للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من صاحب الإمضاء ببيروت

بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى، السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته (وبعد) فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة الآتية راجيًا التكرم
بالإجابة عليها ولكم عظيم الشكر:
(١) هل يجوز تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية المنصوص عليها
في الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبرَيْنِ؟ فإن كثيرًا من الناس يحاولون
تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية، فيقبلون منها ما يوافق عقولهم ويتركون
ما يخالفها، وإن كان في ذلك نص أو إجماع أو قياس، فهل يجوز أم لا؟
(٢) هل يجوز التقليد والتلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة ولو لغير ضرورة
قبل العمل أو بعده في المعاملات والعبادات كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة كمن
توضأ وضوءًا واجبًا، أو اغتسل غسلاً واجبًا من ماء قليل مستعمل في رفع حدث
مقلدًا لمذهب الإمام مالك، وترك الدلك مقلدًا لمذهب الإمام الشافعي، وترك النية
مقلدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة، يكون وضوءه أو غسله صحيحًا أم لا؟
(٣) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز
العمل بهما أم لا؟ وهما (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (من قلد عالمًا
لقي الله سالمًا) .
(٤) هل كتاب (لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة
المضية في عقيدة الفرقة المرضية) تأليف الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري
الحنبلي وكتاب (المُحلى) تأليف الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
صحيحان معتمدان يجوز الاعتقاد والعمل بجميع ما أتى فيهما أم لا؟
(٥) هل ما ورد بخصوص ظهور المهدي المنتظر والدجال والدابة ونزول
سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام وحكمه بالشريعة الإسلامية صحيح يجوز اعتقاده
أم لا؟
(٦) هل إعمال الحقنة في أحد السبيلين، أو في الشرايين، أو تحت الجلد،
أو التطعيم ضد مرض الجدري، أو غيره أو استعمال المضمضة، أو الداء للثة،
أو الأضراس، أو الأسنان لأجل تصليحها، أو منع وتسكين الآلام والأوجاع عنها،
وتغير طعم الفم، وبلع الريق مفطرة للصائم أم لا؟
(٧) هل يجوز للإنسان أن يرتهن دارًا أو دكانًا بقيمة معلومة على أجل معلوم
بشرط أن ينتفع المرتهن بالدار أو الدكان من سكنى أو إيجار أو غيره سواء كان
للإيجار من الراهن أم غيره أم لا؟
(٨) هل يجوز بيع الوفاء أم لا؟ وما كيفيته تفصيلاً؟
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ اللاذقي
(أجوبة المنار)
(٣١) تحكيم العقل في الدين:
ما شرع الله الدين للناس إلا لأنهم لا يستغنون عن هدايته بعقولهم، ومن كان
يؤمن بدين منزل من عند الله لا يمكن أن يقبل ما يوافق عقله منه، ويرد ما لا
يوافقه من المسائل التي يعتقد أن الله فرضها عليه من الأعمال، أو حرمها عليه من
التروك، فمن فعل ذلك كان غير متبع لدين يؤمن به قطعًا؛ وإنما متبعًا لهواه بغير
هدى من الله، فوظيفة العقل أن يعلم ويفهم ليعمل، لا أن يتحكم في دينه ولا في
قانون حكومته الذي هو وضع بشر مثله.
ثم إن عقول الناس تختلف اختلافًا كثيرًا فيما يوافق أصحابها، وما لا يوافقهم،
وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يُحَكِّمُون عقولهم في الدين دين خاص به،
وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم إن صح أن يسمى اتباعهم لها دينًا، وهو لا
يصح، فتحكيم العقل في كل مسألة من مسائل الدين مخالف لحكم العقل الصحيح؛
وإنما المعقول أن يطلب العاقل الدليل على أصل الدين، فمتى ثبت عنده وجب عليه
أن يتبع كل ما علم أنه منه، فنحن قد أقمنا البرهان العقلي على نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم ورسالته، فمن آمن به وجب أن يتبعه في كل ما جاء به من أمر
الدين، ومنه ما هو قطعي مجمع عليه بين المسلمين لا مجال للعقل في البحث عنه
ولا عن أدلته، ومنه ما ليس كذلك، فاختلفوا في إثباته ونفيه بالتبع للاختلاف في
أدلته، وفي وجه دلالته عليه كما بيناه مرارًا تارة بالتفصيل، وتارة بالإجمال
وآخرها ما في فتاوى الجزء الماضي من المنار، ومن ذلك الاختلاف في القياس
هل هو دليل شرعي أم لا، وفي حقيقته، وفي صفة دلالته وموضوعه وغير ذلك،
فلكل مسلم أن يبحث بعقله عن ذلك من طريقه، فيقبل ما صح منه بالدليل لا بالهوى،
ولا يجب على أحد أن يقبل كل ما يقوله له بعض مدعي العلم الديني، وإن رآه
غير معقول بدون دليل شرعي، وليس من الدليل ذكر الحكم في كتاب من كتب
المذاهب كما بيناه في الفتوى المشار إليها أخيرًا (راجع ص٦٨٨) .
