للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشعر والشعراء
(١)

الشعر ضرب من ضروب الكلام، يمتاز عن سائره بأوزان وأساليب
مخصوصة وتصرُّف في التخيل، بحيث يؤثر في نفس المنشد والسامع، فيحرك
انفعال النفس، ويؤثر في عاطفتها. ويوجد في جميع اللغات وعند كل الأمم هو
معيار أفكارها، وقسطاس مداركها.
يتوهم قوم أن اشتراط التأثير في النفوس غير صحيح بالنسبة للشعر العربي،
وإنما هو للشعر اليوناني الذي يذكر في المنطق، ومَن وقف على سيرة شعراء
العرب، ولاحظ أغراضهم ومقاصدهم، تجلى له أنها دائرة بين ترغيب وترهيب،
واستماحة واستعطاف، وتشويق وتنفير، وإثارة شجون، وتسهيل حزون وما
أشبهها. يشهد لهذا قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (الشعر
جزل من كلام العرب، يسكن به الغيظ، ويطفأ به النائرة، ويبلغ له القوم في
ناديهم) نعم، إن هذا لا يطابق ما عليه المتطفلون على موائد هذه الصناعة في هذه
الأيام وقبلها بأحوال وأعوام الذين:
يجهلون الصواب منه ولا يَدْ ... رُونَ للجهل أنهم يجهلونا
ولا يوجد عند هؤلاء من الشعر إلا صورته وتَمثاله. فإن كانت صورة الإنسان
تسمى إنسانًا، فأجدر بكلامهم الذي ليس فيه غير الوزن أن يسمى شعرًا. ويُؤذن بما
ذهبنا إليه قول ابن رشيق الذي وفَّى هذه الصناعة الشعرية حقها من البيان في كتابه
(العمدة) كما يعلم من مقدمة ابن خلدون حيث قال من قصيدة:
إنما الشعر ما تناسب في النظم ... وإن كان الصفات فنوناً
فأتى بعضه يشاكل بعضًا ... وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى لو لم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسنًا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه ... والمعاني ركبن فيها عيوناً
إلى أن قال بعدما ذكر المدح ثم الهجاء:
فجعلت التصريح منه دواء ... وجعلت التعريض داء دفيناً
وإذا ما بكيت فيه على العا ... دين يومًا للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وذللت ما كا ... ن من الدمع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبًا جئت بالوعد ... وعيدًا وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه ... حذراً آمنًا عزيزًا مهينًا
وذكر بعضهم مذاهب الشعر في قصيدة قال فيها:
وإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شؤونه
وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... بثبوته وظنونه بيقينه
وأنت ترى أن هؤلاء صرحوا بأن التأثير في النفوس من مقاصد هذه الصناعة
ولك أن تجعل ذلك شرط كمال، وترمي من أَخَلَّ به بالنقص والاختزال.
الشعر ديوان العرب، وينبوع الأدب، وقد ورد فيه من الحديث الشريف (إن
من الشعر لحكمًا) قيل: إن سبب الحديث أن أحد جرحى الصحابة تعسر عليهم
إمساك دمه، حتى جاء حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فأشار بالكافور، وأنه
يمسك الدم أن يسيل، فكان كما قال، فسأله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: من
أين أخذه؟ فقال: من قول امرئ القيس:
فكرت ليلة هجرها في وصلها ... فجرت مدامع مقلتي كالعندم
فطفقت أمسح مقلتيَّ بخدها ... إذ عادة الكافور إمساك الدم
فقاله. ولا يصدّ عن قبول هذا أن إطلاق الحكمة على الطب عرف حادث،
فقد كان يراد من الحكمة العلم النافع، والطب منه بلا خلاف.
كان الشعر عند العرب يتناول جميع معارفهم وحكمهم وأخبارهم، في حروبهم
ومعايشهم وسائر شؤونهم، ولولا الشعر لما تسنى لعلماء الملة ضبط العربية كما
ضبطوها؛ لأن المحفوظ من المنثور قليل لا يفي بالغرض.
إن الصنائع القولية والعلمية تنمو بنمو الأمم، وترتقي بارتقائها. والشعر
صناعة من الصناعات اللفظية، لكنها لم ترْقَ مع رقي العرب في مدنيتهم التي
أفادها لهم الإسلام إلا قليلاً، حتى هبطت من أوج عزها وكادت تندرس رسومها
وتُمحى أطلالها بالكلية، صدمها بعد صدمة اللغة المعروفة صدمة أخرى خاصة بها،
أوقفتها في موقف ضيّق حرج، وهو وصف الأناسي أحياءً (بالمدح والهجاء)
وأمواتًا (بالرثاء) إلى ما يلتحق بذلك من الغزل والنسيب، الذي يستهلون به قصائد
المديح.
وبيان ذلك أن اللسان لما ملكت عليه أمره العجمة الطارئة (وهي الصدمة
الأولى) ، ووضعت الفنون لضبط العربية، صار تحصيل ملكة الشعر عسيرًا،
والعسير لا تتوجه النفس لطلبه إلا بباعث قوي، وتصور فائدة توازي العناء في
تحصيله، ولم يكن يتوقع منتحل الشعر فائدة في غير ما ذكرنا من أنواعه، لما كان
الملوك والأمراء من المستعربين والعجم يسنون من الجائزة على المدح دون سائر
ضروب الشعر التي كان يجاز عليها في أيام دولة بني أمية وصدر دولة بني العباس،
حبًا بالشعر نفسه، وإحياءً لسنة العرب الذين هم من صميمهم، بل كانوا يجيزون
النَّقَلَة والحُفَّاظ، حرصًا على تعرف أخبار العرب وآثارها، وإحياء لغتها. صار
الغرض من الشعر: الكدية والاستجداء (الشحاذة) ، وكثر فيه الكذب (في المدح)
والبذاء (في الذم) ، فأنف منه أهل الهمم، وترفع عنه أرباب المراتب، فهبط
بمنتحليه في مهواة عميقة مظلمة ضيقة.
سنذكر في العدد القابل ما ينبغي أن يكون عليه الشعر والمقابلة بين قديمه
وحديثه.
((يتبع بمقال تالٍ))