للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اتهام ابن تيمية
بأنه قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي ... إلخ

(س١٤) من صاحب الإمضاء في قنا مع كتاب خاص لوكيل المنار هذا
نصه:
سيدي المحترم
سلام عليك وتحية طيبة بمقدار ما للمنار من الفضل على المسلمين قاطبة
وبعد، فأرجو أن تطالع ما أرفقته بهذا - وتوافقني على تقديمه ورفعه إلى
حضرة المصلح العظيم العالم العامل صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا حفظه الله -
حتى ينظر فيه، ويرى ما يراه، وهو الموفق للصواب دائمًا.
وإذا حَسُن لدى فضيلته أن يذكر كلامًا فاصلاً في هذا الموضوع - في المنار
الأغر - كانت الفائدة عامة للناس أجمعين، ومن بينهم من وزع عليهم المهذب في
المدارس.
وأسأل الله أن يطيل عمر السيد؛ ليزداد المسلمون من الارتشاف من بحر
علمه إيمانًا ومعرفة، والسلام عليك ورحمة الله من المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر حلمي
في صحيفة ٧٦ من مهذب رحلة ابن بطوطة - الجزء الأول - الذي طبعته
وزارة المعارف المصرية، ووزعته على تلاميذ المدارس الثانوية ما نصه:
وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في
الفنون إلا أن في عقله شيئًا ... إلخ.
وفي الصحيفة ٧٧ فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع
ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا
ونزل درجة من درج المنبر، فعارض فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ... إلخ.
فهل صح في تاريخ ابن تيمية أن يقول هذا؟ وهل هناك شك في أن قائل هذا
ينسب لله الجسمية، وأنه بذلك انسلخ من الإيمان والإسلام؟
(جواب المنار)
(١٤) اتهام ابن تيمية بتشبيه نزول الله بنزوله في المنبر:
هذه التهمة باطلة قطعًا كما يعلم من كتب شيخ الإسلام وفتاويه الكثيرة في
مسألة الصفات وحديث النزول؛ ولكن يظهر أن لها شبهة أثارتها، فقد رأيت في
بعض الكتب (كتاب الرد الوافر) أو غيره أنه كان يتكلم في حديث النزول وهو
يخطب على المنبر ويقرر مذهب السلف في إثبات كل ما وصف الله نفسه أو وصفه
به رسوله صلى الله عليه وسلم (بغير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل) فقال ما معناه:
إننا نؤمن بنزوله بالمعنى الذي أراده اللائق به بلا تشبيه (لا كنزولي هذا) فزعم
بعض الناس أنه قال: (كنزولي هذا) ؛ لأنه لم يسمع كلمة (لا) وربما كان منهم
ابن بطوطة، ثم أذاع هذا خصومه المخالفون للسلف، ولو صح زعمهم لقامت عليه
قيامة أهل المسجد وأنزلوه عن المنبر مهينًا مذمومًا بكل لسان، إلا أن يقال: إنهم كانوا
موافقين له على رأيه إلا واحدًا منهم هو ابن الزهراء الذي ذكره ابن بطوطة، وكم في
رحلة ابن بطوطة من الأكاذيب والخرافات، ويحتمل أن يكون قال الكلمة في تفسير
المعنى اللغوي، وسننقل عنه تحقيقه لعدم اقتضائه التشبيه.
ولابن تيمية كتاب مستقل في حديث النزول، هو جواب سؤال رُفِعَ إليه
فأطال في الجواب عنه؛ لأن المسألة فرع من عقيدة إثبات الصفات التي أجمع
عليها سلف الأمة بالقاعدة التي ذكرناها آنفًا، وأما نفيها فقد ابتدعته الجهمية
والمعتزلة وغيرهم من المبتدعة، واختلف نظار المتكلمين في تأويل بعضها دون
بعض، وهذا الكتاب مطبوع في الهند وإنني أنقل منه بعض عباراته بحروفها مبتدئًا
بنص السؤال وهو:
نص الاستفتاء في حديث النزول
(ما يقول سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام، وقدوة الأنام، أيده الله ورضي عنه،
في رجلين تنازعا في حديث النزول: أحدهما مثبت والآخر نافٍ، فقال المثبت:
ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. فقال النافي: كيف؟
فقال المثبت: ينزل بلا كيف. فقال النافي: يخلو منه العرش أم لا يخلو؟ فقال
المثبت: هذا قول مبتدع، ورأي مخترع. فقال النافي: ليس هذا جوابي، بل هو
حيدة عن الجواب. فقال له المثبت: هذا جوابك، فقال النافي: إنما ينزل أمره
ورحمته - فقال المثبت: أمره ورحمته ينزلان كل ساعة، والنزول قد وقَّت له رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقال النافي: الليل لا يستوي وقته في البلاد
فقد يكون الليل في بعض البلاد خمس عشرة ساعة ونهارها تسع ساعات، ويكون
في بعض البلاد ست عشرة ساعة والنهار ثماني ساعات وبالعكس، فوقع الاختلاف
في طول الليل وقصره بحسب الأقاليم والبلاد، وقد يستوي الليل والنهار في بعض
البلاد، وقد يطول الليل في بعض البلاد حتى يستوعب أكثر الأربع وعشرين ساعة
ويبقى النهار عندهم وقتًا يسيرًا، فيلزم على هذا أن يكون ثلث الليل دائمًا ويكون
الرب دائمًا نازلاً إلى السماء، والمسؤول إزالة الشبه والإشكال، وبيان الهدى من
الضلال؟
جواب شيخ الإسلام أو جزء منه
(فأجاب رضي الله عنه فقال: الحمد لله رب العالمين، أما القائل الأول الذي
ذكر نص النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصاب فيما قال، فإن هذا القول الذي قال
قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق سلف الأمة وأئمتها
وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول، ومن قال ما قاله
الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله حق وصدق، وإن كان لا يعرف حقيقة ما
اشتمل عليه من المعاني، كمن قرأ القرآن ولم يفهم ما فيه من المعاني، فإن أصدق
الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله
عليه وسلم قال هذا الكلام وأمثاله علانية، وبَلَّغَه الأمة تبليغًا عامًّا لم يخص به أحدًا
دون أحد، ولا كتمه عن أحد، وكان الصحابة والتابعون تذكره وتأثره وتبلغه
