ذكرنا في النبذة الخامسة التي نشرت في الجزء الخامس أن مسلمي بيروت قد تجدد لهم ثلاث حالات اجتماعية، وتكلمنا على الأولى منهن وهي المتعلقة بالنساء، فبقي أن نقول كلمة في كل من الحالتين الأخريين وفاءً بالوعد.
اتفاق المسلمين والنصارى الحالة الثانية: الميل إلى الاتفاق مع النصارى وهذه ليست جديدة بالمعنى المتبادر من الكلمة، وهو أنها حدثت بالتطور الذي أحدثته الحرب الأخيرة وما تولد منها، بل كانت من تأثير تطور سابق عليها نبه العرب كغيرهم إلى المحافظة على جنسيتهم، وكان السوريون أسبق العرب إلى التنبه والبحث في ذلك من حيث إن لهم وطنًا خاصًّا له حدود ومصالح خاصة قلما تشاركهم فيها الأقطار العربية الأخرى وأهله مؤلفون من أصحاب ملل ومذاهب يرجع أكثرها إلى فريقين: محمديين ومسيحيين، بحيث يتوقف عمران البلاد وارتقاؤها على تعاون الفريقين وإن كان أكثر مجموع أهالي البلاد في غير لبنان من الأولين، كما أن أكثر رقبة الأرض لهم. فالحق أن للشعور بالحاجة إلى الاتفاق بين المسلمين والنصارى عدة محركات: الحرب، وثلاثة قبلها وواحد بعدها، والأخير الذي سبق إلى ذهننا عند كتابة النبذة الخامسة من الرحلة، أما المحرك الأول فهو الدستور الذي علق الآمال بوطنية جديدة عثمانية تقضي على دسائس التفرق في المصالح الوطنية بين الملل والنحل، ولكن لم تلبث هذه الآمال أن خابت فكانت خيبتها بمحرك أقوى وهو اضطهاد الاتحاديين للعرب واجتهادهم في صرف قوى الدولة إلى تقوية الجامعة التركية أو الطورانية، وإكراه سائر الشعوب العثمانية على الاندغام فيها بمحو لغتهم وجميع مميزاتهم القومية والوطنية، ولا سيما السوريين والعراقيين من العرب، وتلا هذا المحرك الثالث وهو حرب البلقان التي انكسرت فيها الدولة انكسارًا حرَّك المطامع الأوربية المستعدة للوثوب على البلاد العربية لاستعمارها، وعلى إثر ذلك تألف حزب اللامركزية في مصر والجمعية الإصلاحية في بيروت من المسلمين والنصارى، وباتفاق الحزبين مع بعض شبان السوريين المشتغلين بتلقي العلم في أوربة تكوَّن المؤتمر السوري وجُعلت رياسة إدارته لحزب اللامركزية؛ لأنه أقوى الأحزاب وأطهرها وأعمها. وأما الحرب فقد كانت بويلاتها ومصائبها محركًا إنسانيًّا وطنيًّا للتعاطف والتراحم كما وصفنا في هذه الرحلة ووصف غيرنا من الكتاب في الجرائد السورية في جميع الأقطار. وأما المحرك الأخير وهو الاحتلال فقد كان يجب أن يكون - بعد تلك المحركات الممهدة أو المؤسِّسة - هو المتمم للبناء، ولكنه كان هادمًا للأساس والقواعد وراجعًا بهؤلاء السوريين المساكين إلى شر مما كانوا عليه قبل تلك التطورات أو المحركات الدافعات لكل فريق إلى السعي للاتفاق مع الآخر وتكوين جامعة وطنية، وقد كان كل فريق مؤاخذًا في هذا اللوم الذي كان مظهرًا لفقد التربية الوطنية والقومية وتغليب التعصب الديني على كل ما سواه حتى كأنه - أو لأنه - قد صار غريزة أو ملكة راسخة لا تزول إلا بجهاد طويل ينقرض فيه جيل ويتجدد جيل. ذلك بأن الاحتلال المختلط الذي تلا جلاء الترك عن سورية كان مذبذبًا، فقد سبق الأمير فيصل بجنوده ورجاله إلى احتلال البلاد باسم الحكومة العربية ورفع على معاهد الحكومة في مدنها علمه العربي الحجازي، وكان الأهالي قد سبقوا إلى تأليف حكومة وطنية مؤقتة وتلاه