للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد شرف


بعد تسعة قرون [*]

يقولون: إننا في القرن العشرين، في القرن الذي ارتقى فيه الإنسان
أعلى الدرجات في سُلَّم الحياة، في القرن الذي انتشر فيه العلم والعدل والمساواة،
في القرن الذي قلَّت في جوه جراثيم الأمراض الاجتماعية الفتاكة، في القرن الذي مُحي
فيه كل رسم للرق والنخاسة، في العصر الذي قويت فيه عاطفة الرحمة في ابن آدم
وتجسمت في عقله مبادئ الإنسانية الحقيقية وحب السلام والحب الجنسي، في
العصر الذي محي فيه من قلب الإنسان كل بغض ديني لمن على غير دينه، وقوي فيه
التسامح الديني ومات التعصب، وصار كلّ يحترم دين غيره، فهل كل
هذا حق؟ إن الحوادث والشواهد تؤيد خلاف ذلك.
هل زال بعد تسعة قرون (أي بعد الحرب الصليبية الأولى) من النوع
الإنساني ما كمن في فؤاده بل ما جرى في دمه من الخبائث؟ هل نسيت أوربة
صبغتها المسيحية ومركزها تجاه الإسلام، هل غفلت عن عدوها القديم؟ هل
تزحزحت بعد التسعة القرون بما اكتسبته من علم ونور ومبادئ شريفة إصبعًا واحدة
عما كانت عليه أيام الحروب الصليبية؟
لَعَمْري إن الأديان كانت بسوء استعمال الناس لها سببًا في فناء جزء كبير من
البشر وستبقى كذلك , فليس من العجيب أن نرى أنفسنا في القرن العشرين في
حرب صليبية سببها نفس السبب الذي أجرى في سهول سورية وفلسطين ومقدونيا
أنهارًا من الدم، وأقام فيها هضابًا من الجماجم أيام العصور الوسطى.
أيها المسلمون اعلموا وتيقنوا أن المسيحية لن تغفل عنكم. إن دينكم ومركزكم
الجغرافي لا بد أن يجعلاكم في عِراك دائم معها.
أنا لا أريد منكم أن تكونوا معتدين، ولكن أريد أن لا تنسوا الدفاع عن بلادكم
المقدسة، تلك البلاد التي ارتوت واحمرت بدماء آبائكم، ثم ابيضت بعظامهم، ولا
بد أن تحمر وتبيض مرات عديدة حتى يفنى العالم.
أيها المسلمون! لست في حاجة إلى تنبيهكم لمكان هذه الشئون من تاريخكم
من حيث إنكم أمة إسلامية. لا بد أن تكونوا علمتم جميعًا بالحوادث الأخيرة حول
دار الخلافة وما ينويه أعداء الإسلام لكم. إني أكرر أن هذا الزمن ليس زمن أزمة
وحرج في تاريخنا فقط، بل هو معركة حيوية نتيجتها إما بقاء أو موت، لذلك لا بد
أن تكون تلك الحوادث قد شغلت بالكم وأشعلت في أنفسكم جمرًا كان باردًا.
لا تظنوا أن أوربة تريد إصلاحًا أو عمارًا في مقدونيا، إن هي أرادت ذلك
فليس الجبل الأسود أو بلغارية أو الصرب هي التي تدخل هذه الاصطلاحات،
فالأول على حالة الوحشية والحيوانية الأولى، ولا فرق بين الثانية وبين تركية،
والثالثة ليست إلا قطيعًا من الخنازير. ربما كنا نصدق بهذه الاصطلاحات لو كانت
الحرب من إنجتلترة أو فرنسة أو ألمانية. إن طلب الاصطلاحات تحته امتلاك،
إنه أسد في جلد حمار. إن أوربة الحقيقية تريد أن ترى تغيرًا في رعاة الشرق
الأدني، تغيرًا في حدوده الجغرافية بالأحرى، تغيرًا في سادة القسطنطينية أو كما
تقول جريدة (البال مال غازيت) : (نود أن نرى مسيحيي البلقان يطوون هذه
السيادة الآسيوية التي ظهرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر) هذا هو
غرض أوربة وهي لا تكتفي ولا ترضى بإثارة حرب قومية، بل تثير علينا حربًا
دينية محضة. يجب أن لا نغتر بما يسمونه (المداولات السياسية لمنع حرب
البلقان) إنه عمل مبني على غير إخلاص، وما هو إلا ذرّ رماد في الأعين.
