للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


باب البدع والخرافات والتقاليد والعادات

يعلم القراء أن البحث في هذه المواضيع هو من المقاصد التي أنشىء لأجلها
المنار وأننا كتبنا فيها كثيرًا، وقد اقترح علينا في هذه الأيام الأخ الفاضل المجاهد
العامل محمد علي أفندي كامل صاحب دار الترقي أن نجعل هذه المباحث في باب
مخصوص من المنار وأن لا يقل الكلام فيه عن كراسة من كل جزء ليسهل الرجوع
إليه على من يريده في كل عدد وفي كل مجلد من مجلدات المنار. واقترح أيضًا
طريقة لتعميم نشر المنار وهي أن تخصص مئات من نسخ كل جزء لتوزيع بعضها
مجانًا على طلاب العلم الفقراء الذين لا يستطيعون الاشتراك وبعضها على طائفة
منهم بنصف القيمة أى بخمسة وعشرين قرشًا أميريًّا، وأن يرسل المنار إلى كل من
يطلبه لأجل الاطلاع عليها بغير ثمن ولا أجرة، وقد حلت هذه الاقتراحات منا محل
القبول؛ لأنها موافقة للغرض من إنشائه، وسنوزع المقدار المخصص لطلاب العلم
ونحوهم بمساعدة المقترح بعد التحري والعلم بحالهم ونشترط عليهم شرطًا واحدًا لا
نحل لهم أخذ المنار إلا به وهو قراءته والسعي بنشر ما يرونه حقًّا من مسائله
ومراجعتنا فيما يرونه خطأ أو باطلاً. أما مواضيع الباب الجديد فنقسمها تقسيمًا كما
ترى:
قسم الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة

المصافحة الحبشية. استفتاء وبلاء
كتب إلينا من حضرة الفاضل الشيخ عبد السلام الرفيقي رئيس جمعية رفيق
الإسلام في مقاطعة بنجاب - الهند رسالةً مطولةً يتبعها رقيم يستلفت إلى ما في
الرسالة، ويطلب الجواب السديد عنه.
ملخص الرسالة أنه وقعت في كشمير داهية عجيبة ومصيبة عظيمة،
واضطرمت نار الفتنة وصار يجادل المرء زوجته والابن أباه والأخ أخاه والصديق
صديقه في المسألة التي كانت مثار الفتنة وهى أن بعض الواعظين قرأ على منبر
المسجد الجامع يوم الجمعة في كشمير إنكار المصافحة والصحبة لأبي سعيد الحبشي
من المعمّرين وقال في شأنه: إنه خبيث مع من أقرّه وكذاب وشيطان وسبه ولعنه.
(قال في الرسالة ما معناه) : إن هذا يستلزم تنقيص الأولياء والأصفياء وكونهم
غير محققين لأنهم من المصدقين بهذا الحديث وقال: إن المنكر أفتى العوام بتجديد
الصلوات، وصار مناعًا للخيرات والصدقات لمن صلى خلف المقرين. وذكر أن
المنكر احتج على إبطال هذا بمثل الحديث الصحيح الناطق بأنه لا تبقى بعد مائة
سنة نفس منفوسة ممن كان في ذلك الوقت، وردّ عليه بأن الحديث مختلف في
تفسيره لحياة الخضر وغيره وبما نقل في حاشية رآها صاحب الرسالة عن
(الإصابة في معرفة الصحابة) من أن عثمان بن الصالح مات سنة تسع
عشرة ومائتين. قال: فمع هذه التأويلات والاحتمالات وإقرار أصفياء الله تعالى في
أرضه كسيدنا وسندنا السيد محيي الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه بوجود
المعمرين كإلياس والخضر يقال هذا , ثم ذكر أسماء كثيرين من أهل الطريق والمشايخ والمتصوفة الذين تلقوا حديث هذه المصافحة بالقبول وذكر بعض طرقهم.
ثم ذكر أن المنكر قد أوقع الخلاف بين أرباب الطريقة بزعمه أنه لو صحت
صحابية أبي سعيد الحبشي من المعمرين لكان عسكر سلطان قطب الذي كان واليًا
في كشمير في عهد الأمير السيد علي الهنداني أفضل درجة ورتبة من سيدنا محيي
الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه لأنهم صاروا من أتباع التابعين، وردّ
عليه بأنه لم يراع القرن في حديث (خير القرون قرني) إلخ ولم يراع حال الذين
يرون سيدنا عيسى في آخر الزمان وكونهم يصيرون تابعين أفضل درجة، ومزية
من سيدنا محيي الدين عبد القادر الجيلاني وغيره من الأولياء الكاملين , ثم ختم
الرسالة بقوله:
(فيا أهل العلم والحديث والنهي وأصحاب الشرع والفقه والحجى , وأرباب
الورع والتُّقَى أعينونا بالإنصاف وأغنونا عن الاختلاف وبينوا لنا جوابًا شافيًا
للقرآن والسنة , وما استنبط منها العلماء الراسخون والأتقياء العارفون، فلله دركم
وأجركم والسلام) .

