للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة جمع النفائس لتحسين المدارس

يقول الذين أرسلوا إلينا هذه الرسالة إن السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل
كتبها ليقاوم بها نهضة المسلمين الحديثة لإنشاء المدارس وطلبوا منا أن نبين لهم
رأينا فيها كما ذكرنا ذلك في الجزء الحادي عشر، وقد تصفحنا معظم الرسالة فظهر
لنا أن كاتبها قد كتب ما يعتقد أن النافع كما هو ظننا في سائر مكتوباته وأنه لم يقصد
تثبيط المسلمين عما هو نافع لهم إرضاء للحكام أو لغير الحكام، ولكن الذين فهموا
منها تثبيط المسلمين عما ينفعهم معذورون ولا يسوغ لنا أن نقول إنهم متحاملون.
الرسالة مؤلفة من ثلاثة فصول أولها في العلم والتعليم والمدرسة وبذل المال
لهذا الأمر ونتيجة العلم، وقد جاء في ذلك بفوائد ونصائح لا بأس بها، وإن كان
فيما استدل به أحاديث ضعاف لا يحتج بمثلها، ولا نطيل في ذلك لما جرى عليه
المؤلفون من التساهل في إيراد مثل هذه الأحاديث في فضائل الأعمال ولا سيما
الغزالي - رحمه الله تعالى - ورأيته يذكر في هذا الفصل كغيره السلف الصالح
ويحث على اتباعه ويعد من ذلك قراءة رسائل وكتب أحمد بن زين وسالم بن سمير
وعبد الله بن عاوي الحداد وغيرهم ممن ليسوا من سلف الأمة، وهم أهل القرون
الثلاثة على المشهور فكأنه يعد المتأخرين من أهل حضرموت وغيرهم من السلف
ولا أدري ما هي مزيتهم على علماء هذا العصر في الهند ومصر وتونس، وعندي
أنه لا يعتد برأيه في الكتب النافعة ولا في طريقة التدريس، والفصل الثاني عشرة
أسطر في الاتفاق على العمل وبذل المال له، ولا بأس به، وأما الفصل الثالث فهو
الذي يثبط همّة مَن تَلقَّاه بالقبول على علاَّته لأنه ينفّر المسلمين من كل ما عليه
الأجانب في علومهم وأعمالهم الدنيوية التي بها صاروا أقوى وأعز من المسلمين،
حتى إن دولة صغيرة في شمال أوربا تستولي على أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم
في جنوب آسيا وتتصرف فيهم تصرف السيد في عبيده الضعفاء، ولو عملت الدولة
العثمانية بمثل هذه الآراء لاستولى عليها الأجانب من زمن بعيد ولم تبق للمسلمين
حكومة مستقلة.
ومن بلايا تناقض هؤلاء المقلدين أنهم يحرمون الاستدلال بالكتاب والسنة على
مَن هم أهل له ويبيحونه لأنفسهم مع اعترافهم بأنهم ليسوا من أهله ومن ذلك استدلالهم
بحديث ابن عمر (من تشبه بقوم فهو منهم) على تحريم كل شيء نافع سبقتنا إليه
أوربا، والحديث لا يدل على ذلك على أن سنده ضعيف عند رواته وهم: أحمد
وأبو داود والطبراني في الكبير، وتصحيح ابن حبان له لا يعتد به لتساهله في
التصحيح، ومعناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم فإن التكليف يصير خلقًا بعد
تكرار العمل فيصير بذلك من القوم فيما تشبه بهم فيه فإن تشبّه بهم في الكتب من
أمور الصناعة صار صانعًا مثلهم وإن تشبه بهم في الأعمال الحربية
صار كواحد منهم في ذلك وإن تشبه بهم في كل شيء صار مثلهم في كل
شيء، ولكنه إذا تشبه بهم في بعض الأزياء أو العادات لا يصير منهم في أمور
الصناعة أو الحرب أو الدين، وإذا تشبه بهم في أعمال الدين فقط لا يصير منهم
في السياسة أو الإدارة ولا في الصناعة والزراعة. فالمسلمون في العراق
موافقون لمسلمي مصر في الدين لا متشبهون وهم ليسوا مثلهم في إتقان الزراعة فمن
الجهل الفاضح أن يقال إن من تشبه بآخر في شيء يصير مثله في غيره،
ويتفرع على هذا أننا نحن المسلمون إذا تشبهنا بالإفرنج في الأمور الحربية
والسياسية والصحية وطرق الكسب فإننا لا نكون معدودين منهم في دينهم، وإنّ
في بلادنا مَن هم موافقون لهم في دينهم، وكثير من عاداتهم، وهم مع ذلك ليسوا
مثلهم ولا يعدون منهم في الأمور السياسية والحربية مثلاً.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية
والطيالسة الكسروية (من لباس المجوس) ، ولما أخبره سلمان الفارسي - رضي الله
عنه- إن المجوس يحفرون الخنادق حوْل بلادهم إذا هاجمها العدو أعجبه ذلك،
وأمر بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وعمل فيه بنفسه (بأبي هو
وأمي) صلى الله عله وآله وسلم، فبهذا البيان يظهر خطأ السيد عثمان بن عقيل في
منعه أن يكون في مدارس المسلمين شيء ما يشبه ما في مدارس الأجانب، وخطأ ما
أطالت به مجلة (دين ومعيشت) الروسية في بعض المسائل التي جعلت تكأتها فيها
حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه المدارس النظامية في مصر والآستانة
والشام على طراز المدارس الأجنبية ولم ينكر ذلك أحد من العلماء في هذه البلاد وما
أظن أن السيد عثمان يعد نفسه في طبقة علماء الأزهر.
