(الشعر في شكوى الزمان) كتب الأدب العربية ملأى من شكوى الزمان، فما من أديب ولا عالم قال الشعر إلا وشكا من سوء حظه، وعتب على الزمان، وأنحى على الدهر بالذم على رفعه قدر الجهلاء وغمصه حقوق الفضلاء، منهم المكثر في ذلك كأبي العلاء المعري، ومنهم المقلّ. ومن المتبرمين من كان لهم عند الأمراء والعظماء القدر الرفيع والجاه المنيع، لكنهم كانوا يرونه دون ما يستحقون، وقد ذكر حكيم زمانه العلامة ابن خلدون في مقدمته: أن رجال العلم والدين قلما تكون عندهم الثروة. وهذه القاعدة قد تغيرت، أو هي تتغير تدريجًا بأساليب العمران الجديدة المبنية على العلم ورفعة قدر العلماء والأدباء، فقد كان لفيكتور هيكو شاعر الفرنسيس من الحرمة عند قومه ما لم يكن للملوك أو الإمبراطورين، وليس من غرضنا في هذه النبذة الخوض في هذه المسألة من الجهة العلمية الفلسفية، فنتوسع في البيان ونأتي بالشواهد عليه، وإنما أوردناه في باب الأدبيات، فنأتي عليه ببعض الشواهد الأدبية، قال بعضهم: عتبت على الدنيا لرفعة جاهل ... وخفض لذي علم فقالت خذ العذرا بنو الجهل أبنائي لهذا رفعتهم ... وأهل التقى أبناء ضرتي الأخرى وقال الإمام تقي الدين بن دقيق العيد: أهل المناصب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم قد أنزلونا كأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم فما لهم في توقي ضرنا نظر ... ولا لهم في ترقي قدرنا همم فليتنا لو قدرنا أن نعرفهم ... مقدارهم عندنا أولو دروه هم لهم مُريحان من جهل وفرط غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعدم وقد ناقضه الفتح الثقفي المنسوب للزندقة فقال وأجاد: إن المراتب في الدنيا ورفعتها ... عند الذي نال علمًا ليس عندهم لا شك أن لنا قدرًا رأوه وما ... لقدرهم عندنا قدر ولا لهم هم الوحوش ونحن الأنس حكمتنا ... تقودهم حيثما شئنا وهم نعم وليس شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وجدانهم عدم لنا المُريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهل والحشم ولعمري إن ابن دقيق العيد كان في عصره محل التعظيم والتمجيد؛ لأن عصره كانت الأمة فيه حية، تقدر الفضل قدره بالنسبة لما هي فيه الآن، وله من الشعر ما يومي إلى أن العلماء كانوا معظمين ومكرمين، فقد قال في التوجيه باصطلاحات الأصول: قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يرتضي فقلت لما لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي *** (الجمعية الخلدونية في تونس) طالما نوهنا بأن الجمعيات المالية هي التي تنفخ في الأمم روح التقدم والعمران ولا نُسر بشيء نكتب عنه في جريدتنا كما نسر بذكر الجمعيات الإسلامية الناجحة. وقد حملت إلينا جريدة الحاضرة التونسية الغراء خبر الاجتماع السنوي الذي عقدته الجمعية الخلدونية في تونس فلخصنا من تقرير رئيس الجمعية صاحب الفضائل والفواضل السيد البشير صفر عيونه. بين الرئيس أولاً أن الجمعية دائبة على العمل بلا افتخار ولا نفخ في المزمار، لأن الغاية أجل وأسمى من سفاسف التباهي وحب الاشتهار، وأن المقصد منها بث المعارف التي عليها مدار العمران. (قال) : سيما وقد صيرتنا صروف الأحوال أحوج إليها من الظمآن إلى الماء الزلال، ثم السير بالتعليم في منهاجه القويم. وتكلم عن المالية، فأبان أن أربعين ونيفًا من الأعضاء المشتركين تأخروا عن تسديد معلوم اشتراكهم (يا للأسف والعار) قال: ولو زادت الموارد لاتسع النطاق بنشر مجلة في الآفاق وإعانة بعض المبرزين من أبناء مدارسنا على مزاحمة غيرهم في حلبة السباق، إذ هذا العصر كما تعلمون عصر صارت فيه قيمة العباد بحسب الاستعداد، لا بمجد الآباء والأجداد. ثم تكلم عن التعليم والمتعلمين بما نصه: (التعليم) أما طريق التعليم فقد سارت فيه لجنتكم بفضل الله سيرًا حثيثًا، وذلك أنها اعتبرت أولاً لزوم تسهيل المطالعة والمراجعة