(المنار)
حديث المصافحة الحبشية رويناه عن أستاذنا الشيخ أبي المحاسن محمد
القاوقجي بسنده إلى الأستاذ علي البيومي كما صافحه الشيخ عيسى الطيلوني كما
صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني ح وعن أستاذه الشيخ محمد عابد
السندي كما صافحه الشيخ صالح الفلاني كما صافحه مولاي محمد بن سنّه كما
صافحه مولاي محمد بن عبد الله كما صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني
كما صافحه تاج الدين الهندي كما صافحه عبد الرحمن حاجي كما صافحه الحافظ
علي كما صافحه محمود إستقرازي كما صافحه أبو سعيد الحبشي وهو صافح سيد
الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا: وكتب في مسلسلاته (وأبو
سعيد الحبشي لم يعرف في الصحابة ولعله ممن لم يشتهر) .
ونقول: إن غرام المشتغلين بالرواية في علوّ الإسناد هو الذي يحملهم على
التأويل في الذي لم يثبت وإلا فكيف يتصور أن صحابيًّا يعيش مئات من السنين ولا
يشتهر ولا يعرفه الأئمة والحفاظ , وثم أسباب أخرى لنقل هذه الأحاديث التي لم
تثبت منها حسن الظن ومنها الامتياز بالروايات وكثرة الأشياخ وبمضمون الرواية
إذا كانت كحديث المصافحة الذي قال فيه: (من صافحني أو صافح من صافحني
دخل الجنة) فالذين يعيشون بالصلاح يأخذون هذه الأحاديث على ظواهرها
ويقيمون النكير على من يبحث في نقد سندها أو متنها ويرمونه بالتهاون في الدين،
وأما المشتغلون بالحديث فقلما يسكتون عليها، ولذلك جاء في مسلسلات شيخنا
القاوقجي عن شيخه السندي ما نصه على ما رويناه عنه قولاً وكتابة (وأوهى طرق
هذا الحديث ما تلقيته عن شيخنا علي سلطان قال: من صافحني أو صافح من
صافحني دخل الجنة) إلى أن انتهى إلى أبي العباس الملثم كما صافحه المعمّر،
وهو صافح النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ذكر الشعراني في طبقاته في ترجمة
أبي العباس أحمد الملثم أنه كان له لثام يتلثم به دائمًا، قال: واختلفوا في عمره،
فقال قوم: إنه من قوم يونس عليه السلام، وقال آخرون: إنه رأى الإمام الشافعي
وصلى خلفه، وقال قوم: إنه يعرف القاهرة وهي أخصاص، ثم ذكر عن تلميذه
عبد الرحمن القوصي أنه سأله عن عمره فقال: نحو أربعمائة سنة. توفي في حدود
الستمائة ودفن في الحسينية في القاهرة، وقال ابن حجر بعدما أطال الكلام على هذا
الحديث: (والمعمر شخص من المغاربة اختلف باسمه وهو من الكذابين) ، قال
الشيخ: وقد أوردت هذا الطريق تبركًا بذكر هذه الأشياخ أي لا لأنه يوثق به ,
وصلاح الأشياخ لا يدل على صحته كما توهم في الرسالة.
والحاصل أن الذي أنكر صحابية أبي سعيد الحبشي على منبر الجامع في
كشمير مصيب في إنكاره ولكنه مخطىء في السبّ واللعن , وقد تنازعنا بإزاء هذه
الواقعة عاملان: عامل سرور لاهتمام مسلمي الهند رجالاً ونساءً بأمور الدين حتى
ما كان من قبيل رواية الحديث، وأكثر المسلمين لا يبالون اليوم إلا بالمحافظة على
التقاليد والعادات التي تلبسوا بها باسم الدين، وعامل كدر للغلوّ في الدين المذموم في
القرآن فإذا أنكر أحدنا منكرًا يغالي في الإنكار فينفر المنكر عليهم ويحملهم على
اللجاج والعناد في مقاومته ومنازعته فيضيع الحق بهذه التعصبات والتحزبات،
وهذا الخلق صار موروثًا عند المسلمين منذ قرون حيث فتح على الفقهاء والمتكلمين
باب المناظرة والجدل في المذاهب لا يبتغي أحد إلا تأييد قوله وإثبات مذهبه، وقد
شرح مفاسد مناظراتهم الإمام حجة الإسلام في كتاب العلم من الإحياء.
هذا ما تيسر لنا الآن أن نكتبه ونحن في المطبعة يطالبنا العَمَلَةُ به ورقة فورقة
لأجل جمع حروفه للطبع ونرجو من السادة العلماء المشتغلين بعلم الحديث الشريف
رواية ودراية أن يكتبوا لنا ما عندهم في هذه المسألة إجابة لرغبة إخوانهم الهنديين
والله الهادي.
قسم الموالد والمواسم
نكتفي في هذا الجزء بمقالة نشرت في جريدة المؤيد الغراء ببعض اختصار
وهي:

