(١٠) بقي علينا من الحكومات الأربع (الحكومات العثمانية) ، وهي ليست بأقل تعرضًا للأخطار من أخواتها الثلاث الأُخَر، بل ربما كانت الدول الغربية أضرى بها وأشد تكالبًا عليها، وزِدْ على ذلك أن الطمع في الحكومات الأُوَل مقصور على دولتين أو ثلاث، أما الطمع بهذه الدولة - صانها الله - فوباء عام قد تفشى وخمه بين الدول - كُبراها وصُغراها - من يُصَدِّقني إن قلت: إن دولة اليونان، ممن يحلم بتبوأ فرق فروق (أي أعلا الآستانة) ؟ مَن يصدقني إن قلت: إنها تعربد بنشر رفات الإمبراطورية الرومانية الشرقية من أجداث العدم؟ نعم، إنها تُعربِد بإنشاء تحالف سياسي يطوي تحته الشعوب البلقانية بأجمعها، ويتولى ملكها زعامة هذا التحالف الكبرى، وتكون قاعدته القسطنطينية متبوأ قياصرة المملكة الشرقية المنقرضة، ويحتفل بتتويجه فيها. وقد أعتدت اليونان لأجل الاحتفال بهذا التتويج كل المُعَدَّات الوهمية والأدوات الخرافية، ولم يبقَ عليها من ذلك سوى شيء واحد أعوزتها الوسائل للوصول إليه، ولم تهتدِ لوجه الحيلة فيه، وأخيرًا فرضت على نفسها جُعلاً وافيًا مما هي فيه من البهر [١] المالي لكل رومي (إذ غير الرومي لا يحسن ما يحسنه) : يجوس خلال برازخ الأموات، ويتلطف ويختلس تاج الباليولوغوس [٢] عن مفرق آخر ملوكهم قسطنطين ويأتيها به؛ لكي تضعه على هامة ملكها مُذْ يحتفل بتتويجه إمبراطورًا على ذلك التحالف الموهوم. ولنأتِ على ذكر الأخطار المُحْدِقة بالحكومة العثمانية وولاياتها، والإيماء إلى نسور المطامع التي تحوم عليها. في الممالك العثمانية ولايتان تود الشعوب الإسلامية لو تشيد حولهما أسوارًا من أفئدتها، وتناضل عنهما عِوَضًا من حبَّات الرصاص بحبات قلوبها، ولها كلف ببقاء الاتصال البري بين تينك الولايتين، ولو بجسور من رقابها، وولوع بحفظ السكة العسكرية التي تربطهما، وإمداد تُرَابها وحصاها، ولو بذرات أجسادها وشظايا عظامها، لو أشرفت على شغاف قلوبهم؛ لرأيت فيه رسم هاتين الولايتين ارتسام الصور الفوتوغرافية في ألواحها، بل لو تسمَّعت لخَرير دمائهم في مجاري عروقهم لسمعتها تنطق بلسان فصيح عن ولاية الحجاز - ذودًا ذودًا - عن ولاية الآستانة - دفاعًا دفاعًا - نعم، مهما غَلَوْنَا في وصف مكانة هاتين الولايتين من أنفس المسلمين كنا مضجّعين مقصّرين. الولاية الحجازية مناط قيام دينهم، وأُسّ مكين ترفع عليه صروح مِلتهم، وولاية القسطنطينية منقبتهم السياسية، ومجد حياتهم التاريخية، ففي سقوط الولايتين سقوط للدين والشرف، نستعيذ بالله! نستعيذ بالله! . العناصر الأصلية التي يتكون منها جسم المملكة العثمانية هي العنصر التركي والعربي والكردي والأرمني والأرنؤوطي والرومي. ويندمج في مَطاوي تلك العناصر الستة طوائف أُخَر حقيرة، لا شأن لها ولا غناء عندها. أما العنصر التركي، فمجتمع في صعيد واحد قطبه الآستانة، ويشغل ما على جنابتيها من الولايات المحدودة من جهة