للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القضاء والقدر

(س١٢) من مشترك بالسودان
جناب مدير المنار الأغر:
بعد التحية، ذكرتم في صحيفة ٧٢٣ (ج١٠ م١١) كلمة بخصوص مسألة
القضاء والقدر. ولما كان المنار هو المجلة الوحيدة في العالم الإسلامي التي يهمها
البحث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران. وكانت مسألة القضاء والقدر
هي الأمر الذي اعترف به الصديق والعدو أنه السبب الوحيد في تأخر المسلمين.
رأيت أن ما ذكره المنار في هذا الجزء والأجزاء السابقة، لم يشف غليل العقول ولا
هو أخرج شيئًا من أساس المبدأ الثابت في أدمغة العام والخاص القائل عنه
(تقي الدين ابن تيمية) من سنين مضت:
فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
وإذا كانت العباد مقسومة هذا للشقاء وذاك للسعادة، وإن هذا الاعتماد مستولٍ
على العقول، فَهِمَّة المسلمين التي تتوجه للإصلاح والتقدم، ليست إلا ضربًا من
التقليد والتشبه للأمم الحية التي لا تعرف شيئًا من هذه العقيدة المقيدة للهمم والعقول
فتزول منهم إذا زالت عنهم الأسباب الاضطرارية الداعية لهذا التشبيه؛ لأن الدين
أرسخ في الأذهان من مبدأ وقتي أثره تقليدي. اللهم إلا إذا ضرب صفحًا عن هذه
العقيدة من الدين، وتشبعت تدريجيًّا بالمبادئ الطبيعية التي تسير مع تقدم الأمم، أو
تكون هذه المسألة على خلاف ذلك، إذًا إن ما ذكرتموه في المثال (عن ولي عهد
ألمانيا وأخيه بمصر) لا يبرهن للأوربي الذي يتبرأ من هذه العقيدة؛ أنه كان من
الأزل مقرر إصابة أحد الأخوين بالحمى؛ ليتأخر عن الميعاد الذي حدده لسفره،
وأنه لا بد أن يصاب به حتمًا. بل هو يقول لك كما يقول العقل والعلم: إنه لو لم
يتعرض للأسباب التي أوجبت هذا المرض؛ لسبب عدم علمه بها لسافر في ميعاده
المحدد، إنه كان في إمكانه أن يتجنبها لو علم بها. فإذًا مسألة إصابته بالمرض
ليست محتمة له من الأزل. ولا كان الله - تعالى - مخصصها إليه بالذات. ولكنها
تخصصت له منه تعالى بسبب جهله تلك الأسباب ليس إلا.. ونقول (منه تعالى)
تخصصت لعلة هو خالق كل الأسباب التي يتعرض لها الإنسان بإرادته سواء علم
بنتائجها أو جهلها فإذا قلتم حسب مبدأكم ومبدأ (ابن تيمية) السالف: إن ولي العهد
مقدر له من الأزل أن يحضر مصر، وكان لا بد أن يمرض بمرضه هذا، لقلت لكم:
إن اللص الذي قطعت يده بسبب ما سرق كان لا بد أن يسوقه الله - تعالى -
للسرقة للزوم قطع يده الحتمي، وتكون هنا إرادة الإنسان ومسئوليته في الدنيا
والآخرة عما يفعل ضرب من ضروب السخرية، وتتميم رواية ليس لها نتيجة ...
ونكون كما قال (ابن تيمية) :
وحكمته العليا اقتضت ما قضت من الـ ... ـفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ... يقدره نحو العقاب بعزة
ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم ... بأعمال صدق في خشوع وخشية
وما دامت الأسباب التي هي حجة للنتائج مقدرة حتمية ... فالنتائج بالطبع
تابعة لهذا الإلزام. وعليه فالتقاضي والحساب في الآخرة ليس إلا لتتميم رواية
كلامية، وإذا كان هذا مبدأ المنار، فلا يلومن الأمم الإسلامية الماضية وما كانت فيه
من الاضمحلال.. ولا داعي لاستخراج نتائج فلسفية أو عمرانية للزوم الأخذ
بأسباب الترقي والهروب من القديم ... ولا عيب على حكومات الاستبداد ... ولا
مانع من البقاء في الجهل ... إلخ. إذ إن الداعين للزوم تغيير المناهج لتتغير معها
النتائج، ليسوا إلا معترفين بلزوم التسلط وتحرير القدر الإلهي القابض على
الأسباب بيد حديدية.
