ليس الإلحاد بجديد في مصر، وإنما الجديد هو الدعوة إليه وتأليف الجمعيات لبثه وهدم الإسلام، وتأليف الكتب في الطعن على أعلام حكمائه المتقدمين الذين يُعلي الإفرنج قدرهم كالغزالي وابن خلدون، والتنويه بمن اتُّهموا بالكفر والإلحاد كالمعري والإشادة بأدب من اشتهر بالفسق والخلاعة كأبي نواس وقد كنا ذكرنا منذ بضع عشرة سنة خبر تأليف أول جمعية إلحادية من أعضائها معمم متخرج في الأزهر ثم إنهم خلعوا العِذَار وجهروا بدعايتهم في دروس مدرسة الجامعة المصرية ومحاضراتها وفي جريدة السياسة ناشرة هذه الدعاية ومؤيدة جمعيتها وأفرادها حتى أنها بعد مناصرتها الشيخ علي عبد الرازق المجاهر باللادينية اخترعت من عهد قريب معنى جديدًا زعمت أنه هو الذي يحل محل الدين في التكوين المعنوي للأمم والشعوب وضم الملايين منهم إلى جامعة واحدة - وهو ما يعبرون عنه بالثقافة القومية. وإذا كان لمصر مكانة ممتازة في العالم الإسلامي الذي يضم بين رجويه (طرفيه) أكثر من ثلثمائة مليون مسلم، وإذ كان سبب هذه المكانة الراسخة من زهاء ألف عام الجامع الأزهر الذي يتلقى العلوم الدينية والفنون العربية فيه ألوف كثيرة من الأقطار الإسلامية العديدة، ثم ما عزز ذلك في هذا العصر عصر المطابع من أصدار مصر للألوف من المطبوعات العربية من دينية إسلامية وأدبية وفنية إلى مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها، عربيها وعجميها. وإذ كان هؤلاء الملاحدة من المصريين يدعون إلى الوطنية بالمعنى الاجتماعي العصري وهو تمايز الأقوام والشعوب وتكونها بأوطان محدودة تضمها دون ما هو أوسع من ذلك من الجوامع والمقومات كالدين واللغة، حتى إنهم ليعدون المسلم فيها وهي إسلامية ويعدون العربي فيها وهي عربية بل لها المكانة التي أشرنا إليها في العالمين الإسلامي والعربي - يعدونهما من الأجانب الذين لا تجمعهم بالمصري وشيجة، لا يمتنون إليه بوسيلة، فالشريف الحجازي أو السوري والوثني الصيني أو المنشوري عندهم سواء، ولكن يمتاز عليهما لابس البرنيطة الإفرنجي. وإذ فطنوا في هذه الأيام لما في وطنيتهم ولا دينيتهم من الخسارة الأدبية والسياسية على مصر أنشأت جريدتهم (السياسة) تعدهم وتمنيهم بأن ثقافتها الإلحادية الجديدة طفقت تتبوأ مباءة تلك الزعامة الدينية من أنفس الشعوب الشرقية عامة والسورية خاصة إذ شعرت هذه الشعوب بأن الدين صار الأدنى والأضعف من جوامع الأقوام، وروابط الأمم وأن مدرسة الجامعة المصرية (الإلحادية) وهي المظهر الأعلى للثقافة الجديدة قد خلفت الأزهر المتوفى غير مأسوف عليه وورثت مكانته المعنوية - كما أن جرائد مصر اللادينية ومطبوعاتها الحديثة قد خلفت مطبوعات المطبعة الأميرية وسائر المطابع العربية التي تصدر الكتب الدينية (ولم تعرض الجريدة لمسألة الكتب الحديثة والكتب القديمة) . لقد صدقت جريدة السياسة - وقلما كانت صادقة - فيما صورته من التنازع بين الجامعة الأزهرية الدينية والجامعة المصرية الإلحادية، فهذا أمر يعرفه البصيرون وإن غفل عنه الأكثرون، وأول من صرح به في مجلسنا من غير