الرومللي بحكومة البلغار وولاية مكدونيا ومن جهة الأناضول بولايات الأرمن والأكراد وسوريا، وهذا العنصر هو حياة الحكومة العثمانية وبه قوامها؛ ولذا كان استواء الأجنبي على الآستانة استواء على الممالك العثمانية بحذافيرها. وأما العنصر العربي فيشغل أصقاعًا متشتتة - سوريا طرابلس الغرب والحجاز واليمن وضفاف النهرين. ولا يحدث في الأصقاع التي يقطنها هذان العنصران - التركي والعربي - قلاقل داخلية مهمة وتشعبات سياسية ذات شأن، كما يحدث في الولايات التي تقطنها العناصر الأربعة الأُخَر؛ لأن كلاً من العنصرين التركي والعربي صِرف، لا يمازجه غيره. ونعني بالتركي والعربي مَن يتكلم بالتركية والعربية - مسلمًا أو مسيحيًا -، فما كان من ولاية تركية يقطنها أهل ملتين كولاية أزمير مثلاً، لا تسمع فيها لاغية فتنة قط، وكذا الولاية العربية التي من هذا القبيل كولاية بيروت. وما يصل إلى الآذان أحيانًا من هماهم ودمادم [٣] يتساود [٤] بها القوم في أنديتهم، فإنما هي كبوارق تعترض من الأفق في ليالي الصيف، لا صواعق تصحبها، ولا سيول تعقبها، ومنشؤها جهل أحداث ونزق أغرار، يتكفل بمحو ذلك من نفوسهم انتشار التعليم والتهذيب [٥] ، فالولايات التركية والعربية في مأمن من شبوب نيران فتن الأجنبي، للمداخلة في شؤونها على نورها، وهو إن طَمِع فيها، فإنما يُطمعه ضعف المملكة العمومي، وتراخي إداراتها الداخلية. فانظر إلى اللغة كيف تحنو على المتكلمين بها وترثي لتبددهم؟ ! ، فتسعى في ضم أهوائهم وتوحيد مشاربهم، وتورثهم تحابًا وائتلافًا، وإن كانوا ذوي مِلَل مختلفة ونحل متباينة، فتوحيد اللغة من أقوى العوامل في إسعاد الأمة، وأقرب الوسائل لِلَمِّ شَعَثها، وهي المتكفّلة بتوثيق أواخي الإخاء، وسد منافذ الشقاق بين المتكلمين بها على شريطة أن يكون ذلك الشعب المتوحد في اللغة، المتفرق في المذهب، على مقربة من التهذيب، وفيه عبقة من المدنية، وإلا اعترض علينا بلبنان فإن لغته واحدة مع أن اختلاف ملِلَه أرهق أهله ويلاً، وجَرَّ عليهم من المصائب ذيلاً. ويُقال - في رد الاعتراض -: إن شعب لبنان لعهد استشراء الفتن فيه كان في غمرة مِن توحش، وغشاوة من جهل، مما أعان على ذلك من انتشار شياطين الأغراض بين طوائفه، يوسوسون إليهم بالمواثبة، ويسولون لمناصبهم (زعمائهم وهي كلمة عرفية هناك) المناصبة، حتى كان من أمره ما كان. ولنرجع إلى العناصر العثمانية فنستوفِ أقسامها، بقي شفعان، كل شفع منهما يقطن صقعًا واحدًا، فالشفع الأول الكردي والأرمني يشغل الصقع الواقع في نهاية آسيا الصغرى لجهة الشرق، المحفوف بولايات الأناضول وسوريا والعراق والعجم، والروسية، والشفع الثاني الأرنؤوطي، والرومي يشغل صقعًا واحدًا أيضًا، ويسمى مكدونيا وهو الذي تحتفِ به ولايات البلقان والآستانة واليونان، وهذان الشفعان أضرّ بهما اختلاف اللغة وتباين المشارب، فباعد بين الآحاد المكونة لهما، وخالف