المقالة السابعة تابعة كما في العدد ٤١ من المجلد الثاني نشرنا في منار السنة الثانية مقالات في كرامات الأولياء ذكرنا في مقدمة المقالة الأولى منها (٢: ٢٦) أن النظر في هذه المسألة من وجوه حقيقتها، والحكمة فيها. حجج القائلين بجوازها ووقوعها. حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها ومضرّته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات، وقد بَيَّنا هذه الوجوه والمباحث إلا مبحث منفعة الاعتقاد بالخوارق ومضرته فقد كنا عازمين على أن نرجئه إلى أن ننقل طائفة من الخوارق التي تُؤْثَر عن كهنة الوثنيين والكتابيين؛ إيضاحًا لما جاء في عرض القول من أن جميع الأمم تدعي لرؤساء دينها الخوارق والكرامات، ولما كان هذا يتوقف على مراجعة كتب الدين لتلك الملل، وذلك لا يتيسر إلا في وقت الفراغ ظللنا نتربص هذا الوقت فمرت السنة الثالثة ولم نُصِبْه فيما بعدها؛ فوعدنا في آخرها بأن سنتم في الرابعة مبحث الخوارق، ومبحث مدنية العرب، ومرت الرابعة مختومة بوعد آخر لم نر بدًّا من الوفاء به مع الإيجاز كما بدأنا الوفاء بمبحث مدنية العرب، ونسأل الله تعالى أن يتوب علينا من الوعود المحدودة؛ وإن كانت آجالها ممدودة. اضطررنا إلى الوفاء بهذا الوعد (إكمال مبحث الكرامات) الذي ضاق عنه حولان كاملان في أضيق الأوقات علينا وأكثرها شواغل - في جزء آخر سنة تقدمه عيد لا عمل فيه، وانحراف في المزاج من النزلة الوافدة (الإنفلونزا) وزاحمه مع الأعمال الإدارية والحسابية الاشتغال بالانتقال من المنزل الذي نحن فيه إلى منزل آخر مجاور له والاشتغال بتأسيس مطبعة المنار، وهذه عاقبة من عواقب التسويف السيئة ذكرناها تأديبًا لنفسنا ولغيرنا ولتكون لنا في الاختصار والإيجاز في موضوع كنا نود التطويل فيه؛ لأن للاعتقاد بالخوارق تأثيرًا في الأخلاق والآداب والعادات وشئون المعيشة والكسب، وإن شئت فقل: إن لها التأثير العظيم في سير الأمم، فرسوخ هذا الاعتقاد في قوم وزِلْزاله أو زواله من نفوس قوم هو من علل ما عليه الأقوام من التقدم والتأخر في السيادة والثروة وضدهما. *** (الخوارق عند الوثنيين) كانت الأديان الوثنية كلها قائمة بخوارق العادات، وكان لقدماء المصريين منها النصيب الأوفر ولا يزال وَثَنِيُّو الهند إلى اليوم يأتون بخوارق مدهشة، ومن أغرب خوارق البراهمة الجلوس في الهواء، ولكن الأوربيين تمكنوا بصناعتهم من محاكاة هذه الخارقة، ومن خوارقهم أنهم يضعون النار في أفواههم، فلا تضرهم على أنهم يلفظونها غير مطفأة، ومنها أنهم يظهرون أشياء من العدم، ومنها أنهم يستنبتون الشجر من البِزْرة في مدة قليلة خارقة للعادة، ومنها أنهم يذبحون الإنسان ثم يحيونه، ومنها أنهم يخبرون عن المغيّبات فيصيبون، ومن أحقرها ملاعبة الأفاعي والثعابين والتعرض للسعها. وقد نشرت جريدة الأهرام من مدة قريبة بعض العجائب والخوارق التي تظهر على أيدي هؤلاء الهنود، والهنود معروفون بهذه الخوارق من قديم الزمان، وقد اعترف لهم بعض المتصوفة بشيء مما وصل إليهم، وعللوا ذلك بأنه أثر الرياضات الشديدة التي تكون منهم (راجع كتاب الجواهر والدرر للشَّعْرَانيّ وغيره) ومن هذا التعليل يعلم أن أصحاب تلك الخوارق لم يكونوا كلهم من الأشرار، أو الذين يتعرضون لإيذاء الناس فتأتي التفرقة التي يُفرق بها بعض المتكلمين بين المعجزة والسحر، بل الكثيرون منهم عباد زهّاد نُسّاك متسمكون بدينهم