للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجامع الأزهر
مشيخته وإدارته

كتبنا في الجزء الثاني من منار السنة الماضية (ص ٧٦ م ٨) ما نصه:
ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عُرْضَة للتغيير والتبديل من
الحكام كما نراها في هذه السنين، فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة
مرات في بضع سنين - عزل الشيخ حسونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولي بعده
الشيخ عبد الرحمن القطب فلم يلبث أن عزله حكم المنون، فاختار الأمير للمشيخة
الشيخ سليمان البشري، ثم عزله بمحض إراداته، وولى مكانه السيد عليًّا الببلاوي
بالاتفاق مع الحكومة أو مع أولي الأمر كما يقال، وفي هذا الشهر (أي صفر)
استقال هذا الشيخ ونصب بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة، ثم
ذكرنا استقالة الأستاذ الإمام وبعض أعضاء مجلس الإدارة.
وكتبنا في نبذة أخرى أن الأمير قد اتفق مع الحكومة على أن كل ما يهم
الحكومة من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني: تخريج
القضاة الشرعيين، وأن التعليم فيه لما كان غير كافٍ لتخريج القضاة، عزمت
الحكومة علي إنشاء مدرسة لتخريج القضاة خاصة، ثم قلنا: إنه كثر التساؤل بين
الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة الأزهر مع حرصه علي
إصلاحه، وأجبنا عن ذلك بالإشارة إلي الشغب الذي بلغ في ذلك العهد غايته في
ذلك المكان، فإن بعض الشيوخ الذين يترددون على قصر الأمير كانوا يحرضون
مدرسي الأزهر على الشكوى من شيخ الأزهر ومجلس الإدارة وعدم الخضوع لما
يراد تنفيذه من قانون، وعلى ما هو أعظم من ذلك، وقد اشتهر عند الأكثرين أن
الغرض من ذلك أن يستقيل شيخ الأزهر والمفتي (رحمهما الله) وأن الأمير هو
الذي يريد ذلك، وأكد ذلك ما نشر لذلك العهد في الجوائب المصرية والمؤيد
وغيرهما من الجرائد التي تخدم (المعية) وأهم ذلك مقال في حديث قال صاحب
الجوائب: إنه جرى بينه وبين شيخ من كبار علماء الأزهر وصفه بأوصاف فهم
الناس منها أنه الشيخ عبد الرحمن الشربيني الذي كان بعض بطانة الأمير يحاولون
إقناعه بقبول المشيخة، التي أيقنوا أن الببلاوي مستقيل منها لما اتخذ لذلك من
الأسباب الملجئة، ولما استقال السيد الببلاوي وعين الشيخ الشربيني شيخًا للأزهر،
واحتفل بإلباسه الخلعة بحضرة الأمير ألقى الأمير ذلك الخطاب على الشيوخ وكان
مؤيدًا لروح ما كانت تنشره تلك الجرائد.
كان مدار ذلك الكلام على أن كل ما يهم الأمير وحكومته من الأزهر أن يكون
في أمان وهدوء وبعد عن الشغب والقلاقل، وأن يظل مدرسة دينية كما كان وربما
كانوا يظنون أن سكون الأزهر، وراحة أهله، ورضا كبار شيوخه عن الأمير
وإخلاصهم له هو مما ينتجه جعل الشربيني شيخًا للأزهر؛ لأنه في مقدمة العلماء
الأزهريين الذين يرون وجوب بقاء الأزهر على حاله التي كان عليها في زمان
تعلمهم فيه وترك الشيخ محمد عبده له، وهو الذي يريد تغيير نظام التعليم وزيادة
العلوم والفنون فيه، ولكن جاء الأمر على نقيض ما كان يظن أولئك الظانون؛
فاستاء محبو الإصلاح من أهل الأزهر لترك الأستاذ الإمام لإدارته، كما استاء
عقلاء المسلمين في كل مكان، وأما المحافظون على الحالة العتيقة فقد رأيناهم على
عهد الشيخ الشربيني اشتد استياء من إدارة الأزهر منهم على عهد من سبقه كما
أشرنا إلى ذلك في العدد الماضي، وكثر في هذا كلام الناس وكتابة الجرائد
بالشكوى من حال الأزهر والطعن في علمائه حتى إن بعض الأفندية كتب في بعض
الجرائد اليومية يقول في بيان جهل علماء الأزهر بالدين وفقد الثقة بهم ما عناه أن
الناس لا يقصدون في حل مشكلات الدين والدفاع عنه إلا إلى بعض حملة
الطرابيش، وفي ذلك هضم لغير الأزهريين من حملة العمائم كأستاذة المدارس
الأميرية وغيرهم.