وقد أورد السيد عثمان في هذا المقام حديثًا آخر وهو (من أحب قومًا حشر
معهم) ، وهذا الحديث أورده الحاكم في المستدرك بلا سند فلا يحتج به ولو كان
الرجل عالمًا بالحديث لأورد ما صح بمعناه وهو حديث أنس عند الشيخين (المرء
مع من أحب) وفي المعنى حديث (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)
رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة وهو ضعيف ولكن حسنه الترمذي
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، والمراد بالحب هنا ما يحمل المحب أن
يتقرب إلى من يحبه ويطيعه ويقتدي به، وما كل نوع من أنواع الحب يحمل على
ذلك، وقد أباح تعالى للمسلم أن يتزوج باليهودية والنصرانية والزوج يجب زوجه
فلو كان معنى الحديث أن كل محب يكون مع مَن أحبه في الدنيا والآخرة لاستلزمت
إباحة نكاح الكتابية كفر المسلم الذي يتمتع بهذا المباح، ولاستلزم ذلك الترجيح بلا
مرجح فيما إذا أحب كلّ مِن هذين الزوجين الآخر كما هو الغالب وهو محال، وأبلغ
من ذلك أن الله تعالى قال في خطاب المؤمنين مع اليهود الذين كانوا أشد الناس
عداوة لهم {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: ١١٩) فراجع
تفسير الآية في ص٨٨ج٤ تفسير القرآن الحكيم.
ومع هذا كله نقول: إن الذين ينظمون مدارسهم على طريقة الأوربيين
ويتعلمون علومهم لا يقتضي ذلك أن يحبوهم، بل نرى من المتعلمين في أوربا مَنْ
هم أشد تعصبًا من غيرهم؟ وقد ذَكَرْتُ هذا لبعض العثمانيين هنا (في الآستانة)
فقال والمتعلمون منا على الطريقة الأوربية كذلك، فالسيد عثمان ليس مختبرًا ولا
عارفًا بهذه المسائل، وقد علمت أن الحديثين اللذين أوردهما لا يدلان على مراده إن
قلنا بأنه يحتج بهما، وما كتبه ضار جدًا وإن أراد به النفع بحسب اجتهاده، وما هو
بأهل الاجتهاد سامحه الله تعالى.
ومِن تهافته أنه بعد أن استدل بالحديثين على مالا يدلان عليه لقلة بضاعته في
العربية على كونها بضاعة مزجاة شَرَعَ يحذر تَرْكَ قراءة كتب السلف الصالحين
والاستعاضة عنها بقراءة كتب التأريخ والجرائد، وذكر من مضارها أنها تورث
العقائد الفاسدة ودعوى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة، وإذا جاز لمثله أن يأخذ
من الكتاب والسنة فعلى من يمتنع ذلك؟ وإنني أنقل شيئًا من كلامه بنصه لئلا يتوهم
بعض قراء المنار أننا نرد على عالم مؤلف أخطأ فكبرنا خطأه أو بالغنا في استهجانه
أنه حصر عيوب المكاتب والمدارس في ثلاثة أشياء وذكر الأولين منها وهما في
المعنى أمر واحد هو التشبه بالأجانب، ثم قال ما نصه وصورة رسمه:
(والثالث من تلك الفواقر والخساير ترك قراءة الكتب التي يقرؤونها السلف
الصالحون التي يكتسبون منها العلوم النافعة وخشية الله والأعمال الصالحة وتبديل
تلك الكتب بكتب التواريخ المختلفة والجرائد المعتنقة التي يُورِثُ في اللسان اللقلقة
وفي القلب العقايد الفاسدة وفي الدين التساهل وتتبع الرخص بل تورث دعوى
الاجتهاد المشبه بخرط القتاد وذم التقليد بلا تقييد ودعوى استقلال الأخذ من السنة
والقرآن مخالفة لما عليه المفسرون الأعيان فما هي إلا كراكبة التان تظن أنها تسابق
الفرسان ومضادًّا لسيرة السلف الصالحين بل استخفافًا بهم بأنواع التنقيص وعنادًا
بالمكابرة والمغالطة والأدلة الساقطة) اهـ.
ولا يحسبن القارئ أننا اخترنا هذه العبارة اختيارًا لركاكتها وكثرة غلطها
ووضوح دلالتها على تجرد صاحبها من الفنون العربية كلها بل جميع عباراته كذلك
وهو مع هذا يستنبط الأحكام من الآيات والأحاديث فيحرم على الناس ما أحل الله لهم،
ويحل لهم ما حرم الله عليه، ولاسيما القول في الدين بغير علم ثم ينكر على
العلماء الراسخين مثل هذا الاستدلال.
هذا وإننا ننصح لأولئك الأبرار الأخيار الذين ينشئون المدارس أن لا يلتفتوا
إلى هذه الرسالة ولا إلى شيء من رسائل هذا الرجل ولْيختاروا لمدارسهم المعلمين
الأكفاء الذين يجمعون لهم بين علم الدين وما يلزم لهم من علوم الدنيا وأنْ
يكون لسان حالهم ومقالهم هو لسان القائلين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: ٢٠١- ٢٠٢) .