك، ناهيك بما يضاعفه من لوازمه وغير لوازمه من اختلاف التربية،
وليس ضرر هذه التفرقة بين جماعات الأمة، ولا سيما جماعات المتعلمين بالأمر
اليسير، كلا. إنه لأمر كبير يستحيل أن تكون الأمة معه مستقلة عزيزة، وليس
هو الداء الوحيد الذي رمانا به التفرنج، بل إن أرقى المتفرنجين منا يتلذذ بإنفاق
ألوف الدنانير في القمار والفسق، ولا يخرج منه الدينار أو الدرهم لمصلحة الأمة
أو لأصحاب الحق عليه من قومه إلا نكدًا، وهو يزعم مع هذا الفساد أن الأمة ما
أفسدها إلا الدين أو أهله وعلماؤه. وحسبنا هذه العجالة هنا.
* * *
(٢ - الجواب عن مسألة طاعة المرأة لزوجها)
لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما
يدل على أن الطاعة الواجبة؛ تتوقف على النطق بمثل ما ذكره بعض الفقهاء في
مسألة طاعة المرأة لزوجها، ولا يدل على ذلك إجماع ولا قياس، ولم يمض به
عرف، وإنما قاله من قاله من الفقهاء تصويرًا للطاعة بما خطر في باله أنه يكون
حجة على الزوج؛ إذا أراد أن يمتنع عن النفقة متعللاً بعدم الطاعة، وإنما العبرة
في الطاعة بالفعل لا بالقول إلا ما كان الأمر فيه بالقول، وطاعة أولي الأمر واجبة
بنص الكتاب، ولم يقل أحد من الفقهاء بأنها تتوقف على قول يشعر بها أو أنه
يشترط فيها ذلك.
وظاهر عبارة السائل أنه يفرض المسألة في المرأة في حجر زوجها، وإنما
صور الفقهاء التمكين بمثل ذلك القول في ابتداء وجوب النفقة، فكان مذهب
الشافعي القديم أن النفقة تجب بالعقد ثم رجع عنه إلى وجوبها بالدخول، وهو
الصواب الموافق للسنة، ومتى دخل الرجل بامرأته وجبت عليه نفقتها إلا إذا
عصته في نفسها؛ إذ معنى ذلك أنها تأبى أن تكون زوجًا له، ويكتفى بالطاعة
بالفعل ولا يشترط أن تقول له شيئًا، وإنما يحتاج إلى مثل ذلك القول إذا عقد النكاح،
ولم يطلب هو من عقد عليها إلى بيته حسب العادة والعرف، وأرادت أن تطالبه
بالنفقة وتقاضيه فيها، وعلمت أنه يحتج بعدم الدخول وهو المقصر فيه، فلا بد لها
في مثل هذه الحال من مطالبته بالحياة الزوجية التي تترتب عليها النفقة مطالبة
يمكن الاحتجاج بها أمام القاضي، وهو ما عبروا عنه بالتمكين، وإن كان تعبيرًا
يمجه ذوق الأدباء والمنشئين. وهذه المطالبة يصح أن تكون منها أو من وكيلها أو
وليها، ولكن بعض الشافعية صرحوا بأن المكلفة والسكرانة تعرض نفسها بنفسها،
ويعرض غيرهما وليها بناء على سعة تصرف المرأة في الشريعة، وصرح بعضهم
بأن هذا غير شرط وأنه يعمل بالعرف، وهو أن المرأة يتكلم في شأن زواجها وليها
ولا سيما البكر، كما ترون في حاشية الشبراملسي على النهاية، وهذا هو الذي
يتجه لأن المحكم في مثل هذا هو العرف.
* * *
تفسير:] وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [[*]
(س ٧٠) من صاحب الإمضاء بدمشق الشام
حضرة المصلح الكبير سيدي السيد محمد رشيد رضا أدام الله نفعه آمين.
بعد تقديم واجب الاحترام أعرض أنني قرأت في مناركم الأغر (ج٦م١٤)
جوابًا على سؤال ورد من دمياط من مصطفى نور الدين حنطر عنوانه: (القدر
وحديث خلق الإنسان شقيًّا وسعيدًا) وحقيقة لقد أجدتم في الجواب بحيث قطعتم
ألسنة الذين يحتجون بالقضاء والقدر (أي على الجبر والكسل) ، وظهر فساد رأيهم
بحجج ناهضة لا يعقلها إلا العالمون، وأزلتم من الشكوك والخطرات ما يصعب
على غيركم إزالته، فجزاكم الله خير الجزاء، لا زلتم ملجأ للتائهين عن المحجة
البيضاء، وداحضين شبهات المتنطعين المقلدين الذين لم يعرفوا من الدين إلا قوال
هذا وذاك. هذا وقد وقع في خلدي شبهة في مسألة القضاء والقدر في قوله تعالى:
{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة: ١٣) ، فأرجوكم كشف قناع تفسير هذه الآية حتى
يطمئن القلب ويظهر الصبح لذي عينين؛ لأنها أوقعتني في ارتباك لا يزول إلا
باستنشاق نفحات علومكم وورد معارفكم، وأتمنى أن يكون الجواب في أول عدد
يصدر من مجلتكم، حفظكم الله وجعلكم منارًا لكل مستنير آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الفتاح ركاب السكري
(ج) معنى الآية الحكيمة والله أعلم {وَلَوْ شِئْنَا} (السجدة: ١٣) أن
نجعل الناس أمة واحدة مهتدين صالحين كالملائكة {لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: ١٣) ، وجعلناه أمرًا خلقيًّا فيها لا تستطيع غيره ولا يخطر في بالها
سواه، وحينئذ لا يكون هذا النوع هو النوع المعروف الآن، ولا يكون مكلفًا مجزيًّا
على عمله؛ لأنه لا اختيار له فيه، ولا يكون ثم حاجة لوجود دار للجزاء على
الحق والخير، ودار للجزاء على الباطل والشر.
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي} (السجدة: ١٣) إلخ معناه: ثبت
وتحقق القول المؤكد مني بأن يكون الجن المستترون، والناس المتجسدون مكلفين؛
لأنهم يعملون بالاختيار، ومثابين معاقبين لاختلاف الأعمال بالتفاوت في العلم
والاستعداد؛ ليكون لجهنم منهم ملؤها، كما يكون للجنة قسطها، أي فلهذا لم نؤت
كل نفس هداها بأصل الخلقة بل هديناها النجدين، ودللناها على الطريقين، بأن
خلقناها مستعدة لقبول الحق والباطل، وعمل الخير والشر، وآتيناها علمًا وإرادة
واختيارًا ترجح بها سلوك أحد الطريقين على الآخر، وجرت سنتنا بأن يكون
عمل كل نفس بقدرة صاحبها متوقفًا على ترجيح الفعل أو الترك على ما يقابله،
وأن يكون الترجيح بإرادة العامل، وأن تكون الإرادة تابعة للعلم بالمنافع والمضار
والمصالح والمفاسد، كما جرت سنتنا وسبقت كلمتنا بأن يكون من خلق الإنسان
ومقتضى فطرته أن يرجح دائمًا فعل ما ينفع وترك ما يضر بحسب علمه بذلك،
فعلى هذا تكون سعادة الإنسان وشقاوته تابعين لعلمه بالحق والباطل والخير والشر،
فإن كان علمه صحيحًا وجدانيًّا أو عقليًّا غير معارض بوجدان غالب رجح الحق
والخير على ضدهما فكان سعيدًا، وإلا رجح الباطل والشر فكان شقيًّا، ولكن الناس
كثيرًا ما يجهلون الحقائق في ذلك، فيرجحون ما فيه شقاوتهم على ما فيه سعادتهم.
وقد لطف الله تعالى بالإنسان فأمد علمه المسكوب الناقص بالوحي، الذي هو كالعقل
للنوع.
لا يذهب بك الظن إلى أنني خرجت عن معنى الآية بما أشرت إليه من سنة
الله في خلق الإنسان فيها، فإنك إذا راجعت ما قبلها من السورة، تجده في خلق
الإنسان وحكمة الله وإبداعه فيه، فإنه تعالى ذكر في أولها إنزال الكتاب وكفر من
كفر به، ثم ذكر خلق السماوات والأرض وتدبيره الأمر بينهن، وكونه أحسن كل
شيء خلقه، وخلق الإنسان وتسويته، ونفخ الروح فيه، وإعطاءه الحواس والعقل
وأنه قليلاً ما يشكر له هذه النعم باستعمالها فيما خلقت له، ثم ذكر إنكار المشركين
للبعث، ثم الموت والجزاء، وتمنيهم الرجوع إلى الدنيا في يوم الحساب، ثم ذكر
الآية. فلا بد في تفسيرها من التوفيق فيها بين مقتضى المشيئة، ومقتضى سنن
الخلقة، فإن مشيئة الله تعالى إنما تجري بسننه في خلقه، كما بينا ذلك مرارًا،
والسياق هنا جامع للأمرين.
والقول في هذه الآية تكويني كقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء والأرض:
{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١)
وقوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء: ٦٩) ومنه
كلمة التكوين العامة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس:
٨٢) وتسمية عيسى المسيح كلمة الله، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ} (الصافات: ١٧١-١٧٢) كل هذا وأمثاله مما
يذكر في بيان خلق الأشياء، وسنن الله في تكوينها ليس من القول اللفظي ولا الكلام
النفسي، وإنما هو القول والكلام التكويني الذي هو من متعلقات صفة الإرادة
والمشيئة التي يتبعها الإيجاد والتكوين، لا متعلقات صفة الكلام التي يكون بها
الوحي والتكليف، فمعنى {حَقَّ القَوْلُ} (السجدة: ١٣) بما ذكر في الآية أنه
مما تعلقت به مشيئة الله تعالى في التكوين، فإنه تعالى شاء أن يكون الناس كما قال
في آية قبلها ذوي حواس وعقول متمكنين من الشكر والكفر، كما نعرف من أنفسنا
وأبناء جنسنا، وبذلك كانوا مستعدين للأشياء المتقابلة المتضادة، مختارين في
الترجيح بينها، ويترتب على ذلك أن يحسن فريق منهم الاختيار فيكونوا من
أصحاب الجنة، ويسيء فريق منهم الاختيار فيكونوا من أهل النار، وتتم كلمة الله
في تكوين الفريقين على ما سبق بيانه، وهذا ينطبق على ما شرحناه في تفسير
القدر، وكونه عبارة عن النظام الإلهي والسنن.