إن أوربة الصليبية لا تريد أن تقف أمام قوة تتفق مع أهوائها الطبيعية، لا
بد أن تنتصر لإخوانها في الدين وتساعدهم، إنه لا يمكن وضع المسلم والمسيحي
في كفة ميزان! إن الأخير أحق عندها بإصلاحات تناسب رقي عقله، وعلو قدره،
لذلك نشأت تلك الحرب الدائرة الآن عن دسيسة دولية ماهرة أخذت في التكون منذ
العام الماضي حين قامت الروسية تضغط على الباب العالي بقبول ضم طرابلس إلى
إيطالية، منذ ذاك الحين اشتعلت الدسائس فأهاجت البلقان على الإسلام.
ومنذ خمسة أشهر ظهر ناظر خارجية النمسة باقتراحه المشهور، ومهما كساه
بالألفاظ الأدبية المعتادة في المخاطبات السياسية، ومهما موهه وطلاه بألوان الطلاء
فهو في الحقيقة فحم جديد لنار موقدة، بين شعوب ذوي عقائد مختلفة، ما زادها
إلا وقودًا، وزاد لهيبها إلا اشتعالاً.
وتلك الروسية التي عهد إليها مع النمسة الاحتجاج الشديد على دول البلقان
نجد عليها تبعة كبرى في هذه الحرب ولا يدعو إلى الاستغراب أن تدخل فيها عن
قريب. ميل روسية إلى الجامعة السلافية أمر مشهور وعداوتها اللازمة لبني عثمان
حقيقة تاريخية، وتمنيها القبض على مفاتيح البحر الأسود وجعل القسطنطينية
عاصمة جامعة سلافية كبرى أمر دائم في فكرها ومحور سياستها. وهي الآن تساعد
بلغارية. وهذا ملك الجبل الأسود الحائز للقب (فريق) في الجيش الروسي وصهر
القيصر والذي قال منذ أسبوعين (إن كلمة القيصر هي القانون عنده وعند قومه)
أيعقل أن يعلن الحرب رغم أنف القيصر؟ لا بد من مواثيق ومعاهدات. ولم يمض
على الحرب أسبوع حتى أمطرت الروسية على الجبل الأموال الكثيرة والعطايا
الغالية وأرسلت البعثات الطبية، وجاء إلى الجبل أميران روسيان. أهناك تشجيع
على الحرب أكثر من ذلك؟ إن خطب ملوك البلقان موجهة إلى قيصر الروسية أكثر
مما هي موجهة إلى أقوامهم.
جاء في الإرادة السلطانية أن هذه الحرب سياسية محضة، ولكننا نعتقد بالرغم
من ذلك أنها دينية محضة، حرب مؤسسة على بغضاء دينية كمنت سنينًا وقرونًا،
ويُثبت ذلك ما جاء في مذكرات الأمم البلقانية وخطابات ملوكها، فهذا ملك البلغار
يقول: إن آلام إخواننا في الدين من رعايا سلطان آل عثمان التي لم يسمع بها أحد
قد أثارت غضب أمتنا بحق، وكل الوسائل السلمية للدفاع عن هؤلاء الشهداء
إخواننا في الدم والدين قد نفدت، لذلك لا يمكننا أن نبقى بدون تأثر بتأوهاتهم
الشديدة، ولاعتمادنا على قوة جيوشنا أمرناها بغزو الحدود للمحاربة مع ذلك العدو
القديم. إن عملنا مقدس، وفي سبيل الرحمة والإنسانية. اعلموا أن حربكم حرب
صليبية. إلى الأمام بعون الصليب وقوة أسلحتكم، إن إله العدل لا بد أن يعينكم.