هذا ما ذكَّرنا برسالة كان أرسلها إلينا زعيم النهضة الإسلامية في الهند السيد
النواب محسن الملك خان الشهير بعلمه وفضله يرد بها على ما كنا اعتذرنا به عن
علماء الأزهر تعقيبًا على رسالته التي نشرناها في الجزء السادس من السنة الماضية،
وهي التي أظهر فيها استياءه واستياء مسلمي الهند من ترك الأستاذ الإمام للأزهر،
وطعن فيها بعلمائه طعنًا شديدًا فلم ننشرها في ذلك الوقت لمانع زال، فنحن
ننشرها الآن وهذه هي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وإياه نعبد وإياه نستعين
سعادة الفاضل الحكيم العلامة، دمتم بالعز والكرامة:
سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه النبي
الكريم، وعلي آله وصحبه السادة اللهاميم، وبعد فإنا قد سررنا وتنشطنا بحسن
صنيعكم إلينا من نشر رسالتنا المشبعة الطويلة التي كتبناها إليكم في قضية علماء
الأزهر واستقالة الأستاذ الإمام الكبير محمد بن عبده في مجلتكم الباهرة الغراء التي
صدرت في السادس عشر من شهر ربيع الأول الماضي، وقد سرني أيضًا ما قد
استتبعتم ذلك بانتقادكم الحافل البديع عقيب هذه الرسالة تحامون فيه عن علماء
الأزهر واستفراغكم الوسع بذلك في دفع ما وقع من الغلط والخطأ في الآراء التي
ارتآها الناس فيهم، ولكن الذي آمل من طيب خلقكم وطهارة سريرتكم هو أن تعفوا
عني مما قد تجاسرت في الانتقاد على هذا الانتقاد، فإنه يا أخي ليس فيما أحسب
مما ليطمئن به بال أحد أو أن يفند به ما قد رآه أكثر أهل النظر في هؤلاء العلماء
من أنهم لا يحبون إشاعة العلوم الحديثة، ولا يجوزون لها السبيل والتطريق في
المدارس والكليات، ولا واحد عندي بمقلع عن رأيه ذلك فيهم فيما أحسب. فقد
علمت يا سيدي أن تعسف علماء الأزهر وتعصبهم للعلوم الخَلِقَة البالية وخلافهم
للإصلاح في شئون التعليم والأخذ بالعلوم الحديثة ليس مما يرتاب فيه أحد، فقد
شحنت بذلك الجرائد المصرية كلها، لا سيما مجلتكم الباهرة التي نصَّت على أنهم
لا يجوزون العدول بيسير عن المنوال العتيق الذي يجري عليه نصاب التدريس في
الجامع الأزهر، ويتحرجون في تشكيل صناعة التاريخ والجغرافيا في نصاب
الدرس الحاضر، فما ظنك بالعلوم العالية الإفرنجية، وما هي فيه من المنهاج الجديد
في أرض أوروبا، أفحسبت يا سيدي أن الذين لا يزالون يقرءون ويتلون الجرائد
المصرية ولا يَفْتُرُونَ عن مطالعة جريدتكم الغراء ليلاً ونهارًا أفتراهم يقلعون عن
رأيهم في شأن هؤلاء العلماء؟ أم ترى أن اعتقادهم في هؤلاء فيما أفديتم بنفسكم بأنهم
يعتقدون بأن العلوم الدنيوية تقوض بناء الدين وتفسد العقائد في قلوب المسلمين،
وأن إصلاح طريقة التعليم خروج عن صراط السلف المستقيم، أفترى أن هذا
الاعتقاد منهم يزول أو يحول أو يضمحل بشيء عن قلوبهم مما كان عندهم من قبل،
أما تراهم يوافقونك في قولك، وكل هذه الظنون فيهم باطلة كلا ولا كرامة وحاشاهم
عن ذلك.