فأحدثت مكتبة احتوت على نيف ومائتي مجلد كبير وصغير في فنون شتى، كالجغرافيا والحساب والهندسة والجبر وحفظ الصحة وغيرها، وجميع هذه الكتب عربية العبارة سهلة المأخذ فانتفع بها المعلمون والمتعلمون، ولا زالت هذه المكتبة قابلة للكمال والتحسين والمأمو ل أن توجه نحوها عناية اللجنة القابلة. ثم رأت لجنتكم أن التعليم أخذ في مفهومه وجود المعلم والمتعلم وأن الأول ربما انفصم حبل استمراره على التدريس إذا لم يشد بوثاق الأجر العاجل، والثاني يوشك أن ترتخي عزيمته إذا لم تعالج بمنشطات الخير الآجل، ولذلك طلبت من الحكومة المحمية بواسطة جناب مدير العلوم والمعارف أن تؤجر المعلمين إذ لا تسمح بذلك الآن مواردنا المالية، وأن تضع امتيازات للمتعلمين كي يجتنوا ثمرة إقبالهم على الفنون العصرية، وقد أجابت الدولة هذين السؤالين فتكرمت من جهة بتخصيص مرتبات وقتية للقائمين بالتعليم المستمر، ومن وجهة أخرى أصدرت أمرًا عليًا تعلمون أيها السادة فحواه ومداره على ترشيح الجامعين بين العلوم العربية والفنون النافعة وتقديمهم على من سواهم في كثير من الوظائف الإدارية وهي عناية من الحكومة تستوجب الثناء الجميل والشكر الجزيل، وبذلك أصبح اليوم هيكل جمعيتكم في قرار مكين إذ أقيمت دعائمه على أساس متين. (المتعلمون) ابتدأت دروس الخلدونية أثناء السنة الفارطة وأوائل السنة الجارية وعدد الطلبة زهيد، ولا عجب فقد كان مشروعنا ككل جديد موضوعًا للقال والقيل، وذهبت الأفكار في شأنه مذاهب بين مستحسن ومنتقد فلا غرو أن كان الطلبة يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى في وقت كانت الخلدونية فيه مرمى السهام، من بعض ذوي الأفهام، مع أننا بحمد الله لسنا ممن ينحرف مع الإلحاد، أو يسعى في الأرض بالفساد، وأي ذنب لنا في هذا الباب يا أولي الألباب، سوى غيرة مِلّية بعثتنا على السعي بقدر الاستطاعة في بث فنون كانت ولم تزل محط الرحال لفحول الرجال، في كثير من الأجيال، إذ عليها مدار العمران، وما بعد العيان بيان، فإن كنا في ذلك آثمين، وعن منهج الإصابة ضالين فقد أثم من قبلنا ذوو همم ما نحن منهم إلا كقطرة من يم، أثم من قبلنا الخليفة المأمون، ناشر لواء هذه الفنون، وأثم ابن سينا والفارابي وابن رشد وابن الهيثم وابن طفيل وغيرهم من الجهابذة الأعلام، الذين وسعوا دائرة هذه العلوم في الإسلام، فأكسبوا أمتهم فخرًا بين الأقوام، ومجدًا لم يزل حديثه موضوع الكلام لدى الخاص والعام، فإن كان هذا الذنب ونحن في البداية، فنعم الذنب ونعمت الغواية، نسأل الله أن يمدنا فيها بالعناية حتى النهاية، لكن لا لوم ولا عتاب، فقد انتقد المنتقدون قبل أن يتبينوا، وهاهم اليوم أدركوا كنه المقصود، فصاروا - جزاهم الله خيرًا - من المساعدين بعد أن كانوا من المثبطين، ولذلك لم تفتح دروسنا منذ شهرين إلا وتقاطرت عليها أفواج الطلبة من كل حدب، وفيهم من أحرز رتبة التطويع بالجامع الأعظم دام عمرانه، وكثير من طلبة المطولات وفيهم من هم دون ذلك ولجميعهم أفكار وقَّادة وقابلية كبرى للتحصيل. وهنا لابد من الاعتراف بأن الفضل في ذلك راجع إلى السادة العلماء الأعلام، هداة الأنام، إذ عن إشارتهم حققت الآمال بهذا الإقبال. أما عدد الطلبة المثابرين اليوم على دروس الخلدونية فمعدله مائة وخمسون، جعلناهم ثلاثة أقسام، مع المحافظة على الشرط الذي التزمناه من عدم التداخل في الأوقات بين ساعات التعليم هنا وساعات التدريس بالجامع الأعظم، فجاء التقسيم على الصورة الآتية: القسم الأول: معدل تلامذته عشرة، ودروسه من الساعة الخامسة إلى الساعة السابعة مساء بالتعديل العربي، وهذا القسم مؤلف من تلامذة الخلدونية من حين نشأتها فكانوا بذلك على درجة حسنة في التحصيل إذ قد أتموا فن الجغرافية السياسية والطبيعية لأقسام الأرض الخمسة، مع تفصيل الجغرافية التونسية والإلمام بجانب مهم من الجغرافية التجارية