الاحتلال المختلط المثلث تحت قيادة الإنكليز، فالقسمة المثلثة فالقسمة الثنائية، ولما جاء رجال فيصل أولاً خضع لهم الجميع ورفعت الحكومة اللبنانية علمه على دار الحكومة في بعبدا وكانت المبشرات بالثورة العربية والحكومة العربية الجديدة التي ستنقذ البلاد من الترك قد تغلغلت في البلاد بسعي الدولة البريطانية فكان مجيء رجال فيصل واستيلاؤهم على مصالح الحكومة منتظرًا وعدَّه الأهالي أمرًا متفقًا عليه بين الحلفاء - ومنهم ملك العرب - فتلقاه النصارى كالمسلمين بالرضاء والتسليم. وههنا ظهر تقصير المسلمين وجهلهم بالسياسة وطبائع الاجتماع؛ إذ شكّلوا الحكومة السورية المؤقتة أولاً والحكومة العربية ثانيًا من أنفسهم ولم يطلبوا كبراء النصارى في الجاه والعلم إلى التشاور والاشتراك في تأليفها، وقد بحثت في هذه المسألة في بيروت وغيرها فاعترف لي بعض من ذاكرت فيها من المسلمين بالتقصير، وأنه لم يكن سوء نية إذ لم يكن عن تشاور بين المسلمين أنفسهم حتى قال: إنهم استأثروا بالأعمال وتعمدوا أن يكونوا وحدهم حكام البلاد، بل كانت الأعمال في ذلك فردية فكل من يطمع في وظيفة يسعى إليها، وإنما كان جل السعي إلى ذلك من أفراد المسلمين لما سبق لهم من التصدي لخدمة الحكومة والتعلم في المدارس العثمانية الرسمية لأجل ذلك، وقلما كان النصارى يتصدون لذلك ويستعدون له أو يدخلون مدارس الدولة التي هي الوسيلة إليه، ولو كان للمسلمين حزب سياسي منظم لما فاته أن يغتنم هذه الفرصة لإتمام ما تأسس في تلك التطورات العربية من أسباب الاتفاق ودواعيه، نعم إنه كان في البلاد جمعية سياسية سرية لها علاقة وارتباط بالأمير فيصل، ولكن أكثر أفرادها من الشبان الذين لم ترتق بهم السياسة إلى مثل هذا الفكر. لم تكد تستقر الحكومة العربية الفيصلية بالاحتلال العربي حتى تبعها الاحتلال المختلط من الإنكليز والفرنسيس الذي قسم سورية الشمالية إلى منطقتين غربية ساحلية احتلتها الجنود الفرنسية وجعلت لها السيطرة عليها تحت رياسة القيادة الإنكليزية المحتلة معها، وشرقية داخلية احتلتها الجند العربي باسم حكومة الحجاز وإن كان الجند نفسه مختلطًا والمنظم منه مؤلفًا من السوريين والعراقيين، وقد جعل له السيطرة في هذه المنطقة تحت رياسة القيادة البريطانية أيضًا، وكان هذا التقسيم مقدمة لتنفيذ اتفاق سنتي ١٩١٦، ١٩١٧ وقد اعتمدت السلطة الفرنسية في إدارة المنطقة الغربية على صنائعها من النصارى - ولا سيما الموارنة منهم - فأكثرت من الموظفين من هؤلاء فكانت كثرتهم مخرجة لمثل عددهم من المسلمين؛ لأن أكثر أعمال الحكومة كانت بأيديهم من عهد الترك، ورأى النصارى أن الدولة قد دالت لهم فرضوا بذلك وسُرّوا به، ولم يكن للمسلمين يد عندهم في تلك الأيام القليلة التي صار أمر الحكومة إليهم فيها فأعرضوا عن المسلمين، بل صاروا يؤذونهم بالقول والفعل واعتزوا عليهم وعتوا عتوًّا كبيرًا لم يفعل المسلمون شيئًا منه في دولتهم التي تعد بالأيام لا بالشهور ولا بالسنين، ونسوا كل ما كان قبل ذلك من حرص المسلمين على الاتفاق معهم قبل الحرب العامة حتى رضوا أن يكون لهم نصف الأعضاء في مصالح الحكومة المنتخبة وغير المنتخبة، وذلك فوق ما تقتضيه النسبة العددية العادلة التي تجري عليها جميع الدول الراقية، وما كان من