المسلمين شاب إسرائيلي ذكي سمعنا نتكلم في مسألة كتاب الشيخ علي عبد الرازق عقب ظهوره وكونه ينصر فيه دعاية الإلحاد الجديدة. فقال ليست المسألة مسألة كتاب ألفه شيخ مسلم في محاربة الإسلام فلو كان هذا كل ما تشكون منه لهان خطبه، ولكنما المسألة كل المسألة هي التنازع بين الجامعة المصرية وجامعة الأزهر فإذا غلبت الثانية بقيت هذه البلاد إسلامية، وإذا انتصرت الأولى لحقت مصر بالبلاد التركية وانقضى عصر الإسلام فيها. قلت: إن الإلحاد ليس بجديد في مصر وإنما الجديد هو الدعوة إليه.. . وأقول أيضاً إن مدرسة الجامعة المصرية ليست هي المدرسة التي بذرت بذور الكفر والإباحة في هذا القطر بل بُذرت هذه البذور في المدارس العصرية منذ وجدت في مصر، وكذا الدولة العثمانية. وإنما الجامعة المصرية هي دوحتها، التي ظهرت فيها ثمرتها، إذ برز دكاترتها عمي البصائر والأبصار -إحداهما أو كلتيهما- يبارزون الدين والفضيلة الحرب جهرًا بدون تقية ولا احتراس. من قرأ اللائحتين اللتين كتبهما الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إصلاح التربية والتعليم في المدارس العثمانية والمصرية يجده قد أثبت فيهما أن طلابها يخرجون منها وليس لهم دين يهتدون به، ولا ملة يعتصمون بعروتها وقد بين هذا في غيرهما من مقالاته ورسائله الإصلاحية، وحكم حكمًا فاصلاً بأن هذا التعليم الناقص الذي لا يقترن بتربية دينية صحيحة خطر على الأمة وعلى الدولة، ومضيعة لما كانت تعتز به الدولة من منصب الخلافة , وكذلك كان. هذا والأستاذ الإمام وأستاذه حكيم الإسلام هما أول من وضع في مصر أساس النهضة الوطنية بالحزب الوطني الذي أسساه في عهد إسماعيل باشا ورفعا قواعده بالعمل، ولكن وطنيتهما الحكيمة الصادقة غير وطنية دكاترة الجامعة المصرية ومحرري جريدة السياسة، تلك وطنية تتفق هي وهداية الدين، وهذه وطنية لا يبقى معها وطن، ولا دين، ولا فضيلة. لما كان الأستاذ الإمام منفيًّا في بيروت رأى في بعض الجرائد المصرية طعنًا في بطرس باشا غالي زعيم القبط الأكبر، وفي القبط أنفسهم، كان سببه استقالة شفيق بك منصور النابغة المسلم المشهور خَدَمة القضاء المصري ذاهبة إلى وكيل وزارة الحقانية هو الذي ألجأه إلى الاستقالة بتعصبه وتحامله عليه فرد الأستاذ على هذه الجرائد ردًّا حكيمًا محكمًا دافع فيه عن بطرس باشا وأنكر أشد الإنكار إدخال اختلاف الدين في هذه المسائل، وإدخال الشقاق بين أبناء الوطن فيما لا علاقة للدين به. وقد ظفرنا بهذه المقالة في أثناء اشتغالنا بالطبعة الثانية لجزء منشآت الأستاذ التي تمت في هذا الشهر فليراجعها من شاء أن يرى كيف تكون الوطنية الصحيحة، وكيف يهدي إليها زعماؤها الصادقون. أما بعد، فإن ما توقعناه في فاتحة الجزء الأول من هذا المجلد (السابع والعشرين) للمنار من خطر الدعاية الإلحادية على نهضة الإصلاح الإسلامي، ودولتها الجديدة مبني على الخوف من تمكن اللادينيين في مصر من جعل الأمة المصرية والدولة المصرية عدوًّا للدولة الحجازية النجدية بدسائس الأجانب وأعوان الأجانب من غير المسلمين، بل بغفلة رجال الدين وجهلهم بحال العصر وضعفهم أمام رجال الدنيا - وبقابلية العوامّ لتأثير الملاحدة بإتيانهم من ناحية البدع والخرافات التي تصدت جريدة المقطم لتأييدها والدفاع عنها، ووصفها بالتقديس (!!) ولماذا لم ينصر أصحاب المقطم تقاليد نصرانيتهم المقدسة عند آبائهم وأجدادهم، بل خذلوها باسم الإصلاح؟ أثارت جريدة السياسة سحابة خلاف بين حكومتي الحجاز ومصر في مسألة المحمل وركب المحمل وحرسه وقالت ما معناه: إن ملك الحجاز ابن سعود يمنع تقاليد المحمل الموروثة، فلا يسمح لعسكر مسلح مع موسيقى عسكرية تعزف له بدخول مكة وسائر أماكن النسك ... إلخ، فكثر الخوض في ذلك، وتحدث الناس بتوقع منع الحكومة المصرية للحج أو للمحمل ولمَّا يرسل مع ركبه عادة من الأموال والأرزاق التي هي من حقوق أهل الحرمين في مصر، وتطوعت جريدة المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة في مصر، وتطوعت جريدة المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة على منع الحج اقتداء بحكومة إيران التي كان قنصلها في سورية هو الذي وسوس في أذن الحكومة عقب عودته من مكة في هذا الشهر بأن ملك الحجاز يريد كذا ويأبى كذا، وهو الذي لقن جريدة المقطم ما أذاعته وكبرته، وظنت أنه بتكبيرها وإرجافها سيحمل الحكومة على اقتراف جريمة الموسم الماضي كما بسطنا الكلام فيه في مقال نشر في جريدة كوكب الشرق الوطنية. فتنة دبَّر مكيدتها شيعي متفرنج يغلب على الظن أنه من اللادينيين، إن لم يكن من البهائيين، وأذاعتها جريدة دعاية الإلحاد وأرجفت بها جريدة المقطم بما يوهم قارئها أن الشعوب الإسلامية وحكوماتها قد أجمعت على المنع والامتناع من أداء فريضة الحج، فلا ينقص إجماعها إلا ما يتوقع يومًابعد يوم من اتفاق مصر معها فتنة هذا شأنها، وتلك صفة مثيريها كان المعقول أن تقيم قيامة علماء الأزهر وأذكياء طلابه للدفاع عن ركن الإسلام ومجاهده قطاع طريقه، ولكنها - والشكوى إلى الله- لم تحرك منهم ساكنًا، ولم تنطق ساكتًا، فإذا كانوا يصدقون على أنفسهم ما قلناه من رأي الناس فيهم يوم دعوا إلى مؤتمر الخلافة من أنهم لا يتحركون إلا إذا حركوا ولا ينطقون إلا إذا أنطقوا، فما بال خريجي مدرسة القضاء الشرعي، وهم أفطن لهذه الدسائس وأجدر بنضال رماتها، وما بال قدماء أساتذة دار العلوم الذين غلبتهم دعاية الجامعة المصرية على طلبتها فألقوا بعمائمهم وجببهم، احتقارًا لها وبراءة من جامعة الأزهر التي هي منبت أسلتهم، والأساس لبناء مدرستهم؟ إنني كلمت بعض كبار علماء الأزهر الأذكياء في هذه المسألة كعادتي في أمثالها، فجادلني في بعض جزئياتها جدالهم المعهود في جزئيات الكتب التي يتدارسونها - واقفًا موقف المؤيد للحكومة المصرية فيما قيل من خلافها مع ملك الحجاز، لم يستطع أن يدافع عن مسألة موسيقى حرس المحمل لما في كتب فقه المذاهب المشهورة من تحريم جميع المعازف إلا ما استثني من دف العرس وطبل الحرب ونفيره - والاستثناء معيار العموم - ولم يتناول هذه المعازف الجديدة التي أخترعت بعد عصر الاجتهاد عندهم، وفيها أنواع من المزامير وهي محرمة بنص المذهب أو المذاهب فهو لا يجادل فيها، ولو تكلم معي فيها بالدليل لألفاني معتقدًا أن الموسيقى العسكرية كلها في معنى طبل الحرب الذي استثني لأجله من المعازف المحرمة وهو أنها تثير الشجاعة والإقدام، دون طرب الشهوة الذي ربما يبعث على ارتكاب الآثام. اقتصر الأستاذ على الاحتجاج للحكومة فيما تصر عليه من دخول حرس المحمل مكة وغيرها من أماكن النسك بأسلحتها، ولم يجد له علة تصح شرعًا إلا حماية الحجاج المصريين من الاعتداء على دمائهم وأموالهم لأن ما تدعيه حكومة الحجاز من تأمين البلاد لم يصح عند الحكومة المصرية، فلابد لها أن تأخذ بالاحتياط ولو في هذه السنة. قلت: لكن الحكومة المصرية لا تدعي هذه الدعوى وحرسها لا يمشي مع الحجاج بين جدة ومكة، بل تألفت في هذا العام شركة مصرية لنقل الحجاج بالسيارات (الأوتومبيلات) فهل يمكن أن يسير الجيش مع هذه السيارات لحراستها؟ بمثل هذا الجدل في الجزئيات يصرف الأزهريون عن النظر في الموضوع الكلي والإحاطة بأطرافه للتمكن من صحة الحكم فيه، وهذه الخطة يتلاقى في مدرسة القضاء ضررها بتكليف طلابها درس بعض المسائل (من الأصول كالاجتهاد والتقليد، أو الفروع كالطلاق والوقف) والنظر في أدلتها ووجوه الترجيح بينها، ولو عرضت مسألة الحج التي نحن بصدد الكلام الاستطرادي فيها على من اعتاد هذه الخطة لكان أول ما توجه إليه نفسه وجوب السعي لإحباط كل عمل يقصد به منع أداء فريضة الدين وإقامة ركن الإسلام. غرضنا من هذا الاستطراد ضرب المثل لضعف الجامعة الأزهرية فيما يجب عليها من صد هجمات ملاحدة الجامعة المصرية وكتاب جريدة السياسة على عقائد الإسلام وآدابه وتشريعه، وشكل حكومته، فإنهم أضر من دعاة النصرانية الذين يرد الأكثرون كلامهم بتهمة العداوة الدينية - ويأخذون كلام هؤلاء بالقبول لانتفاء التهمة - فهم ضعفاء العزيمة ضعفاء الحجة، إنما مبلغ أكثرهم من العلم أن ينقلوا من بعض كتب الفقه المتداولة نصوصًا ينشرونها، ويوجبون على الناس اتباعها، عقلوها أم لم يعقلوها، بناءً على أنها هي المعتمدة في المذهب أو المذاهب أو الإجماع: هذا حلال وهذا حرام، هذا كفر وهذا إيمان، فمن خالف فسق أو ارتد عن الإسلام، وهم يرون الكثير من الناس يأبونها، ومنهم من يرد عليها ويهزأ بها، ثم لا ينقص لأحد من هؤلاء في قومه قدر، ولا يعامل معاملة المرتدين في حياة ولا موت وآخر ما رأيناه في ذلك فتوى المفتي الأكبر وشيخ الجامع الأزهر في حكم لبس البرنيطة. لهذا ترى هؤلاء الملاحدة موقنين بأنهم المنصورون، وأن رجال الجامعة الأزهرية والمعاهد الدينية هم المهزومون المخذولون، وأنهم سيفعلون في هذا القطر ما فعله الكماليون في بلاد الترك، فاتحاد الأسباب يؤذن باتحاد المسببات والنتائج لا تتخلف عن المنتج من المقدمات. هنا وجه الخطر على مصر من تعاليم الإلحاد التي يقصدها الأجانب الذين غرسوا فسيلها، ومهدوا الأرض لنموها، وجنوا بواكير ثمراتها، بل أصبحوا التصرف الأعلى فيها، وإنما يفيضون على تلاميذهم وربائبهم أجور خدمتهم منها، ومن ورائهم جمعيات سرية، ودسائس خفية، ومرغبات إباحية، ومطامع بلشفية، فماذا بقي للإسلام تجاه ذلك كله؟ غير أنه لا تزال طائفة من شبان الأزهر العلماء موضع الرجاء لما لهم من الدراية بعلوم العصر والقدرة على التحرير، والولوع بالإصلاح ما يستطيعون به أن يعيدوا مجده ويحفظوه مكانته. يقال بقي أن سواد الشعب الأعظم في هذا القطر على الإسلام - وهو أعظم قوة - ونقول إن الشعب التركي كذلك، ويقال إن الدستور المصري مصرح بأن دين الدولة الإسلام، ونقول إن دستور الجمهورية التركية التي تهدم الإسلام فيه مثل هذا النص، فلابد للانتفاع من قوة أكثر الشعب، ومن قوة الدستور من نظام يديره زعماء يرجعون بالإسلام إلى أصله الذي كان عليه في الصدر الأول قبل حدوث الفتن وابتداع البدع، وبيان ما هو دين ثابت بالنص القطعي رواية ودلالة أو بإجماع السلف، وما دون ذلك من الأحكام الظنية التي هي محل الاجتهاد - ومن الرجوع في تعليمه وتعلمه إلى الاستقلال، والاجتهاد في الاستدلال، وتأييده والدفاع عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر وما عليه أهله من علم وعرفان، وبيان ما هو الحق من موافقته لمصالح البشر في كل زمان ومكان، ولا يتم هذا إلا بثورة دينية على هذا الأزهر وسائر المعاهد الدينية لا تبقي ولا تذر من نظمه وعاداته ومناهجه وكتبه شيئًا إلا بدلت به ما هو خير منه إلا كتب الحديث فهذه الكتب يزاد فيها ولا ينقص منها. كلمت في هذا كبراء الشيوخ في هذا العام مرارًا وأنذرتهم ما حل بإخوانهم الترك إنذارًا، فلم يتماروا بالنذر، ولكن تعلل بعضهم بالقدر، وإنما القدر حجة عليهم لا لهم، والحق أنهم لا يقدرون على العمل ولا يمكن لغيرهم أن يعمل معهم، وقد شاهدنا بأعيننا ما كان من مجاهدة الأستاذ الإمام فيهم، وأنَّى لمصر مثل الأستاذ الإمام أو من يقرب منه في علمه وحكمته، وعقله وبصيرته، وهمته وعزيمته بل سبق لي مثل هذا الحكم عليهم بالعجز منذ تسع وعشرين سنة لا عليهم خاصة، بل على علماء هذا العصر الدينيين كافة، أي على جمهورهم وجماعاتهم، لا على كل فرد منهم كيف وقد كان فيهم الأستاذ الإمام بمصر وأفراد على مذهبه ومشربه في كل قطر؟ ذلك بأنني كتبت في السنة الأولى من المنار الذي صدر العدد الأول منه في ٢٢ شوال سنة ١٣١٥هـ مقالات في بيان ضعف المسلمين وأسبابه، وفي الإصلاح الذي يجدد مجده ويعيد هدايته، أنحيت فيها باللائمة على الزعماء المسئولين من الخلفاء والسلاطين والعلماء ومشايخ طرق الصوفية، ومن أشد تلك المقالات لهجة وأنهضها حجة ما كان عنوانها {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: ٦٧) فكتب إليَّ أحد المجاورين في رواق الشوام كتاباً غفلاً من الإمضاء يستنكر فيه وضع شيء من تبعة ضعف المسلمين وسوء حالهم على العلماء، ويعتذر عنهم بما وسعه الاعتذار، فأجبته بما ظهر لي بعد ذلك أنه لم يقنعه، إذ زارني جماعة من مجاوري هذا الزمان في العيد وجرى ذكر المسألة فناضل أحدهم عن العلماء وأطال في إنتحال الأعذار، وانتهى الحوار بقيام الحجة عليه وإقراره بها وبأنه صاحب ذلك الكتاب الإنكاري وذكر ما لا أنكر من حسن نيته وإخلاصه فيه. بعد هذا قلت له: إن للعلماء لديَّ عذرًا لو أوردته علي لما استطعت له ردًّا، ولا حاولت له نقضًا، قال أبعد هذا كله تقول: إن لهم عذراً صحيحاً؟ بالله ما هذا العذر؟ قلت هو الجهل! قال الجهل؟ قلت: الجهل وإنما عنيت الجهل بتاريخ الإسلام، كيف انتشرت دعوته، وقبلت هدايته، وسادت حكومته، ودونت علومه، وزهت حضارته، ثم كيف طرأت عليه البدع، وكيف كاد له العجم، وكيف رجع القهقري، فتفرق أهله شيعًا، وصارت دولته دولاً، ثم كيف كان جهاد الإفرنج له بالسيف والنار، ثم بالسياسة ثم بالعلم، وهو أشد جهادهم خطرًا، فإنه هو الذي جعل المسلمين يخربون بيوتهم بأيديهم - لو عرف علماء الإسلام هذا التاريخ وهو يتوقف على معرفة تاريخ خصومهم، لعرفوا كيف يكون المخرج من هذه المآزق. (والثاني) التقليد الذي أجمع السلف على تسميته جهلاً، دع تحريم الله إياه في كتابه ونذره لأهله، وقف عند عجز علماء التقليد في هذا العصر عن إقامة الحجة على كون الإسلام هو دين الله الحق، وعن الدفاع عنه، ورد الشبهات الحديثة التي يوردها عليه الطاعنون، وعجزهم عن جعل شريعته كافية لما أستحدث البشر من فنون الحرب ومناهج السياسة والنظم المالية والشؤون المعاشية، هذا العجز الذي كان سبب ترك حكومة هذه البلاد الإسلامية لتشريعه واتباع التشريع الإفرنجي المدني والجزائي (العقوبات) وسبب ذبذبة الترك في ذلك إلى أن نبذت حكومتهم شريعته برمتها، وصارت أكبر أعدائها وأشدهم وطأة عليها، أرفع صوتي بأنه لا ينقذ الإسلام في مصر من مثل هذه العاقبة إلا قلب نظام التربية والتعليم في الأزهر وملحقاته بعد أن خصص لها من أموال أوقاف المسلمين المبالغ الكافية لإدارة جامعة من أعظم الجامعات تحيي علوم الدين وعلوم الدنيا وفنونها مع التربية الدينية، وتمكنها من تأسيس مدارس تغني البلاد عن مدارس دعاة النصرانية الذين يفسدون على أولاد المسلمين دينهم وقوميتهم، وإلا وجب نزع هذه الأموال منهم، والمطالب بذلك من بيده بذل هذا المال. إنني لم أكتب هذا إلا وأنا معتقد وجوب بيانه بعد أن نصحت بالقول فلم يفد ولم يسمع، وأنني أعتقد أنني أشد غَيرة على هؤلاء الناس من أنفسهم، وأضن بكرامتهم وشرفهم من أبنائهم، وإنني لأتميز غيظًا كلما قرأت طعنًا فيهم من هؤلاء الملاحدة الإباحيين عبيد الشهوات، وأشهد أن رؤساءهم الحاضرين لم يكونوا من خصوم الأستاذ الإمام، بل فضيلة المفتي والأستاذ المدير من تلاميذه والأستاذ الأكبر كان مُوادًا له. ولو كانوا قائمين بما يجب من خدمة الدين لكان عدد الملاحدة والإباحيين قليلاً ولكان ضرر هذا القليل في الأمة أقلّ، فإني أعلم أن منهم الحسن النية، والمخلص في طلب العزة والرفعة للأمة، والذين لو وجدوا من جماعة الدين إصلاحًا لرضوا أن يكونوا أعوانًا لهم وأنصارًا، وسأبين هذا في مقال آخر من هذا الحديث أثبت فيه أن سوء حال رجال الدين فتنة للكافرين، وحجة للملحدين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة: ٥) . ((يتبع بمقال تالٍ))