فأما أنتم فلعمري لم تألوا جهدًا في المحاماة عن هؤلاء العلماء، وأتيتم في بيان
ذلك بحجتين وكلتاهما ننتقد عليهما وننظر في وزنهما ورجحهما على منهاج أصحاب
النظر، أما الحجة الأولي فقولكم: إن من أصحاب الدرجة العلمية الأولى فيهم من
يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية وغيرها، وأما الأخرى فقولكم:
ولا يطعنون بدين أكابر أمرائهم، وهم قد تعلموا هذه العلوم في مدارس مصر
وأوروبا، ولكن هذا الكلام منكم لا يجديهم نفعًا ولا يحامي أو يذب عنهم بشيء، فقد
عرفتم ما هو من ديدن علماء هذا العصر أنهم يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا
يقولون، وهم الذين قال فيهم الشاعر العارف الحكيم مصلح الدين السعدي الشيرازي
وهو من معاريف الشعراء ومشاهير أهل النظم - قال:
ترك دنيا بمردم آموزند ... خويشن سم وغله اندوزند
يعني بذلك أنهم يعلمون الناس ويحملونهم علي رفض الدنيا وترك زخارفها،
وهم بأنفسهم يكنزون الفضة ويحتكرون الطعام لأنفسهم [*] ومن دَيْدَنِهِم أيضًا أن لا
يطعنوا بشيء على الأمراء والولاة كيما لا يُحْرَمُوا من صِلاَتِهِم ولا ييأسوا من
استجلاب خيرهم ومبراتهم، بل وإنا نراهم يوافقون العامة في بِدَعِهم ولا يشنِّعُون
بشيء على أفاعيلهم، ويشاركونهم في الأحداث الفظيعة التي يأتون بها في الدين،
فنراهم لا ينكرون عليها، بل يعاضدونهم بموافقتهم ومشاركتهم فيها، وشاهد ذلك
قولكم في هذه النمرة التي صدرت في السادس عشر من شهر ربيع الأول الماضي
(فمشايخ الأزهر يقرءون في كتب الحديث نهي الشارع عن بناء القبور واتخاذ
المساجد عليها واتخاذها أعيادًا وتعظيمها، ثم إنهم يشاركون العامة في هذه الأعياد
التي يسمونها موالد على ما فيها من المنكرات التي نهى عنها أئمتهم في الفقه، ثم
إنهم يقرءون في شمائل نبيهم أنه كان يسدل شعره الشريف ويفرقه وهم ينكرون على
من يفعل ذلك من أهل العلم والدين، وقد أمرني بذلك بعضهم، وكان شيخًا للأزهر
قائلاً: إنك من أهل العلم لا يليق بك أن ترسل شعرك فاحلقه فحججته بالسنة فحاجني
بأن ذلك شعار العلماء الآن) وقد صرحتم قبل ذلك بشيء في قولكم ص ٢٢١ من هذه
النمرة الحاضرة (وإنما صرح العلماء بكراهة حلق الرأس وكونه مخالفًا للسنة؛
لأنه كان في الصدر الأول شعار الخوارج، فأما إذا أخذنا بإطلاقهم كان اللوم في
ترك هذه السنة موجهًا في هذا العصر إلى علماء الدين فإنهم يحلقون، بل ينكرون
على من لم يحلق وهم مخطئون) .
هذا أم كيف يوافقكم أحد في قولكم: (ظلم وألف ظلم لعلماء الأزهر أن يقال
فيهم: إنهم يعدون علوم الدنيا خطرًا على الدين أو عائقًا عن علومه، وإنهم يجهلون
أن الإسلام جمع بين مصالح الدارين) إلى آخره.