وقد أمر بدق الأجراس في جميع الكنائس إعلانًا بالحرب وجيء بالقسيسين للصلاة
والدعاء بالرحمة والشفاعة للمحاربين.
وخاطب ملك الصرب قومه بهذا المعنى أيضًا - وأمر بإقامة الصلاة والدعاء
بالنصر لجيوش المسيحيين وطول العمر لقيصر الروس حامي حمى الكنيسة
الأرثوذكسية.
وقال مثل ذلك ملك اليونان، وناظر خارجيته يقول: (إن حرب البلقان
الصليبية هي غزوة لنصر المدنية والتحرير من السيادة الأسيوية التي بعد أن هددت
أوربة وبعد أن وصلت إلى فيينا لا تزال عبئًا ثقيلاً على كواهل أمم أكثر تقدمًا
وأرغب في الحضارة والحرية من الأمة الفاتحة) هذا بعض ما قيل في البلقان،
وإليك ما في غرب أوربة.
ففي إنجلترة نفسها - في الأمة التي يقال إنها سبقت جميع الأمم في ميولها
العادلة وسلامة أذواقها وصفاء قلوبها من الحقد والضغن الديني - في الأمة التي
تدعى جريدة التيمس أنها (أقوى مُدافع عن بيضة الإسلام) - في الأمة التي عولت
تركية كثيرًا على إنصافها وخطبت ودّها - في هذه الأمة لا يمكن الإنسان أن يحتمل
البغض الظاهر لتركية والإسلام. لا يمكن الإنسان احتمال ظواهر لبغض أشد من
بغض غلادستون الذي كان يقول (هذا الكتاب - مشيرًا إلى القرآن - لا بد أن يجمع
من أيدي المسلمين ثم يحرق، هذا الكتاب ما دام في أيدي هؤلاء الملايين لا بد أن
يبقوا أشقياء أعداء لكل ارتقاء وإصلاح، أعداء للمسيحية) وهذه الصحف
الإنجليزية تضرب على نغمة أشد من نغمته فهي تقول اليوم: لا خير في الإٍسلام
ولا صلاح يُرجى منه. ومن هذه الجرائد قسم لا يكتفي بكتابة أخبار مهيجة عارية
عن كل صحة، وبإعلانات مثيرة للخواطر، بل تعلق عليها بمقالات أشد من قول
ملك البلغار. ومثالاً لذلك أقتطف جملة من تعليق (البال مال غازيت) قالت: (لا
شك أننا كلنا والرأي العام هنا لا بد ينتصر لإخوانه في الدين. لا شك أننا نود أن
نرى إخواننا في الدين يكتسحون تلك السيادة الآسيوية في جنوب شرق أوربة كما
اكتسحوا الأندلسيين العرب من غربها) .
لم تقتصر هذه الظواهر العدائية على الصحف والرأي العام بل اشتدت في
الدوائر الرسمية وظهرت على لسان المستر (لويد جورج) والمستر (ماستر مان)
من نظار المالية. واجتمعت جمعية البلقان المكونة من أعضاء البرلمان في
وستمنستر يوم إعلان الحرب، وقررت بأن الأمم البلقانية محقة في عملها. ومهما
تكن نتيجة الحرب لا بد من استقلال مقدونيا. وقررت عقد اجتماعات عمومية
لتهييج الراي العام.
لم تقف تلك الظواهر عند هذه الحدود بل امتدت إلى المعاهد الدينية بالطبع
فدعا بعض القسيسين يوم الأحد بالنصر للغزاة. وقال بشوب سوبثويل (Bishop
of southwell) في خطاب ألقاه في نوتنجام (Nottingham) إن قتل المسيحيين
وتعذيبهم في مقدونيا طول هذه السنين لم يعد يحتمل ولا بد من إعلان الحرب. هذا
يوم إعلان الحرب وسافر المستر Buscton Nocl عضو البرلمان إلى صوفية
وأعلن هناك أن عددًا كبيرًا من الإنجليز قادم إليهم للتطوع مع البلغار. وأن أثر هذه
المظاهرات في نفوس أهل البلقان لا يخفى على القارئ.
