(٢) ما هو الحُسن؟ قد عرفتم بالذي قلناه في تعريف الحسن ما هو الحسن، وبقي أن أقول - لأجل تذكير القارئ بأصل الموضوع - إنه هو الزينة من غير نظر منا إلى الفرق بين الحسن الذاتي والحسن الصناعي. (٣) ما هو الاستحسان؟ هو انبساط النفس لذلك الشيء الذي وجدت فيه ما يناسبها. ليست الصعوبة في تعريفه بهذا الرسم وإنما الصعوبة في معرفة أن الاستحسان يحصل للمرء بالبداهة أو بالنظر والتأمل وقد سبق شيء من الإشارة إلى هذا الأمر ولكني لا أراه مستغنيًا عن زيادة الشرح. أما استحسان بعض المحسوسات فيحصل للبعض بالبداهة وتعقبه محبة. ولهذا السر ظن البعض أن الحب يكون اضطراريًا على أن هذا السر وإن بقي غامضًا لا يُثبت هذه النظرية بمثل هذه الحوادث الفذة لثبوت ضد هذه النظرية ببراهين حسية وعقلية معًا. وأما استحسان كل المعقولات فمن أهل التفكر نتيجةُ نظرٍ وتأملٍ، ومن أهل التقليد نتيجة ثقة بالمقلدين. والأولى أن لا يعد استحسان هؤلاء استحسانًا لأننا إذا أدخلناهم في صف مَن لا فكر لهم من المخلوقات لم نكن عملنا غير الصواب لأنه هو المطابق لروح الواقع ونفس الأمر. (٤) ما هو حب المستحسن؟ تقدم تعريف الحب وليس سؤالنا عن تعريفه بل عن ذلك السر المودع في طبيعة النفس من محبة أشياء تعتبرها جميلة. ولعل ذلك السر هو شوقها الطبيعي إلى ما وراء جسمانية المادة وما يلحقها من الجمادية المحضة. (٥) لماذا نستحسن؟ هذا السر مودوع في نفوس الخاصة والعامة من بني النوع ولمّا أوتينا المزية العظيمة التي تسمى (الإرادة) أراد الفاطر أن تتجلى فينَا ظاهرة باهرة فانقسمت الأشياء في نظرنا كافة إلى ما تتوجه نحوه إرادتنا وهو ما نستحسن وإلى ما تنصرف عنه وهو ضده. فهذا هو السر في كوننا نستحسن. (٦) لماذا نحب الحسن؟ يظهر بالذي قلناه سر حبنا الجميل ونزيد عليه علة لا يتوقف في فهمها إنسان وهو أننا نحب الحسن لنعمل. فلولا ذلك لقنعنا بما تنبت الأرض من كلأ، وما تفيض به من ماء، ويظهر من ملاحظة سير الماضين والغابرين، وسنن الوجود في الأولين والآخرين - أننا لم نخلق لمثل هذا بل خلقنا لأسرار عظيمة لا تظهر فينا إلا بحبنا الحُسن والحَسن. (٧) لماذا نختلف بالاستحسان؟ إذا كنا نحب الجميل لنعمل فنحن نختلف بالاستحسان لتختلف أعمالنا. على أن لاختلافنا في الاستحسان عللاً أخرى منها اختلاف الأمزجة. وبيان السر في اختلاف الأمزجة لا يبعد عن صدد علمنا هذا ولكنه قد يبعد عن صدد هذا الفصل أو قد يبعد بنا عن الغاية التي أشرفنا عليها. وكذلك لاختلافنا في الأعمال علل أخرى ولكن الذي ذكرناه هو من أقدم الأسباب. (٨) ما هو عشق المستحسنات الذي يميل بكل نحو مستحسن فيغرم به؟ يبقى علينا سؤال عن أمر آخر غير الحب المعتاد وهو العشق الذي مبلغ العلم فيه أنه أعظم درجات الحب ومنتهاه. والجواب على ذلك في غاية السهولة وهي أن النفوس قوابل، والواردات عليها فواعل، وبعض النفوس أشد قبولاً وانفعالاً لِمَا تعرضت له من الواردات فيصيبها العشق الذي هو أعظم الحب في حين أن كثيرًا من أخواتها اللائي يتعرضن لمثل ما تعرضت هي له لا يصيبهن إلا الحب البسيط وكثيرًا من غير أولئك لا يصيبهن شيء ما. هذا، وإن فيه لبلاغًا في بيان الموضوع، وكشفًا لبعض السر المودوع، ويحار فيه من لم يرد من البيان مشارعه، ولم يذق من التقرير مشاربه، وأولئكم ليسوا من أهل (المنار) ، ولا عليهم في مثل هذا الكلام المدار وحَسْبُ أولئكم مما تقدم أن يسمعوا هذه الخلاصة: (لولا حب الزينة لَمَا كان من حاجة إلى أكثر الصنائع. ولولا كثرة الصنائع لَمَا توفرت أسباب الاجتماع. ولولا الاجتماع لَمَا تبدلت الأفكار. ولولا تبادل الأفكار لما حصلت المعارف الإنسانية. ولولا المعارف الإنسانية لكانت حياة الإنسان كحياة البهائم) . ولو شئنا لشرحنا هذا الكلام بفصول كثيرة ولكننا تقللنا منه بما سبق، وفي هذا الترتيب الذي وضعنا وضوح تام، وللعمرانيين ههنا شركة في البحث والبيان، وتركنا لهم وظيفتهم التي هي البناء بعد أداء وظيفتنا التي هي الأساس. ولكيلا يفوتنا النصيب من تصحيح أفكار أولئك الذين نعلمهم ناقمين على حب الزينة ونعلم أنهم سينقمون منا تمثيلنا حب الزينة هذا التمثال الذي ستراه البصائر فخيمًا. وكأني بهم رافعين عقيرتهم يقولون هل: يجني الناس منه إلا الدأب والكد العمر كله في طلب الفواني، وهل في سبيل هذه المحبوبات التي لا تنتهي إلا الوقوع في أنواع الرزايا المعروفة؟ لكيلا يبقى هذا الاعتراض بلا جواب نقول: إن الذي قلناه هو وصف لأمر واقع على سبيل العموم والشمول لا حث وحض على حب الزينة، وأن الذي نعلمه أن ذلك الأمر الذي وصفناه طبيعي لا يصده عن النفوس أن ينقم الناس عليه كما أن الأكل مهما سببناه لا نستغني عنه، ثم إننا نعلم أنه لا يقول ذلك القول إلا واحد من ذينك الاثنين الضدّين المتسفّل في دركات العواجز من الحيوانات التي تكره الحركة وتهوى السكون، والمتسامي بعقله إلى ما فوق الفواني المتجافي عن الزوائد من مقومات الحياة الماديّة تشوُّفًا إلى المعقولات العالية. ومن عجبٍ أن يتَّحدا في قولهما مع اختلافهما في نيتهما. ولم يكن ذلك إلا لأن الثاني فاتته حكمة الاعتبار بأصل الفطرة وسرها، وفاته النظر إلى الواقع ونفس الأمر، ولم يبق علينا إلا أن ننظر هل يجوز لنا أن ننهى عن حب الزينة والجمال؟ والجواب: لا يجوز لنا ذلك لأنه لا يجوز لنا أن نحاول العبث. وهذا هو وجه الحقيقة الذي لاح لأهل علمنا فشهدوا كما رأوا. وعلماء العمران ستراهم يقيمون أشد النكير على رجل يقول بجواز النهي عن حب الزينة. ونحن في أمن من هذا لعلها (الوغى) لأننا لا نزيد على قولنا: (إنه لا يفيد) وليس في هذا القول مصادمة لقاعدة أن الحب يدخل تحت (نظام) لأننا لم نخرجه عن النظام بهذه الكلمة ولكن الآخرين يريدون أن يخرجوه عن الوجود لا عن النظام فقط ويوضح هذا مثال: (إذا قلنا لا يجوز النهي عن الأكل مطلقًا لأنه لا يفيد؛ إذ هو أمر بتغيير الفطرة) فلا يفهم أحد قط من هذا الكلام أنه لا يدخل الأكل تحت نظام، فلينظر ذو فكر ما يقول. وقد يذهب ظن القارئ إلى أن محرر هذه الكلمات رجل من غلاة المفتونين بهذه الصور المتحولة الفانية أو تلك المادة الجماد الخامدة، وإني لا أحاسب الناس على ظنونهم ولكن من يحاول التعريف بشيء عن نية صافية يحرص على مقصوده أكثر من ذي أجر وإني حريص أن يأخذ قارئ كلامي بالنصيب الأوفى من علم طبيعة النفوس من حيث المجموع مع مراعاة حالاتها في الاجتماع وحالاتها الشخصية فإني على يقين أن هذا العلم يورث صاحبه سلامة ذوق وسلامة صدر وسلامة فكر ويؤديه إلى الاعتدال الذي هو محور نظام الإصلاح. ومن أجل ذلك أذكِّر القارئ بما استحفظته إياه في صدر الكلام ومنه يعلم أن قليلاً من التدبر يكشف عوارِ كثيرين من الذين كتبوا في الأخلاق والشرائع ويجلي محاسن المحسنين. ومن ههنا أخالف الذين ينهون عن صرف شيء من المال في سبيل حب الزينة، ولا أجد في مذهبهم ذلك رائحة من الحكمة قط؛ بل هو جهل بطبائع الاجتماع فإنه لن يعدم الخاسر ما يستعيض به من الرابح، وإلا لعدم البائع مَن يبتاع. ومن المؤمنين بما قررناه قائل يقول: قد يحتاج الفرد وهو سابح في الأوهام بحب الزينة إلى من ينبهه إلى الأخطار وهو حق ولكن عندي أن يكون المنبه من نفسه في مثل هذه الحالة خيرًا من أن يكون من آخر لنربح في هذا التعود أمرًا هو أعز وأغلى من المال الذي نخسره، ذلك هو التفكر وصدق الإرادة في مباشرة الأشياء، ولا شك بأننا سنلقي أسارى كثيرين في هذه المعارك قد قيدتهم الشهوات الكاذبة بأغلال الخسار، وقذفت بهم الإرادات المريضة في مهاوي الدمار، ولكن أن نعدم أمثال هؤلاء الأسرى وإنْ كثروا خير مِن أنْ نعدَّهم مِن أبطال الجهاد في هذه الحياة. وخير من أن لا نعدهم وكثيرًا ما يختلف طب النفوس عن طب الأبدان؛ لأن أحدها يعالج مرضًا محسوسًا بعلاج محسوس. والآخر يداوي مرضًا معقولاً بدواء معقول ولأطباء النفوس في هذا الباب أدوية - لو استُعملت - شافية ولكن الناس أعاروها آذانًا صمًا، ونريد أن يكون لهم علاج من المحسوسات ذلك ما تعطيه مجاري الأحوال وينتج صحة التفكر وسلامة الإرادة. وآخرون سيقولون لقد أسرف هذا وكاد أن لا يرى في الإسراف شيئًا مذمومًا. كلا، إن الإسراف مذموم عندي كما هو عند الناس كافة ولكن الذين ينهون عنه هو ما دون الإسراف وهو الذي لا أنهى عنه. ولا أريد من هؤلاء أكثر من أن يعلموا أنه لولا أن نصرف المال فيما زين لنا لما وُجد المال، ولكن عِلْمُ هذا صَعُبَ عليهم، ونهوّنه بأنْ نُعلِمهم أن المال ليس شيئًا غير قيمة جملة الأعمال التي يعملها النوع وإذا علموا ذلك فليتذكروا أنه لولا حب الزينة لما كان من حاجة إلى أكثر الصنائع، لولاه لأقفلت أسواق ومصانع يعمل فيها حاج للناس من غير اللوازم الضرورية التي لا تتجاوز ما مثلنا به آنفًا من الغذاء والكساء والإواء. ما إذا زُيِّن لهؤلاء بعض هذه الأسواق والمصانع ودوران فلك الأعمال على هذه الأقطاب الحالية وما داناها في الماضي وما سيفوتها في الآتي فما البأس عليَّ إذا دار الفلك على حسب أحلامهم؛ وإنما البأس على قوم يبلغ بهم الهوس أن يروا الخير والسعادة في أولي السِّير من الحياة وهي سيرة الأُنس بالأوجار والأحجار؛ والفزع من خطور الأشباح وهبوب الأرواح [١] . نتيجة عظيمة وما قررناه أساس متين لبناء نظامي الأخلاق والشريعة. يبنى عليه في الأخلاق ذم جمود النفس الذي من لوازمه نسيان الحظ من الحياة النوعية إلا ما وجدت عليه الآباء. وذم غليانها الذي من لوازمه تجاوز الحدود التي وُضعت لحفظ الحقوق. ومدح الاعتدال. وفي التمهيد نحوت المنحى الذي يفهم منه ذم جمود النفس؛ لأنه الغالب في مشرقنا. ويُبنى عليه في الشريعة الحرية في المطاعم وموائدها، والملابس وأزيائها، والمباني وأشكالها، وغير ذلك من الحاجات اللوازم والتوابع، وكل شريعة لم تُبْنَ في هذه الأبواب على مثل هذا الأساس لا يقوم لها بنيان، ولا يوفق الناس أعمالهم على أحكامها وإن تلوا حروفها، وإذ كانت كل شريعة تنسخ ما قبلها كانت تتقرب من هذا المعنى بحسَب ترقي النوع ولذا كانت الشريعة الأخيرة حائزة هذا المعنى تمامًا. وحرم منها ما يضر بصحة العموم، وما يصادم نفعًا عامًّا أو حقًّا خاصًّا. وما يجمع علماء الأخلاق على مضرته بجوهر النفس وهذا التحريم في الحقيقة معين على صيانتها وحسن التصرف فيها، والمطلعون سيدركون ما وراء هذه الجمل من التفاصيل. ومَن عداهم سيأتيهم التفصيل في مواضع متعددة وحسبُهم الآن أن يتدبروا هذه النتيجة ويفكروا فيها بفكر نقي.