(٣٢) التلفيق في تقليد المذاهب:
الأصل فيمن قلد مذهبًا أن يعرف أحكامه في المسائل، ويعمل بها لثقته بأدلتها
إجمالاً وتفصيلاً أو وراثة، ومن كان له نظر في الأدلة، فله أن يعمل بما اعتقد
صحته في بعضها مخالفًا لغيره، وإن أدى ذلك إلى التلفيق بين الأقوال، وعدم
موافقة صلاته لمذهب واحد من المذاهب الأربعة كاختلافها في الماء المستعمل
والقليل والكثير وأحكامها، وفي وجوب قراءة المأموم للفاتحة مثلاً؛ لأنه إنما يعمل
بما يعتقد صحة دليله في الشرع في كل فرع، لا بقول فلان وفلان لذاته؛ ولكن
يشترط ألا يخالف الإجماع في ذلك، وأما من عرف أقوال هذه المذاهب المختلفة
دون أدلتها فاختار لنفسه من كل منها ما وافق هواه لسهولته مثلاً، فهو متلاعب
بدينه، متعبد بغير علم ولا تقليد لإمام وثق بعلمه ودينه.
(٣٣) حديث (أصحابي كالنجوم) أخرجه البيهقي عن ابن عباس، وهو
غير صحيح.
(٣٤) جملة (من قلد عالمًا لقي الله سالمًا) ليست بحديث نبوي.
(٣٥) كتاب لوائح الأنوار الإلهية للسفاريني من أجمع الكتب للعقائد
الإسلامية وما روي من الأحاديث والآثار وأقوال السلف فيها، ولا يخلو من أقوال
ضعيفة وآراء مختلف فيها، والعقائد يجب إثباتها بالأدلة القطعية، ودونها ما ورد
في أخبار آحاد ظنية صحيحة السند، تسلم إذا لم يعارضها قطعي، وأما الروايات
الضعيفة فلا يجوز إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الاحتجاج بها ولا
العمل بها في المسائل العملية فضلاً عن العقائد الدينية.
(٣٦) كتاب المُحلى في الفقه للإمام ابن حزم من أجلّ كتب فقه الحديث
على مذهب الظاهرية الذين لا يقولون بالقياس، ولمؤلفه أفهام وآراء اجتهادية خالف
فيها غيره من الفقهاء يخطئ فيها ويصيب كغيره من العلماء، فمن اقتنع فيها برأيه
وفهمه كان كمن اقتنع برأي غيره من أئمة الفقه؛ فإنه إمام مجتهد كغيره، فالعبرة
بالدليل والعلماء نقلة ومرشدون.
(٣٧) المهدي المنتظر: راجع الأحاديث المتعارضة والاختلاف فيه وفيها
فقد بسطناه في الكلام على قيام الساعة وأشراطها من أواخر تفسير سورة الأعراف
(ص٤٥١ - ٥٠٢ من جزء التفسير التاسع) .
(٣٨) أحاديث الدجال، راجعها في ص ٤٨٩ من الجزء المذكور أيضًا.
(٣٩) أحاديث نزول المسيح واعتقادها، راجع المسألة في ص٧٥٣ من
مجلد المنار الثامن والعشرين.
(٤٠) الحقن وما يفطر الصائم:
أعمال الحقن بأنواعها والمضمضة بالماء والدواء لا تفطر الصائم، وبلع
الريق بالأولى؛ وإنما يفطره بلع شيء غير الريق من مائع أو جامد؛ لأنه يعد من
الطعام والشراب اللذين لا يتحقق الصيام إلا بالإمساك عنهما مع نية التعبد، وراجع
تفصيل أحكام الصيام ومفطراته في تفسير آياته من جزء التفسير الثاني ولا سيما
الفصول الملحقة به في الطبعة الثانية.
(٤١) حكم الانتفاع بالرهن:
ارتهان الدار والعقار بالصفة المذكورة غير جائز؛ لأنه من أكل أموال الناس
بالباطل، وإنما ورد في رهن المحلوب والمركوب أنه ينتفع بهما في مقابل نفقتهما
(٤٢) بيع الوفاء:
بيع الوفاء كنت أعهد له صورة في بلادنا يقول الفقهاء بصحتها، فراجعوا
المسألة في كتاب مجلة الأحكام العدلية لسهولته، وليس من شأن المنار تفصيل
المعاملات المدنية الاجتهادية.
* * *
حكم الصلاة والصيام في القطبين
وكون طلب العلم في سبيل الله
(س٤٣ و ٤٤) من صاحب الإمضاء في إنكلترة
ما قولكم دام فضلكم فيما هو آتٍ:
(١) تعلمون أن الإنسان كلما ذهب نحو القطب اختلفت ساعات الليل
والنهار، فهي عند خط الاستواء ١٢ ساعة ليلاً، و١٢ ساعة نهارًا، وعند القطب
ستة أشهر ليل باستمرار، وستة أشهر نهار باستمرار وتختلف فيما بين ذلك درجات.
