ومفاسد أهل الطرق والشرفاء وكونهما سببًا لفشل زعيم الريف المغربي
إن أهل الطرق المنتسبين إلي الصوفية قد أفسدوا على عامة المسلمين في الشرق والغرب دينهم ودنياهم وكان إفسادهم في أفريقية أشد منه في أسية ولم يكفهم تشويه الإسلام بالبدع الذي يعد كثير منها ارتدادًا، عن الإسلام بل صاروا أعوانا للفاتحين السالبين لملك المسلمين وأولياء لهم على المسلمين وقد بلغنا من رواية الثقة من أهل المغرب الأقصى أن بعض مشايخ الطريقة التيجانية الزائغة وغيرها كانوا أكبر أعوان الأجانب على الزعيم محمد عبد الكريم في قتاله لدولتي أسبانية وفرنسة في الريف، ثم قرأنا في جريدة الشورى الأسبوعية حديثًا له في معتقله نشر في بعض الجرائد الغربية، وهو كما يدل على فساد مشايخ الطرق وإفسادهم يدل على جهل في الزعيم كان سبب فشله وانتصار المشايخ فالأجانب عليه؛ فبعض الحديث حجة له وبعضه عليه قال: حديث محمد عبد الكريم أردت أن أجعل الريف بلادًا مستقلة كفرنسة، وأسبانية، وأن أنشئ فيها دولة حرة ذات سيادة، لا إمارة خاضعة لأحكام الحماية، أو الوصاية فحاولت في بدء الأمر أن أفهم موطني أنهم لا يستطيعون البقاء إلا إذا كانوا متضامنين كالبنيان المرصوص وعملوا بصدق وإخلاص على تأليف وحدة قومية من القبائل المختلفة الأهواء والنزعات؛ أي إني أردت أن يشعر مواطني بأن لهم وطنًا كما لهم دين. انتقدني المنتقدون كثيرًا لأني في مفاوضات (وجدة) طلبت بإلحاح تحديد معنى الاستقلال؛ فإن هذا التحديد كان ضروريًّا جدًّا؛ لأن غرضنا كان الاستقلال الحقيقي الذي لا تشوبه شائبة الاستقلال الذي يكفل لنا الحرية التامة في تعيين مصيرنا، وإدارة شؤوننا الاستقلالية، وعقد الاتفاقات والمحالفات التي نراها موافقة لنا. وكنا أنا وأخي أطلقنا على بلادنا اسم (جمهورية الريف) منذ سنة ١٩٢٣م وطبعنا في فاس أوراقًا للحكومة عليها هذا الاسم لدلالة على أننا دولة مؤلفة من قبائل مستقلة متحالفة لا دولة نيابية ذات برلمان منتخب، أما اسم الجمهورية فلم يكن ليتخذ معناه الحقيقي في نظرنا إلا بعد مدة من الزمن؛ لأن جميع الشعوب تحتاج حين تأليفها إلى حكومة حازمة وسلطة قوية ونظام قومي متين. ولكن لسوء الحظ لم يفهمني غير أفراد قلائل يعدون على أصابع اليدين بل كان أخلص أنصاري وأكثرهم علمًا، وذكاء يعتقدون أني بعد إحراز النصر سأترك لكل قبيلة حريتها التامة مع علمهم بأن ذلك يعيد البلاد إلى أشد حالات الفوضى والهمجية. وكان التعصب الديني أعظم أسباب فشلي، إن لم أقل: إنه سببه الوحيد؛ لأن مشايخ الطرق أعظم نفوذًا في الريف منهم في المغرب الأقصى وفي سائر بلدان الإسلام وكنت عاجزًا عن العمل من دونهم ومضطرًّا إلى التماس مساعدتهم كل حين، وقد حاولت في أول الأمر أن أستميل الجماهير إلى رأيي بالحجج والبراهين، ولكني صادفت مقاومة عظيمة من الأسر الكبيرة ذات النفوذ إلا أسرة (خملاشة) التي كان رئيسها صديقًا قديمًا لوالدي وأما الباقون فقل كانوا أعداء لي، ولا سيما بعد ما أنفقت من أموال الأوقاف لشراء معدات الحرب؛ فإنهم لم يفهموا أن الأموال لا يمكن أن تصرف على مشروع أشرف من مشروع استقلال البلاد. ولا أنكر أني اضطررت في بعض الأحوال إلى استخدام الشعور الديني لتأييد سياستي , مثال ذلك أن الأسبانيين بعدما احتلوا أجدير أكرهوا على الجلاء عن قسم منها كان فيه مسجد لم يحترموه بل جعلوه إصطبلاً فلما بلغني ذلك أمرت ثلاثة من القواد المشهورين بالورع والتقوى أن يحققوا الأمر بأنفسهم وقد ضاعف عملي هذا حماسة المحاربين وزاد تعلقهم بي وبقضيتي. والحقيقة أن الإسلام عدو التعصب والخرافات، وأنا أعرف من قواعده ما يجعلني أؤكد للملأ أن الإسلام الذي أعرفه في المغرب والجزائر بعيدًا جدًّا عن الإسلام الذي جاء به النبي العظيم فإن الذين ادعوا خطأ أو صوابًا أنهم من تلك السلالة الطاهرة وجهوا كل اهتمامهم إلى اكتساب عطف الشعب على أشخاصهم الفانية، وأقاموا أنفسهم أصنامًا يعبدها الجهلاء وأنشئوا