أتم الاستمساك، أما التفرقة الحقيقية بين السحر وآيات الأنبياء فقد تقدمت في بحث الآيات من الأمالي الدينية. *** (الخوارق عند النصارى) كل ما ذكره الذين ألفوا الكتب منا في مناقب الصالحين، وكل ما يتناقله الناس فيما بينهم من كرامات، أولئك الصالحين أحياءً وأمواتا؛ يوجد مثله في كتب النصارى، وفي رواياتهم اللسانية التي يدعون أنها عن مشاهدة أو ترتقي إلى المشاهدة، ومن ذلك ظهور المسيح ووالدته عليهما السلام للعباد في اليقظة والمنام، وظهور غيرهما من القديسين. ومنه استجابة الدعاء، والإخبار بالمغيبات الذي يسميه المسلمون كَشْفًا، ويسمونه نبوّة، ومنه طيّ الأرض، وتقريب المسافات البعيدة، ومنه إشراق الوجوه بالأنوار وقت العبادة، ومنه نزول المصائب والرزايا بمن يؤذي القديس، ومنه قضاء الحاجات، والفوز بالخيرات لمن يتوسل بأحد القديسين والرهبان المتوحدين ويتخذه شفيعًا عند الله، ومنه شفاء المرضى والمجانين ببركات القديس الحي إذا لمس المريض أو صلى له (أي دعا) . والقديس الميت إذا زار المصاب قبره، ومنه حَبَل النساء العواقر بالبركة والزيارة، ومنه إخراج الشياطين من المصروعين، ومنه ظهور الملائكة للقديسين ومصاحبتهم ومساعدتهم إياهم في بعض الشئون، ومنه الصبر عن الأكل والشرب زمنًا طويلاً، ولكن الذي ينقل عن الهنود من هذه الخارقة لم ينقل مثله عن غيرهم؛ فإن أحدهم يدفن في الأرض نحو شهر أو أكثر ثم يخرج منها حيًّا، وينقلون من كرامات القديسين ما هو أعظم مما ذكر، ويدّعون في بعضها التواتر، فقد جاء في كتاب (العيشة الهنية في الحياة النسكية) أن من عجائب القديس أغناطيوس التي تزيد على مائة عجيبة ما هو ثابت بشهادة ستمائة وسبعين رجلاً. هذا تواتر حقيقي، والتواتر حجة عقلية باتفاق علماء المسلمين وغيرهم، والذين يدعون هذه الدعوى للقديس أغناطيوس يسهل عليهم أن يسردوا أسماء أولئك الشاهدين ومَنْ نََقَل عنهم، فلا يبقى للمنكر عليهم إلا أن يلجأ إلى تأويل تلك الخوارق، وإثبات أنها خوارق وَهْمية لا حقيقية، وهنا يَحْكُم العقل السليم من شوائب التحيز والتعصب، الذي ينظر إلى الأمم نظرًا واحدًا لا يريد منه إلا استجلاء الحقائق بأن التأويل إذا جاز فيما ينقل عن قديسي النصارى وكهنة البراهمة جاز ينقل عن شيوخ المسلمين، فإذا كانت طرق النقل عند جميع الأمم واحدة؛ فإما أن نصدق الجميع، وإما أن نكذب الجميع، وإما أنْ نُؤَوِّل الجميع ولا رابع لهذه الوجوه، ومن قال من هذه الفِرَق: إنني أثق بنقل قومي دون غيرهم لأنني عالم بحسن سيرتهم، يقال له: وغيرك كذلك فليس لك أن تحتج بأن ما ينقل عن صالحي ملتك دليل على صحتها لأن هذا الدليل هو الذي يسميه علماء النظر مشترك الإلزام. وإذ ذكرنا القديس أغناطيوس - وهولويولا مؤسس (طُغْمة الجزويت) التي يستغيث من طمعها سائر فرق النصرانية - فإننا نشير إلى بعض عجائبه أو خوارقه على سبيل النموذج، قال القَسُّ أفرام في ترجمته عند ذكر رياضته الأولى بعد تركه الجندية ودخوله في الإكلركية: (وقد اتفق له مرة أنه نهض لممارسة رياضته هذه الاعتيادية فتقدم إلى أيقونة والدة الله (تعالى الله عن الوالدة والولد) وجثا أمامها بأقوى ما يكون من العبادة، وقدم نفسه للسيد المسيح بواسطتها وخصص حياته لخدمة الابن ووالدته المجيدة، واعدًا إياهما بكل نشاط نفسه أنه يخدمهما خدمة دائمة، وفي انتهاء صلاته هذه سمع صوتًا عظيمًا، وتزلزل المكان الذي كان فيه