وقد سلف منا مرارًا أنا قد رأينا في الجوائب المصرية أنها قالت في شأن
رجل عظيم من العلماء: إنه محترم المقام بين علماء المسلمين، يُجِلُّه كبيرهم
وصغيرهم لعلمه وفضله ويعدونه حجة وقته وإمام زمانه في علوم الدين وأصول
الشريعة، فهذا العالم الجليل الذي ترأس العلماء في عصره، ومن رأيه ما يقول
لمدير الجوائب ما تلك ألفاظه (غرض السلف من تأسيس الأزهر إقامة بيت لله يُعبد
فيه، ويطلب فيه شرعه، ويؤخذ الدين كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضوان الله
عليهم ... وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به ولا
ينبغي له) ولما راجعه المدير واستحفاه بالسؤال قائلاً: (هل حدث يا مولاي ما
يقف للأزهر في الخدمة المطلوبة منه؟ فتبسم الأستاذ ثم قال: بل إن الذي من
شأنه أن يهدم معالم التعليم الديني ويحول هذا المسجد العظيم إلي مدرسة فلسفة
وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره في هذا البلد وغيره من البلاد الإسلامية، إلي
آخره) وتجاهر في آخر كلامه متظاهرًا قائلاً: (إن الأزهر إنما وجد لحفظ الدين
ونشر علومه ليس إلا، وليتركوه كما هو حصن للدين وإن أرادوا به إصلاحًا فليكن
الإصلاح منحصرًا في حفظ صحة الطلبة والسهر على راحتهم وتقديم الغذاء الصالح
لهم، وما سوى ذلك من مبادئ الفلسفة والعلوم الحديثة العالية فلتدخله الحكومة إن
شاءت على مدارسها الكثيرة التي هي في حاجة ماسة إليه.
أم كيف نصدقكم في قولكم هذا وإنا نرى هؤلاء العلماء قد ثاروا وشغبوا الناس
وأثاروا في إصلاح الأزهر بما اضطر الخديوي إلي إخماد الفتنة، وخاطب شيخ
الجامع الأزهر قائلاً: (إن الجامع الأزهر قد أسس وشُيِّدَ على أن يكون مدرسة
دينية إسلامية تنشر فيها علوم الدين الحنيف في مصر وجميع الأقطار الإسلامية)
ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولما كان يخال
أن هؤلاء الرهط الذين يرومون الإصلاح كلهم مفسدون قال فيهم: (أول شيء
أطلب أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر الشريف والشغب بعيدًا عنه
فلا يشغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد
وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء، ومن كان يحاول بث الشغب
بالوساوس والأوهام أو الإيهام بالأقوال أو بواسطة الجرائد والأخذ فيها فليكن بعيدًا
عن الأزهر، ومن كان أجنبيًّا من هؤلاء فأولى به أن يرجع إلي بلده ويبث فيها ما
يريد من الأقوال والآراء المغايرة للدين ولمصلحة الأزهر والأزهريين) [١] .
فهل في الوجود أحد يقف على هذه الأحوال ويعرفها حق المعرفة ثم يرتاب
في أن هؤلاء العلماء أكثرهم لا يجوزون الإصلاح في المنهج القديم للتعليم،
ويحسون أن العلوم الحديثة بأسرها مطفئة لنور الإسلام، ولعمري إن هؤلاء العلماء
هم الذين اتخذوا جامع الأزهر الذي كان من حقه أن يكون رحمة وبركة للمسلمين
مركزًا للنكبة وموطنًا للمذلة ومعقلاً للمتربة وموضعًا للمسغبة، ولو نظرت إلى
العلوم التي تدرس فيها لوجدتها بأسرها علومًا بالية عتيقة اتخذها المقلدة من العلماء
علومًا دينية، ولا تجد فيها إلا تلقينَ نُبَذٍ من المسائل التي تشمئِز منها العقول وتمج
قبولها أحلام الفحول، وذلك من أجل مخالفتها لقواعد الحكمة وأصول الفطرة، ولا
يوجد فيها غير تعليم ما عداها من المطالب التي لا تستنير بها أدمغة الرجال ولا
يتسع بها فضاء علمهم ومعرفتهم، بل يتركز بها التقليد في تخوم قلوبهم، وقد امتلأ
القرآن العزيز بذمه وشُحن الكتاب المجيد برَدِّه، وجلَّ همتهم في أن يحمل الناس
على منهاج يعتقدون أن الإسلام بدع هذه البدع، ونفس الأحاديث التي ليست بأدون
من أحاديث خرافة، بل عين الشرك الجلي فضلاً عن الشرك الخفي، وإنما جهدهم
في المنع عن تعليم صنعة تنفعهم بشيء إما في الدنيا أو في الدين.