فما حكم الشرع في مسلم يسكن في أقصى شمال الكرة، أو أقصى جنوبها،
ويريد إقامة أحكام الشرع من صلاة وصيام؟
(٢) ورد في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه (من خرج في
طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع) رواه الترمذي، فهل الخروج في طلب
العلم، كالخروج للمقاتلة في سبيل الله في الثواب فقط، أو في سقوط أحكام الشرع
الشريف عن الشخص المكلف من صلاة وصيام؟
... ... ... ... ... ... ... ... دكتور محمود زين الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ... طالب بإنكترا
(٤٣) حكم مواقيت الصلاة والصيام في القطبين وما يقرب منهما:
قد بيَّنا هذه المسألة في المنار، وفي التفسير، ومنها في تفسير الآية {فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: ١٨٥) الواردة في صيام شهر رمضان (ص
١٦٢ من جزء التفسير الثاني من الطبعة الثانية) وهذا نصه:
قال الأستاذ الإمام: وإنما عبر بهذه العبارة ولم يقل: (فصوموه) لمثل
الحكمة التي لم يحدد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها، وذلك أن القرآن خطاب الله
العام لجميع البشر، وهو يعلم أن من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل
السنة كلها قد تكون فيها يومًا وليلة تقريبًا كالجهات القطبية، فالمدة التي يكون فيها
القطب الشمالي في ليل وهي نصف السنة يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس،
ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في
خط الاستواء وهو وسط الأرض.
أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن
يصلي في يومه (وهو سنة أو مقدار عدة أشهر) خمس صلوات إحداها حين يطلع
الفجر، والثانية بعد زوال الشمس ... إلخ، ويكلفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين
ولا رمضان له، ولا شهور؟ كلا إن من الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من
عند الله المحيط علمه بكل شيء، لا من تأليف البشر ما نراه فيه من الاكتفاء
بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه، ولو كان من عند النبي
صلى الله عليه وسلم لكان كل ما فيه مناسبًا لحال زمانه وبلاده، وما يليها من البلاد
التي يعرفها، ولم تكن العرب تعرف أن في الأرض بلادًا مقدارها كعدة أنهر أو
أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك.
فمنزل القرآن وهو علام الغيوب، وخالق الأرض والأفلاك خاطب الناس كافة
بما يمكن أن يمتثلوه، فأطلق الأمر بالصلاة والرسول بيَّن أوقاتها بما يناسب حال
البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل
البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم والقياس على ما بيَّنه
النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله المطلق، وكذلك الصيام ما أوجب رمضان
إلا على من شهد الشهر وحضره، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا
له قدره، وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعد ما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها
ويقصر نهارها، والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، واختلفوا في التقدير على
أي البلاد يكون؟ فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة،
وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم وكل منهما جائز؛ فإنه اجتهادي لا نص فيه.
(٤٤) حديث (من خرج في طلب العلم) ... إلخ:
معنى الحديث أن من خرج في طلب العلم النافع كان خروجه في السبيل، أي
الطريق الموصلة إلى مرضاة الله كسائر أعمال البر؛ فإن كلمة سبيل الله عامة لا
خاصة بالقتال، وأحكام الشرع من الصلاة والصيام وغيرهما لا تسقط عن المقاتلين
في سبيل الله لأنهم مقاتلون، ولا عن غيرهم لأجل تفضيل عملهم، والصلاة أفضل
الأعمال بعد الإيمان، وهي لا تسقط عند أحد من المكلفين إلا بعذر منصوص
كالحيض والنفاس، وتجب على المقاتلين حتى في حال القتال، إلا أنه يسقط عنهم
بعض أعمالها البدنية كما ورد في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا
عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢٣٨-٢٣٩) أي: فَصَلُّوا في حالة الخوف
راجلين أو راكبين على مطاياكم وخيولكم، ويسقط الصيام عن المريض والمسافر
والحائض والنفساء وعليهم الإعادة، فلا أدري من أين جاءت السائل شبهة سقوط
الأعمال الشرعية عن المقاتلة في سبيل الله، فسأل عن الخروج في طلب العلم، هل
هو مثل القتال في هذا أم لا؟
هذا وإن طلب العلم لا يعد في سبيل الله إلا إذا كان مطلوبًا في الشرع، وكان
الاشتغال به بنية شرعية صالحة، ولم يكن سببًا لارتكاب الطالب في أثناء طلبه
شيئًا من المعاصي أو تركه لبعض الفرائض كما يفعله أكثر طلاب العلوم الدنيوية
من المسلمين في أوربة بدون عذر، فهذا لا يمكن أن يكون في سبيل الله.