وترويه في المجالس الخاصة والعامة، واشتملت عليه كتب الإسلام التي تقرأ في
المجالس الخاصة والعامة كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند الإمام
أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وأمثال ذلك من كتب المسلمين.
لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثله بصفات
المخلوقين، ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك، وإن
أظهر ذلك منع منه، وإن زعم أن الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ في ذلك،
فإن وصفه سبحانه وتعالى في هذا الحديث بالنزول هو كوصفه بسائر الصفات
كوصفه بالاستواء إلى السماء وهي دخان، ووصفه بأنه خلق السموات والأرض في
ستة أيام ثم استوى على العرش، ووصفه بالإتيان والمجيء هي مثل قوله: {هَلْ
يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: ٢١٠) ، وقوله:
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: ١٥٨) ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: ٢٢) وكذلك قوله
تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الفرقان: ٥٩) ، وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذاريات: ٤٧) ، وقوله:
{اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم
مِّن شَيْءٍ} (الروم: ٤٠) ، وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (السجدة: ٥) وأمثال ذلك من الأفعال التي وصف الله تعالى بها نفسه
التي تسميها النحاة أفعالاً متعدية، وهي غالب ما ذكر في القرآن، أو يسمونها لازمة
لكونها لا تنصب المفعول به، بل لا تتعدى إليه إلا بحرف الجر كالاستواء إلى
السماء وعلى العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك فإن الله وصف نفسه
بهذه الأفعال.
ووصف نفسه بالأقوال اللازمة والمتعدية في مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ} (البقرة: ٣٠) ، وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء:
١٦٤) ، وقوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (الأعراف: ٢٢) ، وقوله تعالى:
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} (القصص: ٦٥) ، وقوله تعالى:
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} (النساء: ٨٧) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: ٢٣) ،
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف:
١٣٧) وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (الأنعام: ١١٥) ، وقوله:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (آل عمران: ١٥٢) .
وكذلك وصفه نفسه بالعلم والقوة والرحمة ونحو ذلك كما في قوله: {وَلاَ
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: ٢٥٥) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} (الذاريات: ٥٨) ، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ
رَّحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: ٧) ، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف:
١٥٦) ونحو ذلك مما وصف به نفسه في كتابه وما صح عن رسوله صلى الله
عليه وسلم.
فإن القول في جميع ذلك من جنس واحد، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم
يصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النفي
والإثبات، والله سبحانه وتعالى قد نفى عن نفسه مماثلة المخلوقين فقال الله تعالى:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١-٤) فبين أنه لم يكن أحد كفوًا له، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِياًّ} (مريم: ٦٥) فأنكر أن يكون له سمي، وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَندَاداً} (البقرة: ٢٢) ، وقال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} (النحل:
٧٤) ، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: ١١) ففيما أخبر به عن
نفسه من تنزيهه عن الكُفْوِ والسَمِيِّ والمثل والنِّدِّ وضرب الأمثال له - بيان أن لا
مثل له في صفاته ولا أفعاله؛ فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في
الذات؛ فإن الذاتين المختلفتين تمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما؛ إذ تماثل الصفات
والأفعال يستلزم تماثل الذوات؛ فإن الصفة تابعة للموصوف بها، والفعل أيضًا تابع
لفاعله، بل هو مما يوصف به الفاعل، فإذا كانت الصفتان متماثلتين كان الموصوفان
متماثلين، حتى إنه يكون بين الصفات من التشابه والاختلاف بحسب ما بين
الموصوفين كالإنسانين لمَّا كانا من نوع واحد؛ فتختلف مقاديرهما وصفاتهما بحسب
اختلاف ذاتيهما ويتشابه ذلك بحسب تشابه ذلك)
(فالقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته
ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لكن يُفْهَم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى
موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها، فعلم الله وكلامه ونزوله واستواؤه هو
كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما يناسب ذاته وتليق بها،
ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته، ولهذا قال بعضهم: إذا قال لك
السائل: كيف ينزل؟ أو كيف استوى؟ أو كيف يعلم؟ أو كيف يتكلم؟ ويقدر
ويخلق؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته. فقل له: وأنا
لا أعلم كيفية صفاته؛ فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف. فهذا إذا
استعملت هذه الأسماء والصفات على وجه التخصيص والتعيين، وهذا هو الوارد في
الكتاب والسنة) .