هذا شيء من حالهم في تعليم العلوم، فأما سبل التعليم ومنهاج تدريسهم ونظم
الأمور فيه فأمره أشهر من أن يُذْكَر وأبين من أن يُوَضَّح، ولقد تفجع له بعض
فضلاء الهند الذي كان حالاًّ بالقاهرة، وكتب في ذلك كتابًا إلى (حيدر أباد)
عاصمة (دكن) ولقد نشرتموه في الجزء العاشر من المجلد الخامس من مجلتكم
المنار، وبعد ذلك فهل تحسبون أنا نحسن الظن بهؤلاء العلماء ونضعهم في ميزان علماءنا السلف الذين مضوا إلى رضوان الله: كالإمام الغزالي وابن رشد الأندلسي
والإمام ابن الخطيب الرازي وغيرهم، فقد كانوا يعتقدون أن العلوم الكونية والعقلية
عين هذه العلوم الدينية، وكانوا يحضون المسلمين ويحثونهم ويحرضونهم على
تحصيلها في تآليفهم وكتبهم وأسفارهم وزُبُرِهم التي كانوا يعملونها لنشر تلك العلوم
ويخاطبون فيها إخوانهم المسلمين قائلين: (معاشر الخلان إني آنست نارًا في وادي
هذه الفنون آتيكم منها بخبر أو قبس لعلكم تصطلون) أَوَلَيس هؤلاء العلماء قد عثروا
على قضية عمر بن حسام فيما أخرج الخبر به الإمام الرازي في التفسير الكبير
من أن عمر بن حسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري فقال بعض
الفقهاء يومًا: ما الذي تقرؤونه، فقال: أفسر آية من القرآن وهي قوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} (ق: ٦) فأنا أفسر كيفية
بنائها، ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار
مخلوقات الله تعالى كان أكثر علمًا بجلال الله وعظمته، انتهى كلام الرازي
بعيون ألفاظه.
أولم يعثر علماء الأزهر على فصل المقال للحكيم الفيلسوف القاضي أبي
الوليد ابن رشد (الذي) نص فيه على وجوب معرفة الموجودات والعلم بحقائقها
من جهة الشرع، وأن القرآن العزيز قد أمرنا بذلك أمرًا أكيدًا في كثير من الآيات.
وكتب في آخر ذلك ما تلك عيون ألفاظه: (وقد تبين من هذا أن النظر في كتب
القدماء واجب بالشرع، وأن من نهى عن النظر فيها فقد صد الناس عن الباب الذي
دعا الشرع منه الناس إلي معرفة الله وهو باب النظر المؤدي إلي معرفته حق
المعرفة وذلك غاية البعد عن الله تعالى ... ) أولم يدر هؤلاء العلماء أن الإمام
الغزالي كان من قوله في علم الهيئة فيما نقل عنه الفاضل عصمة الله في التصريح
شرح التشريح للشيخ العلامة بهاء الدين العاملي من أنه من لم يعرف الهيئة
والتشريح فهو عِنِّين في معرفة الله، وأعظم من ذلك كله الأثر المأثور المشهور عن
سيدنا علي فيما أشار به على سيدنا عمر رضي الله عنه بعدم إحراق خزانة الكتب
بالإسكندرية قال: إنها علوم ليست تخالف القرآن العزيز بل تعاضده وتفسره حق
التفسير لأسراره الغامضة الدقيقة وهو معروف عنه، وقد أخرج الخبر به مفصلاً
الحكيم المؤرخ الإسلامي القاضي الصاعد الأندلسي في طبقات الأمم فيما نقل عنه
العلامة المحدث ابن عيش القرشي التيمي في بعض مقاطع القسم الأول من الجزء
الأول من كتاب (الكشف عن الغثاثة) فليرجع إليه.
هذا وإنه لن يذهب عنا الأسف والكمد الذي نجده في أنفسنا من جهة قضية
الخديوي وآرائه ومن جهة الحال التي نحس في علماء الأزهر، ونحن بهذا العصر
في حاجة إلي مثل الرازي والغزالي وابن رشد الأندلسي وأمثالهم من العلماء، ومن
كانوا في ميزانهم في الدهر الحاضر مثل الأستاذ الكبير محمد بن عبده وأضرابه
الذين يضيئون العالم بنور الدين وضياء الإسلام ويُبَيِّنُون للناس ومن في قلوبهم
مرض وزيغ عن الحق أن الديانة الإسلامية كلها تطابق العقل والفطرة حذو القذة
بالقذة، وأن العلوم الكونية بِأَسْرِها في الأصل علوم دينية يجب على المسلمين
تعليمها والأخذ بها وتعلمها، فيخرجوا بذلك عن قعر الذل وغيابة الهوان والصَّغَار
التي أُلْقُوا فيها وهم صاغرون، وقد لزم الإسلام بهم عارٌ قَبُحَ به منظره وساءت
بذلك هيئته وهم يظنون من أجل ذلك أن الإسلام هو الرادع للناس عن التمدن
والارتقاء في معارج العز والاعتلاء، فأما نحن فلسنا في حاجة إلي أمثال هؤلاء
الذين يقولون: إن العلوم الحديثة مطفئة لنور الإسلام ومخمدة لناره ومطمسة لآثاره
ومجلية له عن عقر داره ومحله وقراره.