بينهم في الأهواء والأخلاق والعادات والآداب؛ فتمهدت بذلك سبل المداخلة الأجنبية فيهم، وانبعثت رسل الأطماع تجوس خلالهم وتوقظ آمالهم، حتى حدث لعهد قريب ما حدث من الفتن الأرمنية التي وقعت رزاياها من تلك الديار مواقع القطر، ورمت أهاليه من وطيس أذاها بشرر كالقصر. وكريد وإن لم تكن من مكدونيا - لكنها كقطعة منها من حيث مشارب سكانها ومنازعهم، وكلنا يعلم ما جرى في تلك الجزيرة، وما آل إليه الحال فيها، وكيف تلاعبت بها السياسات والأطماع تلاعب الرياح بالسفينة ذات الشراع، ولم يكد يهدأ اضطرابها وتفتأ ثوراتها حتى نجمت رءوس الشقاق والفتن في مكدونيا، وانغمس أهلوها بالشغب، وطفقوا ينسجون على المنوال الذي نسجت عليه كريد، ولا نعلم كيف يكون نسيجهم، وماذا يلبسون منه. هذه مصاصة من شؤون ولايات الحكومة العثمانية الداخلية، ولنسردها الآن واحدة فواحدة، ونلم بشيء من تعلق سياسة الدول بها وأطماعها فيها. (طرابلس الغرب) تحالف الدول بتطلب وصالها دولة إيطاليا وهي إن لم تكن تجاورها برًّا، فإنها (تصافها) بحرًا، وقد كان لهذه الدولة أماني أشعبية في تونس؛ لشدة قربها منها، وأكثر ما أرادتها على الخضوع لها واحتالت لتناول قيادها؛ فأخفقت سعيًا لما أن فرنسا أولى لدفعة منها فيها لاتصالها بها برًّا. وقد انتطحت الدولتان في شأن تونس والاستئثار بالنفوذ فيها انتطاح الكباش، وكان الفلج أخيرًا لفرنسا، فاضطرت إيطاليا للتسلي بطرابلس الغرب، والتعلل بأماني وصالها. وليست في هواها هذا بأخسر منها صفقة في هواها الأول، لما أنه إن شاركها في تونس شريك واحد فلها في طرابلس شريكان، فرنسا غربًا وإنكلترا في مصر شرقًا، لا سيما وليس لها من القوة الحربية والمقدرة المالية ما يساعدها على نيل أمانيها، فلا نراها إلا خائبة كما تخيب صاحبتها أسبانيا في مراكش. أما إنكلترا فتطمع في تلك الولاية، لكن طمعها بالولايات المعترضة في سبيلها إلى الهند أشد وأقوى؛ فهي ربما تساهلت مع فرنسا في أمرها وأغضت لها عنها؛ لكي تكافئها هذه بمثل ذلك في مواطن أطماعها ومواقع أمانيها، وربما تذرعت بهذا التساهل لحمل فرنسا على أن تناصفها إفريقيا، وتستأثر هي بالنصف الشرقي كما هو متمناها. فقد ظهر الآن أنه ربما يخلو الجو لفرنسا في شأن طرابلس الغرب، وإعمال أطماعها فيها. ومما يزيدها طمعًا وقوع تلك الولاية في شمالي قسم كبير من الصحراء الإفريقية، وهي عاملة على التِهَام تلك الصحراء برمالها وعواصفها، وإن شئت قلت: بسفائنها وأمواجها لما أنها يأملون بتحويل هذه الصحراء إلى بحر عجاج متلاطم بالأمواج، ويتم ذلك العمل بواسطة بثق البحر المتوسط (أي: كسر حافة وشطه؛ لينفجر الماء إلى ما تحته) من سواحل تونس أو طرابلس. وكيفما كان الحال، فولاية طرابلس ستكون مركزًا مهمًا لإنجاز هذا المشروع الأعظم، وموطنًا لإدارة أشغاله وأعماله (أي إذا تمَّ لهم أملهم، لا سمح الله!) . ((يتبع بمقال تالٍ))