إن إنجلترة المدعية الصداقة للدولة العثمانية والدفاع عن الإسلام والتي يعدها
عدد كبير من المسلمين أخلص صديق لهم تعمل كل ذلك في زمن جرحت فيه قلوب
جميع المسلمين (ومن يبالي بقلوب المسلمين الذين لا يبالون بأنفسهم) إن إنجلترة
بما لها من النفوذ الدولي الكبير والنفوذ الأدبي كان في إمكانها على الأقل إيقاف
اليونان عن الحرب، وربما كان في ذلك إيقاف الحرب كلها. إن إنجلترة تقيم
البرهان الآن على مبلغ إخلاصها للمسلمين. قد رأيناها مع ما اشتهرت به من حب
الإنصاف خنقت أمة شريفة ذات مجد قديم وهي في أول درجات الترقي والتقدم
والجهاد الشريف وباعتها لدب مفترس قاسٍ تحقيقًا لتوازن دولي غير محقق. هذه
هي حقيقة نية الإنجليز في المسلمين. ما كنا لنتأوه كثيرًا لو كانت إنجلترة نفسها
احتلت فارس بأجمعها؛ لأنها ربما كانت تساعدها على المدنية ولو قليلاً، ولكن
أعطتها لمن سيسحقها سحقًا مبيدًا.
إن إنجلترة لا بد أن تعلم أن في ملكها أو تحت حمايتها وفي احتلالها أكثر من
٨٥ مليونًا من المسلمين وهي تعترف أن روح العصر تجري في دمائهم، وأنهم
استفاقوا من نوم عميق وتأثروا بأشعة النور الحالي، ولتعلم أيضًا أن الإسلام حقيقة
تاريخية وأنه لا يزال مفتاح أكبر باب في سياستها، ولنحذر لذلك غضب الشعوب
الإسلامية. إن الإسلام جرحت كبده في العام الماضي وجرح قلبه في السنة
الحاضرة.
إن هذه الحركة العدائية العمياء في إنجلترة أمر لا يحتمله المسلمون ولا بد لها
من أثر سيئ ما لم يتدارك الأمر بعض الرجال المدققين في الحكومة الإنكليزية.
ولعلّ في ذلك عبرة لجمهور المسلمين الذين لا يفكرون في أن إنجلترة إذا ساعدتهم
فإنما تساعدهم عن اضطرار، وأن الأولى بهم الاعتماد على هممهم الذاتية.
أيها المسلمون اعلموا أن أمة العرب اندرست آثارها في الأندلس بسبب غفلة
المسلمين وعداوة المسيحية لهم، وعدم وصول أي مساعدة إسلامية إلى أمراء
المسلمين في الأندلس، واعلموا أن التاريخ يعيد نفسه، وأن أمامنا مثالاً ثانيًا فإن
بقيتم بعيدين لا تعرفون معنى الجامعة الإسلامية فالنتيجة واحدة لا محالة. أيها
المسلمون إن خلافتكم محاطة بأكثر من نصف مليون سيف، وإن عدد أعدائكم أكثر
من عدد جيوش خلافتكم فإن لم تلتفوا حولها فالعاقبة وخيمة. إنكم تقاسمون مع
الخليفة المسئولية في حفظ مركز الخلافة وحياتها لكل فرد منكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... لوندرة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد شرف
بمستشفى سانت جورج وعضو بالجمعية الإسلامية بلوندرة
ومساعد في بعثة الصليب الأحمر الإنكليزية لتركية.
(المنار)
جاءتنا هذه الرسالة في الشهر الماضي من لندرة من صاحب
الإمضاء فرجحنا عدم نشرها أولاً، ثم كتبنا نستشيره في التصرف فيها والحذف منه
ثم ترجح عندنا أن ننشرها ونعلق عليها ما يأتي:
(١) إن الكاتب كتب رسالته عقب إضرام نار الحرب؛ إذ رأى الدول
الأوربية بعد أن قضين في العام الماضي على مملكة مراكش وفيما قبله على مملكة
إيران الإسلاميتين - وبعد أن أغرن على طرابلس الغرب وتبجحن بأنهن أزلن آخر
ظل لخليفة المسلمين عن أفريقية - شرعن في الاتحاد الحربي باسم الصليب
والاتحاد السياسي يعملن لإزالة سلطان الدولة العثمانية من أوربة، ومن يأمن بعد
ذلك إزالة ملكها من آسية. رأى الكاتب هذا وقرأ الجرائد الإنكليزية التي تصدر
هنالك فرآها نارًا تلظى، وكان لحسن الظن بالإنكليز يرجو أن يرى فيها شيئًا من
تخذيل دول البلقان التي أهانت المسيحية بجعل هذا العدوان باسمها ولأجلها،
ونصرًا للدولة العثمانية لأنها بغي عليها، وإكرامًا لمسلمي مستعمراتهم، فلما خاب
أمله، واشتد وجله، كتب بوجدان وانفعال، وحق لمثله ذلك.
(٢) يظهر أن غرضه الأول من هذه الرسالة حث المسلمين على إعانة
الدولة على هذه الحرب بالنفس والمال، فأما التطوع للحرب معها فمما لا حاجة إليه
كما أنه لا سبيل إليه لأكثرهم، لبُعد الشُّقة وقصر أجل هذه الحرب. وأما الإعانة
بالمال فهي جهد المستطاع، وهم يبذلون بقدر حالهم المادية والمعنوية.
وأما غرضه الثاني فهو الاستنجاد بالإنكليز لمساعدة الدولة، وهو من العبث؛
لأن هؤلاء كانوا يساعدون هذه الدولة في الزمن الماضي مضادة ومقاومة لروسية
التي يخشون أن تأخذ الآستانة فتكون لهم قوة بحرية تعارض أو تناهض السيادة
الإنكليزية في البحر المتوسط وغيره. وقد انتقل هذا الخوف من روسية إلى ألمانية،
واستمالت إنكلترة عدوتها القديمة لتكون ظهيرًا لها على عدوتها الجديدة، فهي
تضحي الدولة العثمانية في هذا السبيل. فهذا هو السبب السياسي لخيبة الأمل في
الإنكليز، ويدعمه السبب الديني وهو الانتصار للصليب على الهلال، وهو إذا
انتفت الموانع السياسية واجب بالذات.
(٣) كون هذه الحرب دينية عندنا يختلف الناس في فهمه؛ لأن جميع
النصارى وبعض المسلمين يرون أن معنى كون الحرب دينية هي أن يكون أهل
دين محاربين لجميع أهل دين آخر، يستبيحون من دمائهم ومن أملاكهم ما
استطاعوا كما تنتصر الآن جميع دول النصارى لجميع دول البلقان على الدولة
العثمانية، وإن كانوا ربما يتنازعون فيما بينهم على بعض البلاد أو المواقع كما
يتنازع الإخوة كثيرًا في اقتسام المواريث وغيرها. ويدخل في ذلك قتل من لا يقاتل
ونهب ماله إذا لم يكن ثَمَّ مانع كما يفعل البلقانيون في ذبح المسلمين ونهب أموالهم
في البلاد التي دخلوها عَنوة، وفي بلادهم الأصلية أيضًا، حتى في سلانيك ذات
الحضارة العظيمة، فإن اليونان فيها يقتلون وينهبون ويفتكون بالأعراض والأرواح.
وقد بينا معنى كون هذه الحرب دينية في الجزء الماضي، ومعنى الحرب
الدينية والجهاد في الإسلام في إحدى مقالاتنا (المسألة الشرقية) التي نشرناها في
العام الماضي، وهو أن الواجب على المسلمين قتال الذين يقاتلونهم خاصة لا كل
من يشاركهم في دينهم، وأن الواجب فيها الجهاد بالمال والنفس وبذل الزكاة
الشرعية فيها على ما بيناه في الجزء الماضي. ولكن في وطننا أناسًا يحسبون كل
صيحة عليهم، فكلما قال مسلم: إسلام، أو دولة إسلامية، أو اللهم انصر السلطان،
أو نقلوا ما يذكر في الجرائد الأوربية عنهم، أو ما يراد ببلادهم - قامت قيامة
هؤلاء الناس، وانتصر لهم من لا يعتقد اعتقادهم، وهيجوا الأوربيين عليهم،
قائلين: قد هاج التعصب الديني علينا ونحن على خطر، وذبحنا في كل ساعة
ينتظر. فلغيرنا الحرية في أن يقولوا: إننا نحارب المسلمين حربًا صليبية، وفي أن
يفعلوا. وأما نحن فلا حرية لنا في القول، لئلا يجر ذلك إلى استعدادنا للدفاع عن
أنفسنا بالفعل، فحريتنا مسلوبة حتى في قول الحق الذي لا يرضي خصومنا، ومن
لا يستطيع أن يفعل لا ينبغي له أن يقول.