أَوَلَيْسَ أن الحال التي انتهت إليها هيئة المسلمين مما يتضاحك بها الأعداء
ويتصارخ لها الأولياء بالعويل والبكاء، وتسْكَاب الدماء، أَوَلَيس تراكمت على
المسلمين سحائب الذل والهوان، وجلَّلَتْهم غياهب العدم من كل جانب ومكان، أي
نقطة في الوجود من نقاط الأرض يكون فيها من حال المسلمين ما لا تتصدع
لها القلوب، وتتفطر بها الأكباد، وتجود لها المحاجر والآماق بأنهار الدماء السائلات
وتنسكب لها قاني الأمطار من المقل الغائرات، وخرجت الممالك من أيمانهم
واضمحلت الدول التي بقيت في أيديهم كأنهم لا حراك بهم، وصاروا في العالم
كأنهم اللعبة تتداولها أيدي الأجانب وتتلاعب بها أكف الأباعد بما خرجوا عن امتلاك
الأقارب، لا يحس فيهم شيء من آثار الثروة، ولا عندهم ميل إلي التجار والصنعة،
بل هم زاهدون فيها، وراغبون عنها، يستقبحون شكلها ومنظرها ويستفظعون
محلها ومصدرها، ورضوا بالافتقار في تحصيل كل شيء حقير، وجلب كل
ماعون يسير من أرض أوربا. يستجلبون الفُرُش والسرج للمساجد والصوامع من
أرض الإفرنج، ولا يتخذون من ذلك شيئًا بأنفسهم وأيديهم. لم يبق لهم عزة ولا
صولة وما بقي عندهم إمرة ولا دولة، وأما عددهم، فهم وإن كانوا يبلغون إلي
ألف مليون نفس في العالم فهم بعدُ ليسوا في قطر من أقطار الدنيا ممن يفتخر
هنالك بوجودهم ولا ممن يتفاخر بهم على لسان وليهم وودودهم، أو ليفرح الرجل
بالنظر إلي عيونهم وأشخاصهم أو يسير أخوهم إذا كان يرمق إلى عددهم وأفرادهم
فماذا يكون من السبب الأصيل في ذلك، وبيد من رهنت ذمة الأمور، والذي أحسب
أن جل السبب في ذلك ليس إلا نفارهم عن العلوم الحديثة وتعاميهم عنها، وإثم
ذلك كله على عاتق هؤلاء العلماء الذين يذرون تلك الأوزار ويجوزون للمسلمين أن
يخرجوا عن غمار الذل والصغار؛ ومن ثم تراهم يرعوون عن التعاليم النافعة،
ويردعون الناس عنها بفتاوى التكفير لمن ولع بهذه العلوم الحديثة، ويحولون
بينهم وبينها وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون، ولا يشعرون أن ارتقاء
الأوربيين الذي يُضْرَب به المثل ليس إلا من جهة توغلهم في العلوم الجديدة
ونبوغهم في الحكم الحديثة، وكل دولتهم وقوتهم منسوبة في الأصل إلي تجارتهم
وحرفهم، وهي في نوبتها منسوبة إلى تناغيهم في هذه العلوم الجديدة النافعة.