طرقًا دينية حولوها إلى جيش منظم لخدمة أغراضهم الشخصية مع أن الإسلام أبعد ما يكون عن تقديس الأشخاص ؛ لأنه يأمر بالإخاء، والاتحاد في وجه العدو ويحض على الموت في سبيل الحرية والاستقلال؛ ولكن مشايخ الطرق ورؤساء الدين عبثوا بكتاب الله وسنة رسوله إرضاء لشهواتهم وسدًّا لأطماعهم ولم يشتركوا في الثورة بحجة أن القتال في سبيل الوطن لا يعنيهم وأنهم لا يقاتلون إلا في سبيل الدين. وقد أفرغت قصارى جهدي لتحرير بلادي من نير مشايخ الطرق هؤلاء الذين هم عقبة في سبيل كل حرية واستقلال، وكانت خطة تركيا قد أعجبتني كثيرًا لعلمي بأن البلدان الإسلامية لا يمكن أن تستقل ما لم تتحرر من التعصب الديني وتقتدي بالشعوب الأوربية، ولكن الريفيين لم يفهموني لسوء حظي وحظهم حتى إن قيامة المشايخ قامت عليّ؛ لأني خرجت في إحدى الأيام بلباس ضابط على أني لم أعد إلى مثل هذا العمل فيما بعد. وكان مشايخ الطرق ألد أعدائي وأعداء بلادي كما تقدم فلم يحجموا عن شيء في سبيل إحباط مسعاي حتى أذاعوا في طول البلاد وعرضها أني أريد الاقتداء بتركيا وأن ذلك يقضي حتمًا بتغيير عادات البلاد وتقاليدها وإطلاق حرية المرأة فتخرج سافرة بالبرنيطة وتلبس كنساء الإفرنج، وتقلدهن في عاداتهن إلى غير ذلك مما عزوه إليّ وقد أقنعتني دسائس هؤلاء المتعصبين الجهلاء بأن التطور في كل بلاد لهم فيها نفوذ قوي لا يمكن أن يتم إلا ببطء وبالالتجاء إلى القوة والعنف. ويجب أن أعلن هنا أني لم أجد في الريف أقل عضد في مساعي الإصلاحية وأن فريقًا قليلاً من سكان فاس والجزائر فهموني وأيدوني ووافقوا على خطتي لأنهم على احتكاك بالأجانب ولأنهم يعرفون أين هي مصلحة بلادنا الحقيقية. وخلاصة القول: أني جئت قبل الأوان للقيام بمثل هذا العمل ولكني موقن بأن آمالي ستحقق كلها عاجلاً أو آجلاً بحكم الحوادث وتقلبات الأحوال. اهـ كلامه
(المنار) قد شهد الزعيم المغربي على نفسه بأنه لم يدر كيف يسوس قومه فهو كما استفاد من خدمة الدولة الأسبانية ما علم به كيف يدير حركة الدفاع عن بلاده إدارة فنية عصرية زادت قيمة شجاعة قومه أضعافًا قد فتن بظواهر الحضارة الأوربية حتى إنه أراد أن يقلدها فيما يضعف قوة قومه الروحية ويحل روابطهم الملية ويستبدل بهما ما يسمى بالرابطة، أو الحمية الوطنية، أي أراد أن يقتدي بالأتراك الكماليين اللادينيين فيما لا يدركه ولا يستحسنه غيره هو في وطنه جاهلاً، وإن الترك ما أقدموا على هذا الخطب العظيم بعد الاستعداد له زهاء قرن كامل، ولولا أن أكثر رؤساء الجند الكبير المنظم الحاملين للسلاح على رأي مصطفي كمال لما استطاع أن ينفذ هذه الخطة في هذا الشعب الإسلامي مع تمهيد جمعية الاتحاد والترقي السبيل له ومع هذه يرى البلاد قد ثارت عليه وحاولت اغتياله مرارًا. إن ما سماه محمد عبد الكريم تعصبًا دينيًّا، وذمه ولم يجد وسيلة لقمعه إلا تقليد الترك الكماليين ليس تعصبًا للدين بل هو جهل لا يداوى بقمع القوة بل بنشر العلم وكان يجب عليه تأجيل ذلك إلى ما بعد نيل الاستقلال وكان يمكن للزعيم أن يعبر عن قتاله بأنه قال: في سبيل الله لأن الشرع يأمر به والنصوص على ذلك في جميع كتب الفقه صريحة ولكنه قصر لقلة اطلاعه على كتب الشرع وانخداعه بإمكان جعل الوطنية مكان الدين وجهله بإمكان الجمع بينهما، وقد كان هذا أهم ما ينقصه من صفات الزعيم الحاكم لبلاد إسلامية، والدليل على جهله هذا إعجابه بخطة الترك الذين أضاعوا أعظم سلطنة في الأرض بجهلهم ما يحتاج إليه من يسوس الشعوب الإسلامية في هذا العصر، وافتتانهم بما رباهم عليه وأقنعهم به الإفرنج، وصاروا إمارة صغيرة تحيط بها الأخطار من كل جانب وسنرى ما يكون من أمرهم في أنفسهم، ومع الأجانب فإن أول خطأ ظهر لهم في نبذ الشرع الإسلامي وانتحال التشريع الأوربي وليس البرنيطة أنهم كانوا يظنون أن أوربة تعاملهم بهذا معاملة الأقران والأمثال وأنها لم تكن تناولهم إلا لتمسكهم بالإسلام فبدأ منهم ما لم يكونوا يحتسبون.