عطفهم عليهم وتضامنهم معهم في زمن الحرب، وقد اشتهر ما وضعوه من الأناشيد في ذم المسلمين وإهانتهم وإنشادها في الشوارع والأسواق في بيروت في يوم عيد الفصح، ولولا أن اعتصم المسلمون بالصبر والحلم لوقعت يومئذ مقتلة فاضحة تعد سبة لسورية ما بقي الدهر. على أن المسلمين لم يكونوا قد يئسوا من سعي فيصل إلى استقلال جميع سورية وجعل حكومتها عربية، بل كان رجاؤهم في ذلك عظيمًا، وقد شهد لهم بعض كبراء الضباط الإنكليز على المسيحيين ولا نحب أن نشرح ذلك ونطيل فيه لئلا يعد انتصارًا مِنَّا لأهل ملتنا، ونحن إنما نكتب لأجل التأليف والاتفاق لا لتقوية الشقاق، وغرضنا أن نقول: إن مسلمي بيروت شعروا في هذه الحالة بشدة حاجة البلاد في هذه المنطقة إلى الاتفاق بينهم وبين النصارى على الوحدة الوطنية ولكن لم يجدوا منفذًا للسعي، ويقابل ذلك في المنطقة الشرقية - حيث يقل المسيحيون - أن المسلمين كانوا والحكومة في أيديهم يجتهدون في استمالة النصارى وإشراكهم في كل عمل ويودون إعطاءهم فوق ما يريدون بحسب النسبة العددية وقد جرت الأحزاب السياسية على إزالة الصبغة الإسلامية من الحكومة إرضاءً لهم، وظهر أثر ذلك في المؤتمر السوري والقانون الذي وضعه للحكومة السورية العامة المتحدة فأنا أذكر هذا وذاك لا لتسجيل الذنب الأكبر على النصارى وتصغير ذنب المسلمين أو تبرئتهم بل لأُثبت به إخلاصهم في الميل إلى الاتفاق. وقد كتبت وأنا في بيروت عدة مقالات في جريدة الحقيقة بإمضاء (السيد) دعوت فيها إلى الاتفاق بالحجج الناهضة والأساليب الجاذبة، واجتناب كل ما ينفر من الغاية المقصودة، فظهر لها تأثير في زيادة ميل المسلمين إلى الاتفاق ولم يظهر لها في النصارى إلا أثر ضعيف في بعض شبان المدرسة الأمريكانية الجامعة، وقيل لي: إن آخرين من الأحرار المستقلين قد سُروا بها ولكن لم يستجب للدعوة منهم أحد، ولولا أن كانت تلك المقالات فائضة من روح الإخلاص والإنصاف والتلطف في الدعوة لوجد فيها المتعصبون من القوم والذين يخدمون سياسة التفرقة مآخذ للرد عليها ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، وقد نقل إلينا أن الاستعداد للاتفاق يقوى بعمل الزمان عامًا بعد عام، حقق الله الآمال. *** التربية الملية مع التعليم العصري لقد نام المسلمون نومة اجتماعية أطول من نوم أهل الكهف وأثقل الموقظات التي تصخ الأسماع تتوالى من حولهم كالصواعق وقد ضرب على آذانهم فهم لا يسمعون، ولما بُعثوا وجدوا ما يعرفون من سير البشر قد تبدل فصار على غير ما يعهدون: رأوا الغربيين قد سادوا العالم وتولوا إدارة شؤونه في بلادهم وبلاد غيرهم من حيث يشعر أولئك الأغيار ومن حيث لا يشعرون، فحاروا في أمرهم لا يدرون ما يصنعون. ماذا يعملون؟ ولماذا لا يدرون؟ وكيف يُعذر بهذا الجهل المسلمون؟ القرآن يصيح بهم من فوقهم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) وشواهد هذه القاعدة الاجتماعية القطعية بين أيديهم وعن أيمانهم وشمائلهم. صفات الأنفس التي يتوقف تغيير أحوال الأمم بتغيرها هي ما يبعث على الأعمال من علوم وأخلاق، وهما يكتسبان بالتعليم والتربية كما ورد في حديث: (العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) فأما العلوم النظرية والفنون العملية، فصناعات آلية، ترتقي بارتقاء العمران، وليس لها دين ولا وطن، بل يتبع فيها سير العمران واختلاف الزمان، وأما الأخلاق والملكات النفسية، التي تتجدد بها حياة الأمم الاجتماعية فهي تختلف باختلاف الأمم في المقومات والمشخصات الملية والقومية، وتراعى فيها الغرائر القومية والوراثة الجنسية، فـ (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) هم كذلك في أفرادهم، وفي جماعاتهم وأقوامهم، فالقوم يعرض لهم القوة والضعف، والعز والذل، كما يعرض للمعدن الصقل والصدأ، والتربية والتعليم للأفراد والأقوام كالصقال للمعدن الذي يظهر رونقه الفطري ويزينه ويعظم الانتفاع به، ولا يقصد به تبديل جنسه ونوعه بتحويله إلى نوع آخر، فلماذا لم يُجارِ المسلمون الغربيين في أساليب التربية الملية والتعليم المدني ومدارسهم بين أيديهم في ديارهم، ولا سيما بيروت منها؟ فأعظم المدارس التي أسسها الإفرنج فيها المدرسة الإنجيلية الأمريكانية والكلية اليسوعية، فلماذا لم يقتدوا بهم بتأسيس مدرسة قرآنية أو مدرسة محمدية؟ على أن سائر المدارس التي أسسها الإفرنج وتلاميذهم من النصارى الوطنيين دينية التربية ومنسوبة إلى البطاركة والقديسين من رجال دينهم، ويا ليت التربية الدينية فيها كانت مسيحية خالصة من شوائب الأهواء السياسية، كلا إن كل شعب من شعوب الإفرنج قد بث في مدارسه التي أنشأها في الشرق دعوة سياسية نفخ فيها من روح الدين والمذهب، فكان ذلك أكبر أسباب الشقاق الديني في سورية، وقد كان هذا خفيًّا عن الدولة العثمانية الجاهلة المتساهلة، وعن أكثر الناس ولكن صار معروفًا للعوام كالخواص، إذ ظهر تأثيره بما تجدد من التفرق والشقاق بعد تلك المسائل التي مهدت للاتفاق، وهي ما أشرنا إليه في الفصل الأول من هذه النبذة. علم مسلمو بيروت من ضرر مدارس الإفرنج في هذه الأيام فوق ما كانوا يعلمون وناهيك بها، وقد حملها زوال الحكم العثماني من البلاد على التشدد في إكراه من يتعلم فيها من أولاد المسلمين على تلقي دروس الديانة النصرانية وحضور وعظها وصلاتها، فافترصت ذلك بإلقاء عدة خطب دعوت فيها إلى تأسيس مدرسة كلية إسلامية، ثم رغبت إلى عمر بك الداعوق الذي كان رئيس البلدية أن يدعو كبار الأغنياء الذين يُرجى منهم الخير إلى داره لأجل دعوتهم إلى الاكتتاب لهذا العمل فلبى بالارتياح، ولما انتظم عقدهم ألقيت فيهم خطابًا بما يقتضيه المقام من الكلم الذي يرجى أن يقع موقع الإقناع من العقول والتأثير من القلوب، وفتح عقب الفراغ منه باب الاكتتاب فدخله الأكثرون وأرجأ الأقلون، ولكن كان ما كتبوه من المبالغ غير لائق بهذا المشروع العظيم ولا بباعث على الرجاء في النجاح فآلمني ذلك وحفزني إلى إلقاء خطاب آخر كان شديدًا بقدر شدة تألمي وتهيج شعوري حتى قال لي صديقي أحمد مختار بيهم بعد أيام أنه لا يوجد أحد تُقبل منه هذه اللهجة الشديدة سواك، ولكن كان من تأثير الإخلاص فيه أن ضاعف كثير من المكتتبين ما كانوا كتبوه من التبرع. ثم ألفنا لجنة من كبار الوجهاء أهل الغيرة كانت تطوف على من لم يحضر ذلك الاجتماع في مكاتبهم ومخازن تجارتهم لإتمام الاكتتاب، وأفرادها عمر بك الدعوق وأبو علي سليم وعلي سلام أفندي وأحمد مختار بك بيهم ومحمد أفندي الفاخوري ورشيد أفندي اللاذقي ورشيد رضا كاتب هذا، وقد بلغ الاكتتاب