دع عنك أروبا وانظر إلى هذه الأمة الحقيرة التي يقال لها أمة (جابان) أفلا
يرونها كيف ارتقت في مدة لا تنيف على عدة سنين، ولا تعد إلا على أنامل
اليدين ارتقاء مبهرًا أبهرت الأنظار وخطفت لها النواظر والأبصار، فليس أنها لم
تستكمل لنفسها مدة خمسين سنة، وكانت تعد من قبل ذلك في الأقوام المتوحشة،
وتستحقرها الأمم المتمدنة، وهي اليوم في كل شأن على أعلى مراتب الصعود
والارتقاء، وقد أدهشت الدنيا بأسرها بأعمالها البديعة التي صدرت منها في هذه
الأزمان، وكل واحد يحترمها كل الاحترام، وحرمتها مركوزة في طبع كل إنسان،
فماذا الذي قلبها عن حالها القديم، وانعكس أمرها عن شأنها الفاسد الرميم؟ ما ذلك
إلا من أجل تناغيها في العلوم والحكم. والأزهريون على خبرة من حالها ومنهاج
ارتقائها ومنوالها، وإنما الأسف عليهم من أجل أنهم لا يقيسون أنفسهم بهؤلاء ولا
ينظرون في علل تلك الأشياء، ولا يفكرون في أسبابها التي أورثتهم الارتفاع
وأورثتنا الانحطاط والانخفاض، ولو كان عندهم صواب في الرأي وحزم في
الرواية ومعرفة صحيحة بالقرآن والإسلام لكانوا يستحيون مما هم فيه، ولكان كل
واحد منهم مثلكم ومثل الأستاذ الكبير محمد بن عبده يخرج نفسه من شرك التقليد
الذي أضل الناس كثيرًا، ولكان يسلك في منهاج التحقيق الذي هو الصراط المستقيم،
ويضيء فضاء الأرض برحبها، وينور العالم الإسلامي بسعته كلها بمشعلة
الإسلام ونبراس كلام الله الملك العلام.
وليت شعري ماذا الذي عَلَّمنا القرآن والإسلام؟ هل هو بعض هذه الحركات
البدنية أم نُبَذ من تلك المراسم الظاهرية أو مطالب عديدة من مسائل النفاس والحيض
يعنون بها التعليم الديني لا غيره أم ما دون ذلك؟ كلا ولا كرامة وحاشاهما عن ذلك،
بل وقد دلانا على ما فيه جُلُّ الخير وتمام النفع في الدين والدنيا وكمال الربح في
الأخلاق والمدنية وعلَّمَانَا الأصول التي بها نهتدي إلي تحصيل تلك العوائد
الثمينة والفوائد الغالية، وأوجبا علينا اكتساب العلوم الكونية والعقلية بأسرها , ولو
كان علماء الأزهر مشاركين في آرائهم لمثلكم ومثل محمد بن عبده وينظرون
بنظر الإمعان في إمضاءاتكم البديعة الرشيقة التي علمت الدنيا أن الإسلام من بين
سائر المذاهب هو المذهب الواحد الذي يرغِّبُ الناس ويشوِّقُهم في تحصيل الفوائد
الدنيوية والعوائد الملية والقومية، وهو الذي اتخذ العلم والعقل عين الإيمان والدين
ونفسهما في الأصل، ولو لم يكن الأزهريون يظنون ظنًّا باطلاً أن العلوم الدينية
بأسرها منحصرة في الفقه ومقصورة على جزئيات المسائل الفرعية التي لا يُعْتَدُّ ولا
يُعْبَأُ بها، وأكثر المطالب ليست بجديرة للعمل في هذه الأعصر والدهور، ولو عرفوا
ما في تعليمها من ضياع العمر وتضييع الوقت ذلك ما هو معلوم عند كل ذي حِجَى،
وهم يزعمون الولوع بها مما يشيد بناء الدين لما رُؤِيَ الطلبة الأزهريون كما
هم اليوم في غايتهم من الذل والهوان ونهايتهم من الصغار والخذلان، ولو كانوا
يعلمون أن العلوم العقلية والكونية عين العلوم الدينية لكانت كلية (كيمبردج)
(وأكسفورد) تحسد الأزهر وتغبطه غبطة ما كان يجحدها أحد، ولتخرج منها في
غضون عدة سنين رجال كانوا يصعدون بالبلاد الإسلامية، ويحلقون بها إلي أعلى
ذرى الارتقاء التي وصلت إليها أمة (جابان) في هذه الأعصر والأزمان.