وقال في موضع آخر:
(ثم إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم
والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما
يشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست
مثل هذه حتى قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير
قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} (البقرة: ٢٥) على أحد الأقوال، فبين هذه
الموجودات في الدنيا، وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من
بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد وأحببناه ورغبنا فيه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا
يُقَدَّر قَدْرَها في الدنيا، وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه الله تعالى،
لهذا كان قول من قال: إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله حقًّا، وقول من قال: إن
الراسخين في العلم يعلمون تأويله حقًّا، وكلا القولين مأثور عن السلف من الصحابة
والتابعين لهم بإحسان.
(فالذين قالوا: إنهم يعلمون تأويله؛ مرادهم بذلك أنهم يعلمون تفسيره ومعناه،
وإلا فهل يحل لمسلم أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف معنى ما
يقوله ويبلغه من الآيات والأحاديث، بل كان يتكلم بألفاظ لا يعرف معانيها؟ ومن
قال: إنهم لا يعرفون تأويله. أرادوا به الكيفية الثابتة التي اختص الله بعلمها، ولهذا
كان السلف كربيعة ومالك بن أنس وغيرهما يقولون: الاستواء معلوم، والكيف
مجهول. وهذا قول سائر السلف كابن الماجشون والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم،
وفي غير ذلك من الصفات، فمعنى الاستواء معلوم وهو التأويل والتفسير الذي
يعلمه الراسخون، والكيفية هي التأويل المجهول لبني آدم وغيرهم الذي لا يعلمه إلا
الله، وكذلك ما وعد به في الجنة، تعلم العباد تفسير ما أخبر الله به، وأما كيفيته
فقال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: ١٧) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يقول الله
تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
على قلب بشر) فما أخبرنا الله به من صفات المخلوقين نعلم تفسيره ومعناه ونفهم
الكلام الذي خوطبنا به، ونعلم معنى العسل واللحم واللبن والحرير والذهب والفضة،
ونفرق بين مسميات هذه الأسماء، وأما حقائقها على ما هي عليه، فلا يمكن أن
نعلمه نحن ولا يُعْلَم حتى تكون الساعة، فتفصيل ما أعد الله عز وجل لعباده لا
يعلمه مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل، بل هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك
وتعالى) .
فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر في الخالق والمخلوق أعظم؛ فإن
مباينة الله لخلقه وعظمته وكبرياءه وفضله أعظم وأكثر مما بين مخلوق ومخلوق،
فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق بينهما من التفاضل
والتباين ما لا نعلمه في الدنيا ولا يمكن أن نعلمه، بل هو من التأويل الذي لا يعلمه
إلا الله تبارك وتعالى، فصفات الخالق عز وجل أولى أن يكون بينها وبين صفات
المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن يكون هذا من
التأويل الذي لا يعلمه أحد ... إلخ
ثم تكلم في موضع آخر عن الوجود القديم الواجب، والوجود الحادث الممكن
وصفاتهما، والغلط في القول بالتلازم في النفي والإثبات وضرب له المثل فقال:
(ومثال ذلك أنه إذا قال: النزول والاستواء، ونحو ذلك من صفات الأجسام
فإنه لا يعقل النزول والاستواء إلا لجسم مركب، والله سبحانه منزه عن هذه اللوازم
فلزم تنزيهه عن الملزوم، أو قال: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب.
وكذلك إذا قال: الرضا والغضب، والفرح والمحبة، ونحو ذلك هو من صفات
الأجسام. فإنه يقال له: وكذلك الإرادة والسمع والبصر والعلم والقدرة من صفات
الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل وما يستوي ويغضب ويرضى إلا جسمًا، لم
نعقل ما يسمع ويبصر ويريد ويعلم ويقدر إلا جسمًا، فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا،
وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليس كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته، قيل له: وكذلك
رضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله
واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا) . اهـ.
وجملة القول أن شيخ الإسلام قد بسط في هذا الكتاب وغيره من الدلائل
على تنزيه الله عن مشابهة خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله ما لم يسبقه أحد إلى مثله
مع إثبات ما أثبته لنفسه منها، والمنع من تحكمنا بآرائنا فيها، فإنه مما حرمه علينا
بقوله: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٦٩) .