وانكسر كل زجاج النوافذ حتى إن حائط المكان انشق أيضًا، وأظهر الله تعالى بذلك سروره بتقدمة عبده نفسه لخدمته عز وجل) اهـ. وكأني بإخواني المسلمين وقد ضحكوا من هذه الأعجوبة ونظموها في سِمْط الخوارق التي سماها المتكلمون خذلانًا، وتلوا قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقًّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} (مريم:٩٠-٩٢) ولكني أذكر لهم مالا يمكن أن يعدوه خذلانا. قال القَسُّ أفرام: (وقد شاء ابن الرجل الذي كان أغناطيوس مقيمًا بمنزله، أن يعرف كيف يقضي الليل فرآه مرة ساجدًا متأملا بوجه ملتهب مبتلّ بالدموع ومرة أخرى أبصره مرتفعًا من على وجه الأرض ولامعًا بالنور كالشمس متنهدًا وقائلاً مرارًا كثيرة: (يا إلهي يا حبيب قلبي وسرور نفسي، ليت الجميع يعرفونك حتى لا يجسر أحد منهم أن يغيظك، فيا ما أعظم جودك ورحمتك لأنك تحتمل خاطئًا مثلي) وكأني بهم يقولون: إن هذه رواية آحاد أو وِلْدان لا يعتد بها في هذا المقام وإن صحت: وإنني أرضى بهذا القول بشرط أن لا يقبل قائله مثل هذه الروايات الآحادية عن صالحي قومه لأن ما جاء على خلاف سنن الكون لا يُقْبل إلا بالدليل القاطع الذي لا يقبل النقض كمعجزات الأنبياء عليهم السلام. ومن قبيل هذه الأعجوبة قول القَسّ المذكورِ عنه أنه حينما كان يومًا يتلو صلوات الكنيسة لإكرام مريم العذراء الجليلة رأى بغتة صورة ربه الثالوث الأقدس وهذه الرؤيا نوّرته وعزته جدا حتى إنه لم يقدر في ذلك النهار كله أن يكف عن ذرف الدموع، ولم يتكلم إلا عن الثالوث الأقدس بنوع جلي سام بحيث كان يذهل بخطابه عقول أجلّ علماء اللاهوت مع أنه كان لا يعرف حينئذ إلا القراءة والكتابة، ومرة أخرى رأى في القداس حقيقة وجود جسد المسيح ودمه في القربان المقدس) اهـ. ولهم أن يقولوا في الكلام اللاهوتي الذي قاله من غير تعلم إنه ليس من الخوارق؛ لأن الأذكياء إذا توجهوا إلى شيء واعتنوا به، فلا يبعد أن يقولوا فيه قولاً غير منتظر ممن في درجتهم العلمية، وليس في درجتهم العقلية، ثم إننا لا نعرف ما هو ذلك القول لنحكم أنه محل للإعجاب في الجملة فكيف نحكم بأنه علم لَدُنيّ إلهي جاء بغير تعلم، وربما كان في الواقع خطأ، نعم إن أهل العلم والعقل من المسلمين يقولون هذا، ولكن فينا كثيرًا من المدعين للولاية ليس لهم كرامة إلا الأقوال التي يسمونها علومًا لدنية، وما هي إلا من اللغو والجهالة، ومنهم دجال الزقازيق الذي يدعي أنه يفسر القرآن بالإلهام، ويعتقد صدقه الجمّ الغفير فيقصدونه من كل جانب بالهدايا والنذور ومثله كثير. وأما رؤية جسد المسيح ودمه في القربان، فهي دعوى بغير برهان، ومثل ذلك دعوى ظهور الشيطان له بزي ملك النور وحثه على الرياضات والعبادة ليصرفه عن العلم عندما قلل العبادة واشتغل بالعلم (قالوا) : ولكنه عرفه ولم ينخدع. ولكن عندنا مثل هذه أيضاً فقد ذكروا أن الشيطان ظهر للشيخ عبد القادر الجيلي بصورة نورانية وقال له إنه رفع عنه التكاليف فعرفه عبد القادر وقال: اخسأ يا ملعون. فعند ذلك تحول إلى ظلمة، وقال له نجوت مني بعلمك يا عبد القادر وإنني قد فتنت بهذه الحيلة كذا من العباد وذكر عددًا كثيرًا. ومن عجائب أغناطيوس وخوارقه التي دونوها، أنه عندما رجع من القدس إلى أوربا طلب من ربان سفينة (الربان رئيس الملاحين) أن يحمله إلى إيطاليا حبًّا في الله؛ فأبى وحمله ربان آخر فانكسرت سفينة الذي أبى؛ ونجت سفينة الذي حمله، ومثل هذه أنه رأى مرة جماعة يلعبون (فطلب منهم الصدقة؛ فنظر إليه واحد من الجمهور وهتف قائلاً نحو القديس: ليحرقني الله حيًّا إن كان هذا الرجل لا يستحق أن يحرق حيّا، وفي ذلك النهار عينه حضر فرجة دنيوية مبهجة، وكان واقفًا على برميل ممتلئ بارودًا؛ وإذا بشرارة ملتهبة وقعت على ذلك البرميل فاشتعل البارود حالاً وأحرق الرجل حيًّا) . وعجيبة أخرى من هذا القَبِيل وهي أنه لما جمع (ينسي) بأمره الرهبان في مكان ليقرأ عليهم قوانينه التي وضعها لهم بعد الخروج من المائدة، واجتمعوا انهدم الرواق الذي كانوا يتذاكرون فيه بعد الأكل ولولا هذا لانهدم عليهم الرواق، وههنا يقول القارئ: إن هذه الوقائع هي التي نقلها الكثيرون وعَدّوها عجيبة متواترة وما هي بعجيبة وإنما هي وقائع حدثت بأسبابها وكان حدوثها بعد ما ذكر من باب المصادفة والاتفاق لا أن سر القديس كان سببًا في حدوثها، ومثل ذلك يتفق لكل أحد ولكن الناس لا يلتفتون إلى هذه المصادفات إلا إذا كان هناك من يعتقدون صلاحه، وهذا القول صحيح وهو ما يصدق فيما ينقله قومنا من مثل ذلك عن معتقديهم من الأحياء والأموات. ألم يقل كثير من الناس: إن الشيخ محمد عبده اتُّهِمَ في هذه المسألة العُرابية وحبس وهو بريء، لأن الشيخ عليشًا غاضبًا عنه؛ فكان ذلك كرامة للشيخ عليش، ولم يلتفتوا أن الشيخ عليشًا قبض عليه وحبس أيضًا، ولم يقولوا إن ذلك كرامة للشيخ محمد عبده؛ لأن الشيخ عليشاً سمع فيه وشاية وحاول إيذاءه. وذلك أن الشيخ محمد عبده كان متهمًا بالعقل والحكمة لأنه أول من قرأ في الأزهر كتاب العقائد النسفية وبعض كتب المنطق والحكمة، التي لم تكن تقرأ لذلك العهد ثم صارت تقرأ بعد ذلك بلا نكير، ألم يقل بعض الناس إن ابن الشيخ الظواهري أخذ شهادة التدريس لأن والده يخدم ضريح السيد البدوي فتلك كرامة للسيد؟ وقد أخذ مثل هذه الشهادة كثيرون ولم يعد ذلك كرامة لأحد، بل قال بعض الحمقى في هذه الأيام إن الشيخ عليًّا البيلاوي صار شيخًا للأزهر بسر سيدنا الحسين (عليه الرضى والسلام) لأنه كان خادمًا للمسجد الذي فيه الضريح المنسوب له! وقد خدم هذا المسجد غيره ولم يكافئهم سيدنا الحسين بهذه المكافأة ونال مشيخة الأزهر كثيرون لم يخدموا المسجد الحسيني فلمْ يعدَّ ذلك من الكرامات وخوارق العادات! ! ! ذكرنا هذه الشواهد المتعلقة برجال معروفين من أهل الطبقة العليا في المسلمين، ويعرف كل واحد من الناس مالا يحصى من أمثال هذه الشواهد التي يلهج بها الناس في كل مكان وهي عندهم أقوى من كل برهان، بل أقوى من الحس والعيان والإحساس والوجدان، بل هي ركن الإسلام والإيمان، ويخشى بعض الخواص من تشكيكهم فيها أن يمرقوا من الدين وينفلتوا من جماعة المسلمين، وقد نقلنا هذا الرأي فيما سبق عن بعض كبار الشيوخ، وهو أنه يجب التأني في بيان الحق في مسألة الاعتقاد بالأولياء، والتِمَاس المنافع، ودفع المضار من أصحاب القبور، وجَعْل ذلك تدريجيًّا؛ لئلا نفسد اعتقاد العامة الذين لا يعرفون من دلائل الدين غير ذلك، وقد تقدم في مقالات البحث في إثبات الكرامة، وسنذكر في الجزء الآتي الحق الصريح الذي ينبغي تلقينه للناس في المسألة، وبيان منافع هذا الاعتقاد ومضارّه، ووجوه تأويل ما ينقل عن جميع الأمم من الخوارق، فلا يعجلَنَّ القارئ المغرم بهذه المسائل بالحكم حتى يقرأ المقالة الآتية مفصلة تفصيلاً. ((يتبع بمقال تالٍ))