رد شبهة مسيحي فاضل لقد كان لما كتبه مولانا مفتي الديار المصرية في هذه المسألة , ونشرناه في الجزء ٢٧ أجمل وقع. وأجمل نفع. فتقشعت به سحب الشبهات. وانحلت عقد المشكلات. وسكتت حركة الشكوك التي كان يثور عجاجها. وتتلاطم أمواجها. وينهمر ثجاجها. وتتدفق أثباجها. وشفيت أمراض أعيا الأطباء علاجها. وقطعت من شخوص المطاعن حلاقيمها وأوداجها. وهكذا يقذف بالحق على الباطل. فيدمغه فإذا هو زاهق وزائل. إلا أن كلام الأستاذ في علوّ أسلوبه وبديع تأليفه وتركيبه. ورسوخ عرقه في الفصاحة. وبُعْد غوره في البلاغة. لم تتجلَّ جميع مقاصده لجميع الأذهان. ولم تتجل عرائس حسنه لكل من له عينان. ومن الناس من أعشاه نوره. وراعت فؤاده حوره. فاشتبه عليه سلطان البرهان. بسحر البيان. فتوهم أنه مسحور الوجدان. لا مقتنع العقل والجنان. وتخيل أنه مختلب بعبارة القلم واللسان. لا مجتذب ببراعة الحجة إلى قرارة الإقرار والإذعان. أعني بهذا وما قبله من استزادنا في المسألة بيانًا. ليزداد الذين آمنوا إيمانًا. ومن قال من فضلاء المسيحيين: إن الشبهة لم تنكشف عن غير المسلمين , وإنما غشيها من فصاحة الأستاذ وبلاغته , وبراعته في عبارته نور علا ظلمتها , وشغل النظر عن تشويه صورتها. وأن من يضع على عينيه منظارًا ملوَّن الزجاج ينكسر به شعاع البلاغة الوهاج يمكنه أن يبصر الطريقة ويدرك الحقيقة. قال هذا وأنشأ ينتقد كلمات للأستاذ رأى أنها إقناعية وليست حقيقة واقعية. منها قول الأستاذ: " ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في رُوَائِه (بالضم وضبط في الأصل بالكسر سهوًا) ونضرة جدته " إلخ , وذهب هذا المعترض في نقض هذه المسألة إلى أن من البنات من تكون دميمة في طور البكارة حتى إذا ما تزوجت اكتست حلل الحسن والبهاء. والجمال والرواء. فيحتمل أن السيدة زينب كانت من هذا القبيل. وإن كان في الوجود أقل القليل. ومنها قول الأستاذ: " لم يُعرف في مألوف البشر أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب خصوصًا إذا كان عشيره من صغره " إلخ قال المعترض: إنه يحفظ وقائع متعددة تعلق فيها الأقرباء بعضهم ببعض حتى كان من ذلك ما لا خير فيه. وكذلك شأن من أشرب قلبه إنكار شيء , أو إثباته يتعلق بالشذوذ , ويتشبث بالاستثناء , ويترك القواعد العامة لا يحفل بها. وعهدي بأذكياء المسيحيين أنهم يرون أقوى اعتراض لهم على المسلمين في احتجاب النساء أن الحجاب والمنع من أسباب ازدياد الرغبة. وقوة الداعية إلى التطلع والرؤية. وأن في الاختلاط أنسًا ينتهي بالملل والزهادة. كما هو المطرد في العادة , لا سيما بالنسبة للأقربين. ورأيت من المسلمين من يستدل على صحة هذا القول بكون النفوس إلى النساء المسلمات المتحجبات أميل منها إلى النساء الأوروبيات. وأكثر تشوقًا , وأشدُّ تطلعًا. مع أن الأوربيات في الجملة أجمل. وزينتهن أكمل. وما ذلك إلا أنهن معروضات على الأنظار. مألوفات للأبصار. وكل معروض مهان. والمألوف لا يعظم به الافتتان. منعت شيئاً فأكثرت الولوع به ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا ولنلو عنان النظر عن هذا وذاك , وننظر إلى تلك الواقعة من غير ملاحظة أن من مقتضى الطباع السليمة ومن شأن النفوس الكبيرة - التي لا ينكر مناظرنا المسيحي الفاضل أن نفس محمد (صلى الله عليه وسلم) منها وإن أنكر نبوته - أن لا يقع منها الشذوذ بشدة العشق للقريب المألوف بحيث ينتهي إلى أن صاحب النفس الكبيرة المتصدي لتأسيس دين وشريعة يزاحم عبدًا من عبيده على امرأة زوَّجه بها لعشقه لها بعد زهده فيها , وأن يدخل ذلك في الشريعة التي يؤسسها. ثم يظهر للملأ أن الله تعالى أنَّبه على ذلك بمثل قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: ٣٧) . ولو كانت الواقعة كما يتوهم القوم , وكان محمد هو واضع القرآن ومؤلفه لما جعل نفسه ملومًا , وأظهر أنه إنما أبطل التبني في دينه لحظ نفسه وإرضاء شهوته , وجعل هذه الفضيحة مسجلة عليه في الكتاب الذي أمر بكتابته دون سائر كلامه , وبشر بأنه ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها , وأنه يبقى مقروءًا متبعًا ما دام الناس في هذا العالم. قال مناظرنا: إن الأستاذ كتب للمسلمين , وكلامه مبني على التسليم بنبوة محمد , وهو لا ينهض حجة على النصارى الذين ينظرون في المسألة نظرًا تاريخيًّا وقد ألمعنا إلى هذا من قبل , ولذلك بنينا الكلام على أن محمدًا رجل مصلح باسم النبوّة تنزلاً جدليًّا , وإن كان الذين يعتقد فيهم صاحبنا وقومه النبوّة ليس لهم من الأثر الإصلاحي الديني عشر معشاره. أما كونه مصلحًا فلا ينكره منهم عاقل , وقد قال لي الدكتور فانديك الشهير: إن مبدأ الاصلاح الذي وضعه محمد هو أعظم المبادىء وأقواها , وهو الوحدة في الاعتقاد والاجتماع ... ورأيت بعض من كتب في تاريخ العرب من الإفرنج جعل تاريخهم قسمين قسمًا سماه (ما قبل الإصلاح المحمدي) , وقسمًا سماه (ما بعد الإصلاح المحمدي) وكل هذا من البديهيات فلنرجع إلى أصل المسألة. المخالف موافق لنا في شيء واحد , وهو أن الآيات الواردة في المسألة متضمنة لإبطال التبني الذي كانت العرب تدين به , ولكنه يدعي أن إبطال هذه البدعة لم يكن مقصودًا أولاً وبالذات , وإنما كان حيلة للتوسل إلى تزوج محمد بزينب بعد أن تزوجها عتيقه ومتبناه زيد بن حارثة ورآها عنده قد زادت حسنًا عما كان يعهد. ولو كان الغرض إبطال التبني وما يترتب عليه من الأحكام الجائرة والمفاسد الضائرة؛ لعهد بتنفيذ ذلك إلى غيره من أتباعه. ونجيب عن هذا من وجوه تضمنها كلام الأستاذ أو استلزمها. (الأول) من المشهود المعهود في البشر أن العادات والتقاليد متى صارت عامة يصعب على النفوس أن تتركها لمجرد أمر مصلح لا سيما في أول زمن الدعوة إلى الإصلاح , ولا يقدم على الابتداء بخرق العادة وتمزيق حجب التقليد إلا أصحاب العزائم الكبيرة , وهم المصلحون الذين يستهدفون لسهام الانتقاد العام ويتحملون في سبيل الإصلاح كل إهانة وسخرية من الدهماء وجماهير الناس؛ ليكونوا قدوة لغيرهم في ذلك. وقد اتفق علماء التربية على أن ملاكها وقوامها الاقتداء والتأسي لا القول والإرشاد اللفظي. وكذلك كان شأن النبي (صلى الله عليه وسلم) في كل ما أبطله من اعتقاداتهم وتقاليدهم وعاداتهم يبدأ بنفسه ثم بأقرب الناس إليه. وقد مثلنا للأول في هامش مقالة الأستاذ بمسألة الحلق في الحديبية وكيف خالف النبيَّ جميع الصحابة حتى حلق بالفعل فاقتدوا به , ومثَّل الأستاذ بإبطال الربا. وليفرض المخالف أنه دخل في دين جديد مقتنعًا به ومعتقدًا صحته , وأن القائم بالدعوة إلى هذا الدين أمره بأن يتزوج بأخته لأن دينه يحكم بذلك أليس يصعب عليه الامتثال أشد الصعوبة بحيث يرجح مخالفته. هذا وإننا نرى أهل كل دين قد خالفوا بعض أحكام دينهم اتباعًا للعادات التي صارت عامة , ويصعب عليهم الرجوع إلى الأصل. وإذا كان الأمر بهذه الدرجة من الصعوبة لا يقدم العاقل على تكليف الناس به بمجرد القول خوفًا من اضطرارهم إلى مخالفته التي تفسد العمل وتؤدي إلى خلاف المقصود. (الثاني) لو أنه (صلى الله عليه وسلم) عمد إلى تنفيذ هذا الحكم بغيره لاحتاج إلى الأمر بعدة أمور بعضها أشد من بعض , ومنها ما هو خلاف تعاليمه الدينية. (أحدهما) أن يأمر بعض من تُبُنِّيَ بأن يتزوج , وربما كان يقل في المسلمين عدد الأدعياء الذين عندهم الاستطاعة الشرعية للتزوج مع أن الذين تبنوهم مسلمون وفي سن قابل للزواج , وربما يقع الأمر لغير المستطيع من حيث لا يعلم لأنه لم يكن عارفًا بجميع شئون الناس الخصوصية والمنزلية. على أن من شأن من يحب أن يطاع في كل أمر أنه لا يتعرض للأمور الخصوصية المباحة إلا بالنسبة لأقرب الناس إليه بل هذا شأن جميع العقلاء , وهذا الوجه أهون مما بعده. (ثانيها) أن يأمره بعد الزواج بالطلاق , والأمر بالطلاق منكر , وإنما أباحه الشرع للضرورة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في التنفير منه: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ثم إن هذا المتزوج لا يبعد أن يحصل بينه وبين من يتزوج بها من الألفة والمحبة ما يصعب معه الفراق. ويتعاصى به الخضوع لأمر الطلاق. (ثالثها) أن يأمر من كان تبنى هذا المطلق بأن يتزوج بالمطلقة. ويتوقع في هذا الأمر أمور منها أن هذا المتبني قد تنفر نفسه منها لذاتها بأن يستبشع صورتها , أو يكون عارفًا من طباعها ما لا يمكنه معه معاشرتها , وقد يكون متزوجًا بغيرها , ولا يستطيع الجمع بين امرأتين ثم إن هنا ملاحظة أهم من كل ما ذكر وهو أن تعدد الزوجات مشروط في القرآن بعدم الخوف من ترك العدل بين الزوجات , ولا شك أن الذي يريد التزوج بامرأة متبناه لمجرد الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم يخاف من عدم العدل بين الزوجة الجديدة التي يأخذها كارهًا , وبين الأولى التي كان آلفًا لها ومستأنسًا بمعاشرتها , وعند ذلك لا يصح النكاح. (رابعها) أنه قد يرضى هو ولا ترضى هي لأنها فتية وهو شيخ مثلاً , ولا يخفى شيء من هذه الأمور على ذلك الرجل العظيم الذي جاء بتعاليم وأعمال قلبت هيئة الأرض , وغيرت نظام الأمم سواء كان نبيًّا (كما هو الواقع) ، أو لم يكن (كما هو رأي المخالف) . (الوجه الثالث) أن هذا المصلح الحكيم اختار صورة لإبطال تلك العادة الدينية الجاهلية خالية من كل المحظورات المشروحة في الوجه الثاني , وذلك بأن يزوج متبناه بامرأة يقضي العقل بأنه يختار هو وإياها الفراق عن رضى لعدم الكفاءة , ثم يتزوجها هو ولا شك أنها ترضاه لما هو معلوم من القرابة والجمال والكمال وكذلك كان. (الوجه الرابع) أن الذي يدل مع ما تقدم على أن هذا الأمر مقصود للنبي (صلى الله عليه وسلم) منذ خطب زينب لزيد (رضي الله عنهما) إلحاحه فيه وعنايته الكبرى به , وقد خطب هو نساء , ولم يتزوج بهن وتزوج بعدة نساء , ولم يذكر في القرآن شيء من ذلك لأن القرآن كما قلنا لم يذكر فيه إلا أهم المهمات في الدين حتى إنه لم يذكر فيه هيئة الصلاة ولا عدد ركعاتها ولا تحديد أوقاتها , فعدم مبالاته بإبائها وتمنعها وإباء أخيها لا يمكن أن يكون لمصلحتها ولا لمصلحة زيد لأن العقل قاض بأنه لا ينعم له معها بال مع هذا النفور والإباء وما هو معلوم من أنفة أشراف العرب كبني هاشم وبني المطلب وهي من صميمهم , وكانت لا ترى لها كفؤًا إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يبق لهذا إلالحاح والتحتيم عليها بالرضى به إلا قصد إبطال تلك البدعة الذميمة بأقرب الوجوه وأبعدها عن الضرر والضّرار. (الوجه الخامس) أن السورة التي ذكرت فيها القصة جاء في فاتحتها {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (الأحزاب: ٤-٥) الآية. وجاء فيها بعد هذا وقبل ذكر القصة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١) فقد أبطل التبني بالقول , ولم يعمل بمقتضاه أحد قبله (صلى الله عليه وسلم) فهذا التمهيد. مع ذلك التشديد. برهان كافٍ على ذلك القصد الحميد. ومناف لزعم الزاعمين أن قصد النبي صلى الله عليه وسلم التزوج بزينب كان بعدما رآها في بيت زيد رضي الله عنه. وفي هذا كفاية لغير المعاند والله أعلم.