هذا رأيي ورأي سائر الأفراد الذين لهم خبرة بأحوال الدنيا ووقوف على
أخبارها والإلمام بتواريخها، وإني لقاطع بصحة هذا الرأي ورأي هؤلاء ممن
عداني أن العلماء هم العلة الأصيلة لكل هذا الصغار والهوان وتمام تلك النكبة
والخذلان، وهم موقوفون إذًا بين يدي الرحمن ومسئولون من لدنه فليستعدوا
للجواب، فهم الأصل الأصيل لجل هذه المفاسد وكل تلك الشنائع. وأنت يا أخي لا
تستطيع وإن جهدت كل جهدك للمحاماة عن علماء الأزهر أن تغسل هذا العار عنهم،
وتدفع هذه التبعة والنقيصة منهم، فإنك لا تستطيع أن تكذب الحس والعيان ولا
أن تدفع الوقائع التي حدثت في الأدهر والأزمان، أفهذه الكلية التي مضت لبنائها
ألف سنة وتخرج منها مليون بل أضعاف مليون طلبة، ولا يزال يخرج منها كل
عام آلاف من هؤلاء الطلبة، أفيحق أن يكون نهج التعليم في هذه الكلية بحيث
يتخرج منها طائفة من صعاليك الناس وسائلين في الرقاب ويتخذون غداءهم بالذلة
وعشاءهم بالمسكنة، ويبيتون وهم مخذولون بالمسغبة، أو يجدر بها أن ينفر فيها
عن طريق التعليم التي يتخرج منها أناس يرتفع بهم منار الدين ويتقد به نار الإسلام،
ويعلو قدر المسلمين، ويهيئ بها المسلمون إلى لواحب الصعود والارتقاء، ويزيدهم
عزة وبهاء، ويهيئ لهم ذرائع الاصطعاد والاعتلاء، وإنما يحزننا أولاً
أنا نجد المسلمين في أي مصر وأية نقطة من نقاط الأرض كانوا بأسرهم ذاهلين
عن استجلاب العلم واكتساب الحكمة، غافلين عنها غير مكترثين بها، وثانيًا أنه
حيث ما نجد لهم وسائل التحصيل حاضرة ولواحب الاكتساب متسعة ومناهج
التدريس مطروقة متفتحة، وحيثما يوجد لهم كلية قديمة مثل هذه الكلية التي هي
أقدم كليات العالم يكون فيها مثل هذا التعليم الفاسد الضار الذي تضيع فيه الأعمار
ويضاع فيها الفضة والنضار، ويصطلح الناس فيه على أن يسموا مثل هذا النهج
الباطل العاطل العتيق الذي لا ينبعث المسلمون به للنهضة، وينسلب من أجلها مادة
التحقيق عن قلوبهم الخاوية، ويبغض إليهم النظر في العلوم النافعة، اصطلحوا
على أن يسموه تعليمًا دينيًّا، وعلى أن يسموا الرجل العارف بمسائل شتى من
الطلاق والرقية والنفاس والحيض رجلاً عالمًا ولا غير.
هذا وإني لست بمسهب مقالي في هذا الشأن ولا بمطنب في شكايتي من علماء
الزمان؛ نظرًا إلي ما حوت مجلتكم الباهرة الغراء من أحوال هؤلاء العلماء
وشئونهم وأخبارهم، فنحن في غنى عن إطالة الكلام عليها وبمعزل عن إسهاب
المقال فيها، وعلى كل حال فإن الأحوال الحاضرة للعلماء ومدارسهم ومكاتبهم مما
قد تبين واتضح للناس ضررها وفقدان نفعها للمسلمين وضوح الشمس في كبد
السماء، وإنما بثي وحزني على ذلك من جهة أن الأزهر كان هو المَدْرَس الواحد
في الدنيا من قديم الأعصر والأعوام الذي كان يرجى فيه إصلاح جميع المفاسد
الملية والمدنية في الإسلام ولا غير، ولو تقبل الناس آراء المفتي محمد بن عبده
وبادروها بالقبول لكنا نأمل منه خروج المسلمين عن غيابة الذل والنكبة، ونترقب
صعودهم إلى أعلى قمة من الفوز والسعادة، ولكن عليكم بعدُ أن لا تيأسوا من روح
الله، وتجِدُّوا كل الجد في إصلاح المسلمين، وأحسنوا إن الله لا يضيع أجر
المحسنين، وكتب يوم الخميس ٢٥ خلون من شهر ربيع الآخر، وأنا مخلصكم
الصفي الوفي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... النواب محسن الملك