والتاريخية، كما درسوا أيضًا دراسة إتقان فن الحساب بجميع عملياته صحيحًا وكسرًا، وجميع قواعده المحتاج إليها في المعاملات، وحساب المكاييل والمقاييس الجاري بها العمل في هذا القطر. ودرسوا ما به الحاجة من المساحة والهندسة العملية، وهم الآن بصدد تعلم الهندسة النظرية بحيث يمكن أن يقال: إن هذا القسم أحرز المطلوب (إلا في التاريخ) للتحصيل على شهادة الترشيح غير أن إقبال تلامذته على العلوم النافعة سما بهم إلى حب الترقي والتقدم، ولذلك جُعل لهم درس في الجبر وعن قريب إن شاء الله توضع لهم دروس في التاريخ العام وفي قياس المثلثات وما يلزم لتعاطي الرياضيات من اللوغر ثم استخراج الجذور. القسم الثاني: من مُضي ساعة إلى ساعتين بعد الزوال، ومعدل تلامذته مائة وعشرون وهؤلاء باشروا الدروس منذ شهرين فأتموا جغرافية أوروبا وآسيا وإفريقيا، وهم الآن بصدد الجغرافية التفصيلية للبلاد التونسية، ودرسوا من الحساب عملياته الأربع للأعداد الصحيحة والكسرية: الأعشارية والاعتيادية، مع ما يتبعها من التمرينات وحل المسائل الحسابية، وبعد قليل يشرعون في الهندسة العملية ثم التاريخ. القسم الثالث: من الساعة السابعة إلى الثامنة، ومعدل تلامذته أربعون وهي كالقسم الثاني في التحصيل. هذه هي الدروس الرسمية وما عداها جعلنا مسامرة طيبة في كل أسبوع ودرسين أسبوعين في اللغة الفرنسوية ودرسين للترجمة. وبما تقرر يظهر لسيادتكم أن لجنتكم لم تألُ جهدًا في ترتيب الدروس على وجه كافل إن شاء الله للحصول على المقصود من بث مبادئ المعارف النافعة تدريجيًّا بين نجباء هذا القطر وعلى الله الاتكال في بلوغ الآمال. وقبل الختام أستسمح سيادتكم في إسداء عاطر الثناء لإخواني أعضاء اللجنة الذين شاركوا فيما شرحناه لكم من الأعمال وأخص منهم بالذكر الفاضلين الأكملين: سيدي العربي العنابي كاتب اللجنة، وسيدي عبد العزيز الحيوني حافظ ماليتها على ما أظهراه من الحزم والاجتهاد واختلاس نفيس الأوقات للقيام بما عُهد إليهما من الكتابات والحسابات، وفقنا الله جميعًا إلى خدمة الأوطان بما تقتضيه حالة الزمان اهـ. ثم تلا الرئيس أمين صندوق الجمعية الفاضل السيد عبد العزيز الحيوني فبين دخل الجمعية في هذا العام وهو بحساب الفرنك ٣٩٦١.١٦ وبين نفقاتها وهي بحساب الفرنك أيضًا ١٤٩٨.١٤، وقد فصل ذلك تفصيلاً. فنسأل الله تعالى أن ينجح مساعي هذه الجمعية المفيدة، ويجزي أعضاءها الكرام وكل من يساعدها ويعضدها أفضل الجزاء بمنّه وكرمه. *** (الاحتفال السنوي لإعانة التلامذة الفقراء) ذكرت جريدة الحاضرة الغراء خبر الاحتفال السنوي لإعانة التلامذة الفقراء في المكاتب، وأنه كان في هذه السنة على أحسن حال إذ أقبل على المشاركة فيه سمو الباي المعظم وولي عهده الأكرم وسائر آل بيته الكرام، وكذلك أولو الحل والعقد من الفرنساويين والتونسيين. وذكرت أن حضرة الأمير سيدي محمد الناصر باي تفضل فوق الإعانة المالية بإعارة آلة ناطقة (فونغراف) لتفكهة من حضر الاحتفال من الذين لا يعرفون هذا المخترع العجيب، وقد ابتهج القوم لحسن منطق الآلة بالألحان والأغاني والأناشيد التي من ألطفها أبيات لحضرة العلامة الفاضل سيدي سالم بو حاجب نظمها عن لسان حال الآلة فأنشدتها الآلة بمقالها، مطلعها: لكم يا سادتي أهدي سلامي ... وأبدي سر صنع ذي اكتتام فهل قبلي رأيتم أو سمعتم ... جمادًا يستميلك بالكلام يشافهكم بألفاظ فصاح ... ويسليكم بنثر أو نظام ومنها: فهذا كله رمز لحالي ... ومنه غدا المعمى ذا انفهام ولا تتعجبوا فالكون تبدو ... بدائعه على طول الدوام وأصل جميعها العرفان كم قد ... تيقظ أهله غب المنام وكم نفعوا العباد بما أبانوا ... وما أدراك ما نفع الأنام وكم قالوا وقلتم ذا محال ... وبعد الكشف صرتم للوئام فأهل العلم أهل أن يقولوا ... لمن يعزو لهم طيش السهام إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذامِ