للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية

(ما يتعلق بالعقود الواردة من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية)
من دفاتر المحاكم الشرعية ما هو مختص بتسجيل العقود التي ترد إليها من
المحاكم المختلطة، ومنها ما هو معدٌّ لذكر ملخصات تلك العقود، وهو عمل من
الأعمال الشاقة التي تستغرق زمنًا طويلاً لعدد من الكُتَّاب في محاكم مصر
والإسكندرية والمنصورة، وقد خصص له في محكمة مصر ستة منهم، وهو يفسد
على كتاب المراكز وسائر المديريات أوقاتهم التي يجب أن يخصصوها لأعمال نافعة
وما من محكمة من المحاكم إلا تشكو منه.
ألزمت الحكومة نفسها بهذا العمل الشاق بما فرضته في لائحة المحاكم الشرعية
الصادرة في سنة ١٨٨٠م في المواد ٩٠ و٩١ و ٩٢، وربما كانت له فائدة فيما
مضى حيث كان يجوز أن تؤخذ صور تلك العقود من سجلات المحاكم الشرعية، أو
كان يتوقف نقل التكليف على ما يَرِد من هذه المحاكم إلى المديريات في شأنها، فكان
في تسجيل تلك العقود تيسير على الناس في أخذ الصور والشهادات، لكن صدرت
بعد ذلك منشورات تمنع إعطاء الصور والشهادات إلا من المحكمة المختلطة التي
سجل فيها العقد، وأذن بنقل التكليف بناء على ما تبعث به المحاكم المختلطة نفسها
بدون حاجة إلى توسيط المحاكم الشرعية، فما معنى بقاء هذا العمل للآن، والحكمة
تميل إلى الاقتصاد في الأشخاص والمواد.
ظن كثير من الناس أن القانون المختلط يحتم ذلك، فحسبت ذلك شيئًا،
وعولت على أن أسأل عرض الأمر على نواب الدول فيما يعرض عليهم لمَحوِه من
القانون، لكن بعد مراجعة القانون لم أجد نصًّا يحدد العلاقة بين المحاكم الشرعية
وأقلام كُتَّاب المحاكم المختلطة إلا ما ورد في مادتي ٣١ و ٣٢ من لائحة ترتيب
المحاكم المختلطة ونصهما (٣١) يعين لكل محكمة من المحاكم الابتدائية مأمور من
طرف الشرع الشريف يشترك مع رئيس كتاب المحكمة في تحرير العقود الناقلة
لملكية العقار والعقود الموجبة لحق امتياز على العقار، ويكتب المأمور بذلك كتابة
يرسلها إلى محكمة الشرع الشريف. (٣٢) يترتب بمحاكم الشرع الشريف كتبة
مندوبون من طرف رؤساء كتاب المحاكم الابتدائية ليرسلوا إليهم صورة ما يقع
بالمحاكم الشرعية من العقود المشتملة على انتقال ملكية العقار أو رهنه، لتسجيلها
بدفاتر الرهونات بالمحاكم الابتدائية بدون توقف على طلب ذلك من أحد، فإن لم
ترسل الصورة المذكورة وجبت التضمينات اللازمة على ذلك، فضلاً عن الجزاء
التأديبي، إنما لا يترتب على ذلك بطلان العقود.
فهاتان المادتان كما لا يخفى على الغبي والذكي، إنما أوجبتا على المأمور
الشرعي لدى المحاكم المختلطة أن يبعث بكتابه للمحاكم الشرعية بما يحصل من
العقود فيها، وذلك ليُحفظ في مجلد خاص بالضرورة؛ لتعرف المحكمة الشرعية
ما حصل من التصرف في العقار لتلاحظه لو جاءها من يريد التصرف فيه، أما إنها
تسجله، فهذا لا دليل عليه، وإن ماجاء في المادة ٣٢ يوجب على قلم الرهونات في
المحاكم المختلطة أن يسجل مايرد إليه من المحاكم الشرعية ويبين العقوبة والعواقب
التي تعقب الإهمال في إرسال الصور من المحاكم الشرعية إلى المحاكم المختلطة،
فعدم ذكر ذلك في المادة السابقة دليل على أن واضع القانون قصد أن لا يسجل شيئًا
مما يرد من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية في سجلاتها، وغاية ما يمكن أن
يحتمه إنما هو المحافظة على هذه العقود في نمر مسلسلة مع فهرست يُمَكِّن من
الرجوع إليها عند الحاجة، ويمكن للمحاكم الشرعية أن تفعل ذلك وتضعه في محافظ
تنتهي في آخر السنة إلى أن تكون مجلدات تودع الدفترخانة مع السجلات.
وما كان لواضع القانون المختلط أن يريد غير ذلك، فإن التسجيل إنما وجب
لما يلحقه من الأحكام المفصلة في القانون المدني، فالذي يرد إلى المحاكم المختلطة
هو الذي يجب أن يسجل فيها ليمكن الاحتجاج به على غير المتعاقدين عندها، بل
ذهب بعض مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية إلى أن ذلك شرطًا مطلقًا، وأن
العقود لا يعتد بها بالنسبة إلى غير المتعاقدين إلا إذا سجلت في قلم كتاب المحكمة
المختلطة حتى بين الوطنيين، وصدر حكم على هذا المذهب بالأغلبية بعدم اعتبار
حجة صدرت من المحكمة الشرعية وسها المأمور عن إرسالها إلى قلم كتاب المحكمة
المختلطة، أو أرسلها ولم تسجل فيه، وهو حكم غير صحيح، ولكنه مبني على هذا
الاعتبار، ثم إنني راجعت ما كتبه بورللي بك في القوانين المصرية، فلم أجد أثرًا
لهذا الإلزام، فلم يبق إلا ما ألزمت به الحكومة نفسها، ومن السهل عليها أن
تتخلص منه بإلغاء المواد المتعلقة بذلك من اللائحة الشرعية القديمة.
وأذكر لبيان ثقل هذا العمل الذي يعد الآن من قبيل اللغو ماورد على محكمة
مصر الكبرى وحدها في سنة ٩٨ وهو خمسة وأربعون ألف عقد أخذ ملخصها ثم
أرسل ما يختص بالعقارات التي في دوائر المحاكم التابعة لها في التوزيع إليها
لتلخص منه ما يرسل إلى المراكز، وتسجل ما يكون من العقار في دائرتها نفسها،
وما سجل من ذلك بالحرف الواحد في محكمة مصر آلاف من هذا، وما ورد عليها
من أول هذه السنة إلى آخر شهر مايو اثنان وعشرون ألفًا وثلثمائة وسبعة وتسعون،
وربا الآن على ثلاثة وثلاثين ألف، وورد على محكمة الإسكندرية من أول يناير
هذه السنة لغاية يونيو اثنا عشر ألفًا ومائتان وستون عقدًا.
ولا حاجة لأن أطيل الكلام في بيان الأعداد، وأكتفي بأن أقول: إن
بعض محاكم المراكز وليس فيها إلا كاتبان: الأول , والثاني يسجل بالحرف الواحد
نحو ألفين وثمانمائة عقد في السنة، ويسهل على النظارة علم ذلك، فكيف يمكن
القيام بهذا العمل من هذه الأيدي القليلة مع بقية أعمال المحكمة، ثم إذا لم تفصل
الحكومة قلم التسجيل وتجعله مصلحة قائمة بنفسها، فعليها أن تعجل بإباحة تسجيل
العقود العرفية في المحاكم الشرعية على نحو ما هو جارٍ في المحاكم المختلطة،
والقانون المختلط لا يمنع ذلك وإنما على قلم الرهونات أن يسجل مايرد إليه من
المحاكم الشرعية، ولذلك يكون العقد حجة على غير المتعاقدين لديها، ولدى المحاكم
الأهلية كما نصت عليه المادة (٣٢) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة التي سبق
نصها، ولو أبيح ذلك لكان فيه تيسير على الناس عظيم، سواء في التسجيل لقرب
المحاكم الشرعية منهم لانتشارها في جميع المراكز، ولسهولة أخذ الصور
والشهادات، ولو فرض فصل قلم التسجيل واستقلاله عن المحاكم، فأرى أن
تكون المحاكم الشرعية من فروعه في المراكز للسبب الذي ذكرته، وإلا احتاج إلى
نفقات كثيرة لا داعي إليها أو بقيت المشقة على الناس كما هي الآن.
(الدفتر خانات)
وجدت في أغلب دفتر خانات محاكم المديريات التي مررت عليها خللاً عظيمًا،
وكثير منها لا يوجد فيه دفتر حاصر لما هو فيها، فلو ضاع شيء منها لا تعلم
على من تلقى المسئولية، ويصعب الوصول إلى معرفة الضائع، ومنها ما هو دشت
لا يعرف لأي السنين هو، وإن ما أنكره جناب المستشار القضائي في دفتر خانة
محكمة مصر يوجد مثله أو مايقرب منه في غيرها، فقد رأيت في بعض المحاكم أن
دفاترها مدشتة في صناديق يعلوها التراب، وبعضها على الأرض والغبار من فوقها
ورطوبة الثرى من تحتها.
وقد اهتمت النظارة بإصلاح الدفتر خانات ووضعها على حالة تمكن من حفظ
ما فيها وتسهل طرق مراجعته، وكلفت المحاكم بالعمل في ذلك، لكن لم يلبث الأمر
أن حصل فيه فتور وتباطؤ لظهور الحاجة إلى أماكن وخزائن وعمال، واقتضاء
ذلك لنفقات لم يكن في ميزانية النظارة ما يفي بها، ولكنها حاجة من حاجات الحكومة
يجب سدها بما يمكن من السرعة، فإلى تلك الدفاتر والأوراق مرجع الناس في
تحقيق الملكية والأنساب والعصم ونحو ذلك، وهي مصلحة من مصالح العامة لا
تنقص في درجتها عن أهم المصالح العليا.
((يتبع بمقال تالٍ))