حبُّ التميِّز في الفطرة زيادة على حب الزينة حب التميز فلولا هذا الثاني لبلغنا نهاية فيما نحب من الزينة أو غيرها ولكن هو الذي أبعد الغاية على الطالبين. والذين هم أشد حبًا للزينة هم أشد حبًّا للتميز. وعند التأمل في آثار هذه الطبيعة نجدها ينبوعًا للخيرات والشرور معًا. وهكذا نجد الشر موجودًا دائمًا في منابت الخير ولذلك كان تحصيل الخير في هذه الحياة عناءً كبيرًا كالعناء في تحصيل الحنطة من بين الشوك ثم تميزها من الزؤان بل هو أكبر. ولكن أجر هذا العناء عظيم وهو بلوغ الإنسان كماله المعد له. وقد يقصر حِجَانا الآن عن تصور ذلك الكمال وما مَن يتقدم إلا معاونًا لمن يتأخر. وفي خَلْق الإنسان آيات للمتدبرين، وأسرار للمعتبرين، منها تكريم هذه الصوامت النواطق بلسان الحال عن أن تكون عبثًا؛ إذ على يده تظهر خواصها وفي فكره وبصره يتجلى جمالها المعقول والمحسوس تحقيقًا أو اعتبارًا أو تخيلاً. ولحب التميز الحظ الأوفر في استخدام الفكر في هذه الشؤون فهو الذي يبعث الفكر في عالم المحسوسات والمتخيلات رائدًا يرتاد للنفس ما هو غريب عزيز الوجود مما يود كل أحد أن يقتنيه أو ينتحله. وهكذا كانت زيادة الأول على الآخر وسيكون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب الأولين. والحاصل أن حب التميز ميزان في كفته الواحدة أمر نُسمِّيه حسنة وهو ارتقاء الحياة النوعية. وفي كفته الأخرى أمر نسميه سيئة وهو حرص النفوس على الاستبداد. والناس يفهمون من هذه الكلمة (الاستبداد) أن المقصود به عدم المشاورة وهذا المعنى جزء مما تدل عليه هذه الكلمة التي معناها الحقيقي (نزوع النفس للحرية المطلقة التي من جملتها تقييد حرية الغير وغصبها) وهذا هو وجه شناعته ومن أجل هذا كان عنصر الشرور المادية والأدبية. وقد كدنا أن نيأس لما علمنا أن هذا العِرق الضارب في أعماق الطبيعة البشرية لا يمكن استئصاله بالقلع لولا أنْ تبين لنا أن في إزاء هذا الشوك زهرًا ولولا أنْ ثبت لنا أنه يمكن تخفيف ما ينجم عنه بتتبع الفروع وقطع ما أمكن قطعه منها والربانيون من الحكماء أشد الناس عداوة للذين يستبدون ذلك بما عرفوا من الحق، وبما عطفوا على الخلق، وبما تدفعهم إليه قوة العلم، ومنة العزم. والأخلاقي حسبه أن يذكِّر المُستبدّ بثلاثة أمور لا تفارقه ولا غيره: العجز بالذات، والاحتياج للغير، واستحالة بلوغ الغاية. وأن يذكِّر المُستبدّ عليهم بثلاثة أمور أيضًا: الضعف بانحلال الرابطة، والقوة بالتعاون، الفوز بالثبات والصبر. والسياسي وهو البحَّاث عن كل روابط الاجتماع لا أستكثر منه أن يحمل أوزار الوغى إن استطاع في ردّ كيد المستبدين الذين وضعوا أعمالهم في كفة السيئة من حب التميز وبئس ما اكتسبوا لأنفسهم من البغضاء. وللمُذْعِنُونَ لهم شرُّ مكانًا وأضلُّ عن سبيل الحياة النوعية. وأقرب إلى الهوان من الأنعام وفي هذا بلاغ لعلهم يتذكَّرون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ع. ز. (ثمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))