المولد الأحمدي في
مدينة طنطا
انفض الاحتفال بالمولد الأحمدي في طنطا يوم الجمعة الماضي. ولم ير الناس منذ
سنين احتفالاً مزدحمًا مثله فقد كانت الخيام إلى ١٥ كيلو مترًا في ضواحي المدينة
صفوفًا متصلة ومتداخلة في بعضها.
وبلغ عدد التذاكر الواردة على محطة طنطا مدة المولد من الجهات المختلفة
مائة وخمسين ألف تذكرة بزيادة ٣٦ ألف تذكرة عن العام الماضي. ويقدر عدد
الذين حضروا من طريق البر على الجمال والدواب بأربعة أمثال هذا العدد على
الأقل فكان زائرو المولد هذا العام نحو ثلاثة أرباع المليون ضاقت مدينة طنطا حتى
كأنها المحشر اجتمع الناس بها في صعيد واحد. لذلك كان الذي يمشي على رجليه
قدر كيلو متر لا يستطيع أن يقطعه في أقل من ساعة زمانية والركوب في مثل هذا
الزحام أكثر عناءً وخطرًا.
أما التجارة العمومية في البضائع المختلفة الواردة على المولد وخصوصًا
المواشي فلم تكن على نسبة هذا الزحام من الرواج، ولكن مقالي الحمص أدت
وظيفتها كالعادة وقد ربحت الربح الوافر من تجارتها هذه لأن زوَّار السيد على
العموم لا يرضى أحدهم أن يخرج (من المولد بلا حمص) .
وبديهي أن ثمانين في المائة من زوار السيد البدوي في مولده أو قصاد المولد
لسيده منساقون إليه بقوة الاعتقاد في هذا الولي الكبير صاحب الكرامات المشهورة.
فكل من له عادة في زيارته يتشاءم إذا قطع عادته حتى لا يقطع السيد معه عوائده،
فلو وجد من يستطيع أن يستخدم هذا الاعتقاد القوي الحسن في نفوس الناس إلى
خيرهم كل سنة لكان المولد كله بركة على القطر. ولكن من الأسف العظيم أن هذا
الاعتقاد في نفوسهم مرتكن أكثره إلى خيالات باطلة وأوهام فاسدة تجعلهم يرقبون
السيد أكثر مما يرقبون الله.
رسخت عندهم أوهام فاسدة أضر غالبها بأخلاقهم وأودى بها لأنها مغايرة
للشرع الشريف وهو أسّ الفضيلة ونموذج الكمالات. فترى مولد السيد بذلك محشرًا
لأصناف الناس على أزياء شتى ومقاصد شتى أكثرها مفسدة للآداب. وأجمع ما
يجمعها الاحتفال الذي يسمى بزفة الخليفة الذي قد كان راكبًا على رأسه تاج الخلافة
الأحمدية مثنيًا عنقه ذات اليمين تارة وذات الشمال أخرى، ولكن خلفه بقيد ذراع
راقصة مشهورة في العاصمة اسمها (شفيقة القبطية) كانت ترقص على الجمل
سائرًا ويقول البسطاء من أولئك الحَسْنَى الاعتقاد: إن بركة السيد هي الحافظة لها
على هذا الحال من السقوط، وإذا رأوا الجمل قد أرغى وأزبد قالوا: إن بركة السيد
قد حفت هذا الحمل وكاد يكون وليًّا من أولياء الله تعالى.
وعلى هذا النحو من خليط الأوهام وحسن الاعتقاد وسوئه وسذاجة العقول
وفساد الآداب. وعلى مثل هذا المزيج من الحسنات والسيئات كان نظام المولد
الأحمدي ونموذج الآداب فيه.
فمن لنا بمصلح للأخلاق يبعثه الله تعالى ليجدد للناس دينهم بل وعقولهم.
نحن لا نطلب ولا نريد أن يبطل احتفال عظيم كالاحتفال بالمولد الأحمدي
الذي يجمع مئات الألوف من المصريين في صعيد واحد يتبادلون الأخذ والعطاء
والسلام والكلام ولكن نتمنى من صميم أفئدتنا أن يكون عقلاء المسلمين فيه هداة
بسطائهم إلى ما يحول وساوسهم الجائلة في نفوسهم إلى عقائد حسنة تصلح بها
آدابهم وأخلاقهم. ولأئمة ديننا الأعلام أولاً ولرجال حكومتنا ثانيًا في مثل هذا القدوة
الحسنة إن شاءوا والله الموفق.