بالمبالغ التمهيدية بضعة آلاف من الجنيهات مع اكتتاب سنوي آخر، وقد سافرت إلى الشام قبل إتمام الاكتتاب فوقف سيره ولكن العمل لم يقف فقد ابتاعوا أرضًا واسعة بجوار الحرش باسم هذه المدرسة ستُبنى فيها إن شاء الله تعالى. هذا ما انتهى إليه السعي والاستعداد لهذا المشروع وهو ليس مما تبيض به الوجوه، إلا إذا نظر إليه من حيث إنه بدء حياة اجتماعية جديدة يرجى أن تنمي وتزداد بالعمل، وقد كنا معشر الساعين إليه غير مغرورين بنهضتنا ومبلغ استعدادنا ولذلك اتفقنا على أنه لا يرجى نجاحه وثباته إلا إذا عهد به إلى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي ستكون إن شاء الله تعالى من أغنى الجمعيات الوطنية فقررنا نوط العمل بالجمعية، وسعينا إلى تجديد نظامها وتنظيم جلساتها التي كانت معطلةً فتم ذلك في أقرب وقت بمساعدة رئيسها صاحب الفضيلة مفتي بيروت أدام الله النفع به. ولما شعر المسيحيون بهذا السعي استكبره على المسلمين المستكبرون، وكرهه لهم ومنهم الكارهون، وكتبوا في جرائدهم: إننا نريد لوطننا السوري مدارس وطنية لا مدارس دينية، فالدين هو الذي فرق كلمتنا، وأغرى العداوة والبغضاء بيننا، فرددت عليهم في جريدة (الحقيقة) بأن المدارس الدينية التي فرقت وفعلت ما فعلت هي مدارس مسيحية لا إسلامية ولا وطنية، فإذا رضيتم بتركها واستبدال مدارس وطنية بها فإننا نضع أيدينا في أيديكم وأموالنا مع أموالكم وأولادنا مع أولادكم، ولكننا نقول: إن الدين لم يكن هو المفرق والمغري بالعداوة بأصوله وتعاليمه، بل بسوء استعمال السياسة الأجنبية له، وإننا بالتربية الوطنية يمكننا أن نجعله من أكبر أسباب الاتفاق والتعاون، وفي نصوص القرآن والإنجيل ما يهدي إلى سلوك هذه السبيل، وهي التي سلكها فقيد الوطن (البستاني) الذي اتفق المسلمون مع المسيحيين على احترامه والاحتفال في هذا العام بذكرى مرور مائة سنة من تاريخه. فهلموا ننشئ مدرسة وطنية جامعة ونجعل في جانب منها مسجدًا، وفي جانب آخر كنيسة، فإن التربية لا تكمل بغير فضيلة والفضيلة لا تكمل بغير دين، وفي كل من الدينين الإسلامي والمسيحي فضائل كافية، وهي في الأكثر متفقة أو متقاربة، فليُربِّ كل فريق منَّا أولاده على عبادات دينه وفضائله، ومحبة وطنه والتعاون على ترقيته، على قاعدة المنار الذهبية: (نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) فنحن مشتركون في أرض هذا الوطن وفي جميع مصالحه الاقتصادية والسياسية ومشتركون في اللغة، فنتعاون على ترقية ذلك بجميع فروعه ولسنا مختلفين إلا في الدين ومذاهبه، فيعذر كل منا الآخر فيه. وليعلم الأفراد المارقون من الدين من الفريقين أنه ليس في استطعاتهم هدم الدين، وهذه البلاد وما يجاورها هي مهده ومنبت الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أولئك العظام الذين يقدس ذكرهم مئات الملايين في الشرق والغرب ولا يعدون أحدًا من الفلاسفة ولا من الملوك والفاتحين مساويًا ولا مدانيًا لأحد منهم، بل ولا لأصحابهم وتلاميذهم الأولين ولا أولياءهم المخلصين. بهذا قامت الحجة لنا عليهم والمخلص في الدعوة إلى المصلحة العامة لا تدحض له حجة؛ لأن الله تعالى هو المؤيد له: {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: ١٤٩) . ((يتبع بمقال تالٍ))