(٤) يريد الكاتب أن يخيف إنكلترة من سخط المسلمين الذين تحت سلطانها
وقدرهم بخمسة وثمانين مليونًا، وهي لا تخاف منهم على علمها بأنهم أكثر من مئة
مليون. يقول: إنهم قد دب فيهم الشعور بالحياة العصرية، وهي أعلم منه بهذا
الشعور، ويحتمل أن يكون من أسباب ترجيح الاستراحة من الدولة التي يطالبونها
بمساعدتها عند كل حادث.
(٥) ليس من العقل ولا من الحكمة أن نلوم الإنكليز على عدم مساعدتهم
لدولتنا الإسلامية على دول مسيحية، وإنما الواجب علينا أن نلوم أنفسنا لا غيرها،
فلا البلقان ولا الإنكليز ولا الروس هم الذي يزيلون ملكنا، وإنما نحن الذين نهدمه
بأيدينا. فالذين ملأوا العالم فخرًا بإنقاذ الدولة من الاستبداد، وادعاء إخراجها من
الظلمات إلى النور، ومن الضعف إلى القوة، قد أنفقوا ٤٣ مليونًا من الجنيهات من
مخصصات الميزانية وملايين أخرى كثيرة باسم الحربية، وظهر بعد هذه النفقات
كلها أن العسكر لم يجد خبزًا يسد به رمقه في وقت الحرب، بل لم يظهر أثر لهذا
الاستعداد إلا في ذبح مسلمي الأرنؤد والعرب في اليمن والكرك وحوران ... إلخ
إلخ.
(٦) إذا كان لا مجال للمراء في كون هذه الدول تحارب المسلمين باسم
الصليب، وتستنفر جميع الدول الصليبية لمساعدتها على ذلك بجامعة الدين - فلا
مجال عندي للريب في كون دين المسيح عليه السلام بريئًا من هؤلاء السفاكين
للدماء المفتونين بأباطيل هذه الحياة، العابدين للسلطة والمال، ويجب أن يتبرأ منهم
كل من يعرف شيئًا من أصول دين المسيح ومقاصده. ولذلك يتحامى المنار تسميتهم
مسيحيين وتسمية ديانتهم مسيحية، سواء كان ذلك في مقام الكلام على أطماعهم
وأعمالهم التي يعملونها لاستعباد البشر وجعلهم أجراء يستخرجون خيرات الأرض
ليتمتع سادتهم باللذة والعظمة، أو في مقام طعنهم في أديان الناس وعقائدهم ليفسدوا
عليهم دينهم رجاء أن يصيروا صليبيين مثلهم، فأنا أنزه المسيحية عن شرور رجال
السياسة ودعاة الدين منهم، وأستحي من الله ومن المسيح عليه السلام أن أجعلهم من
أتباع المسيح أو أن أنسبهم إليه. ولو كانوا مسيحيين حقيقيين لكان الوفاق بينهم
وبين المسلمين أمرًا ميسورًا بل أمرًا مفعولاً، فهؤلاء الناس يستخدمون دينهم الذي
هم عليه - وهو قوة معنوية ككل دين - فيما يرون فيه سيادتهم وعظمتهم ونعمتهم،
وحكامنا وزعماء سياستنا يهدمون مثل هذه القوة بجهلهم وسوء تدبيرهم، يخربون
بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) .