للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ما قيل في سقوط بغداد
(٢)
نشر المقطم في عدد ٢٨ جُمَادَى الأولى سنة ١٣٣٥-٢٢ مارس ١٩١٧
ترجمة منشور الجنرال مود الذي خاطب به أهل بغداد عقب دخولها فاتحًا باسم ملكه
واسم الشعوب التي يحكمها، وقد بدأه ببيان أن غرضهم من الحرب كسر العدو،
وإخراجه من البلاد، فمجيء جيوشهم العراق؛ لذلك لا (كما يأتي الغازي الفاتح
والعدو الطامع) ، ثم ثنى بذكر تخريب الأجانب للبلاد من عهد هولاكو واستبدادهم
فيها، ثم قال:
إن جلالة ملكي وشعوبه والأمم العظيمة المحالفة له يرومون لكم السعادة
والرخاء وإحياء العصر القديم، لما كان الخصب منتشرًا في دياركم، تضيء العالم
بنبراس الآداب والعلم والفنون، ولما كانت بغداد إحدى عجائب الدنيا.
إن بين شعبكم وأملاك ملكي علاقات مصلحية وثيقة؛ فقد تعامل تجار بغداد
وتجار بريطانيا العظمى منذ مائتي سنة بتمام المودة والصداقة، وجنى الفريقان
الربح، أما الألمان والترك الذين نهبوكم فقد اتخذوا بغداد منذ ٢٠ سنة مقرًّا لمهاجمة
قوة بريطانيا العظمى وحلفائها في إيران وجزيرة العرب، فلم يسع الحكومة
البريطانية إلا أن تكترث لما يقع في بلادكم الآن وفي مستقبل الأيام، فإن الواجب
والمصلحة للشعب البريطاني وحلفائه يقضيان على الحكومة أن لا تسمح بأن يتكرر
في بغداد ما فعله الترك والألمان في إبان الحرب.
ثم خاطب أهل بغداد خاصة، فذكر لهم أن حكومته يهمها يسرهم التجاري
وسلامتهم من الظلم والجور مؤمّنًا إياهم من إرهاقها لهم بأحكام أجنبية عنهم، قال:
بل هي ترجو أن تحقق آمال فلاسفتكم وحكمائكم وكُتابكم؛ فتزهو بغداد وتزهر
وينشط أهلها ويتمتعون بثروتهم ومقتنياتهم في ظل النظام الذي يطابق شرائعكم
المقدسة وأمانيكم القومية، وذكَّرهم ثانية بظلم الأجانب واستقلال الحجاز. وختم
المنشور بدعوتهم إلى الاشتراك في إدارة شئونهم الملكية مع مندوبي بريطانيا
العظمى، الذين يصحبون الجيش البريطاني (قال) : فتتحدوا مع بني جنسكم في
الشمال الشرقي والجنوب والغرب على تحقيق آمال العرب.
ثم نشر المقطم مقالة في عدد ٢٩ جمادى افتتحه بعبارة طويلة من مقالة
لمستشرق بريطاني، دعا العرب فيها إلى اليقظة وطلب الحرية والاستقلال (هي
المقالة التي نشرها المقطم في شهر سبتمبر من العام الماضي، وأشار إليها في
المقالة التي نقلنا عنه معظمها في آخر الجزء الماضي) ، هذا نصها:
هل انحط العرب اليوم أو فسدت أحسابهم وضعفت همتهم؟ ، كلا، لا هذا
ولا ذاك؛ فهمتهم لا تزال كبيرة، وأحسابهم لا تزال صحيحة، وهم حافظون
لأنسابهم وقد صانوا ما زانهم به الله من قوة وبأس وهمة ونشاط ومضاء عقل
وأصالة رأي وشجاعة وإقدام وأخلاق كريمة وسماحة وجود وإحسان، ولكني رأيتهم
غارقين في بحور الفاقة، وقد تولاهم التفرق واشتد بهم الانقسام؛ فدانوا لسواهم
وخضعوا. وبعد ما كانوا سادة صاروا مسودين، فهل يبقون - بعد أن تضع
الحرب أوزارها - كما كانوا لما أضرم أوارها.
تشتت شمل العرب ودالت دولتهم منذ عصفت في بلادهم عاصفة هولاكو
المغولي واجتاحها السلجوقيون رعاة طوران، فضاع استقلال العرب وباتوا رعية
لسواهم، فذلوا بعد العز، وافتقروا بعد الغنى وخيم الجهل على بلادهم بعد ما كانت
مطلع الشمس العلم والعرفان، حتى طلع صبح اليوم الذي تفك فيه قيود الأمم
المقهورة، فهل يعتبر العرب بما يقع الآن في أنحاء الدنيا، ويجمعون كلمتهم
ويبتغون الوحدة القومية لهم ولأبنائهم بعدهم.
لقد كان العرب أعداء أنفسهم، فأوسعوا مجال الانقسام بينهم، ولولا ذلك لما
تسلط عليهم شعب أدنى منهم وأحط، فالعرب لا تعوزهم الشجاعة، ولا تنقصهم
الأخلاق الكريمة، وقد امتد ملكهم من بحر الروم إلى سور الصين، فضُربت
الأمثال بنجدتهم، وتحدثت الأمم ببأسهم وشدتهم، ولا يزالون - كما كانوا - من
أشد الناس نخوة وأعظمهم حمية، وهم كرمل البحر في الكثرة، فكيف يرضون
بالذل، ولا يطمعون بالاستقلال ومساواة الشعوب العظيمة والتمتع بأطايب الحياة
ورغد العيش والهناء؟ !
لست أدعو العرب لأن يكونوا سفاحين كالألمان ولا ظالمين كالترك، ولكنني
أتمنى لهم أن يكونوا أحرارًا في بلادهم، وأن يطيبوا نفسًا وعيشًا، ويعودوا إلى
سابق عهدهم، فينيروا العالم بأنوار حكمتهم وعلمهم، وفلسفتهم وصناعتهم، كما
فعل أسلافهم الكرام من قبلهم.
إني أسمع صوتًا ينادي من السماء، ويقول: انهضوا يا أبناء عدنان، ويا
سلالة قحطان، وأفيقوا من سنة النوم فقد غلبت عليكم ألف عام!
ثم قفَّى المقطم على هذه النبذة بالتنويه بمنشور الجنرال مود والثناء عليه،
ولكنه هفا هفوة كبيرة في المقابلة بينه وبين ما خاطب به الحجاج أهل العراق؛ إذ
وصفهم بالنفاق والشقاق، والفرق بين الحالين عظيم.