وعلى هذا.. هل أقول مع (المنار) للذين يعتقدون من غير المسلمين أن
عقيدة القضاء والقدر بهذا الشكل هي السبب في تأخر المسلمين: (إن ما ينتقد على
المسلمين من ذلك، لا يرجع منه شيء إلى الإسلام الخالص، فما قدره فهو الحق
الواقع في نفسه الذي لا يمكن لمؤمن ولا ملحد إنكاره) أم ماذا نقول إذا كان ما سبق
هو ما يريد المنار تقريره؟ وأشكركم سلفًا.
(ج) لكل مقام مقال، فلتحرير النزاع ولرد الشبه مقال غير مقال التذكير
بأمر مقرر، واعتقاد محرر، وقد كان ما ذكر في (ص ٧٢٣ج ١٠م١١) من
المنار من القسم الأخير. ونحن اتباعًا لهداية القرآن نكرر المسائل المهمة لا سيما
في التفسير، فنذكرها تارة بالإيجاز وتارة بالإطناب، وما أشرتم إليه هو قول
الأستاذ الإمام، والغرض منه التذكير بأن الإنسان ليس مستقلاًّ في عمله تمام
الاستقلال؛ لجهله وعجزه، والنظريات التي ذكرتموها لا تنقض شيئًا من قوله، بل
تؤيده، وحكم القضايا الممكنة غير حكم القضايا المطلقة كما هو مقرر في المنطق،
فقولك: إنه كان في إمكان ولي عهد ألمانيا أن يتجنب أسباب المرض لو علم بها،
إذًا لأنفذ الترتيب الذي وضعه لسفره، فمسألة إصابته بذلك المرض لم تكن محتمة
له من الأزل ... إلخ. قول ظاهر البطلان؛ لأن قضية مرضه جهتها الإطلاق
لوقوعها بالفعل، والإمكان لا يناقض الإطلاق , وبعبارة عامية: إنه كان لا بد من
مرضه بدليل وقوعه، وليكن ذلك لجهله بأسباب المرض , على أن هناك أمراضًا لا
تعرف أسبابها كالسرطان، وأمراضًا تعرف أسبابها، وقد يتعذر اجتنابها كالسل.
نكتفي بهذه الإشارة، ولا نضيع الوقت في المناقشة الطويلة ببيان بطلان كل
نظرية من النظريات الباطلة التي أوردتموها نقلاً أو رأيًا؛ وهي مشهورة لأن
الإطالة في ذلك لا تزيد المسألة إلا تعقيدًا كما صرحنا بذلك منذ سنين، فقد قلنا في
الدرس الرابع عشر من الأمالي الدينية التي كنا نلقيها بمصر الذي نشرناه في جزء
المنار الذي صدر في غرة جمادى الثانية سنة ١٣١٨.
(هذه المسألة من توابع البحث في العلم والإرادة؛ وهي الفتنة التي ابتليت
بها الأمم، فوقعوا في بحار الحيرة تدافعهم أمواج الشكوك، ويتلقاهم أذى الشبهات
(أي موجها) ، حتى غرق فيها أكثر الخائضين، ونجا الأقلون، ومن عجيب
أمرها أن العامة أعلم بها من الخاصة، وأن الأميين أقرب إلى اليقين بها من
الكاتبين، وإن شئت فقل إن الجهل بحقيقتها تابع لسعة العلم بمبحثها، فكلما زاد
الإنسان نظرًا فيها زاد عماية عنها؛ لأن الخفاء كما يكون من شدة البعد، يكون من
شدة القرب ... إلخ. ما قلناه تمهيدًا للقول: (بأن المسألة في نفسها بديهية عوملت
معاملة النظريات، والبديهي كلما زاد البحث فيه بَعُد عن الإدراك) ... إلخ.
لقد فتن علماء اللاهوت من النصارى في هذه المسألة كما فتن المسلمون،
وقد صنف المسلمون فيها مصنفات خاصة، فما أغنت عنهم من شيء. وكانت تعد
من المشكلات العقلية، فألبسها أهل هذا الزمان ثوب المشكلات الاجتماعية،
وزعموا أنها سبب ضعف المسلمين، وللأستاذ الإمام مقالة طويلة في إبطال هذا
الزعم وبيان أن هذه العقيدة من أسباب التقدم والارتقاء، تطلب من المنار
(ص ٢٦٥ م٣) ومن الجزء الثاني من تاريخه (ص ٢٦٣) .
إن الناس يأخذون من دينهم في كل عصر من الأعصار ما يناسب حالتهم
الاجتماعية، حتى إن العقيدة الواحدة تكون في الأمة الواحدة مصدرًا لآثار متناقضة
في زمنين مختلفين كعقيدة القدر، كانت في زمن من الأزمان مصدر الشجاعة
والإقدام والفتح والعمران والكسب للمسلمين، وفي زمن آخر مصدر: الجبن
والكسل والتواني والتواكل والإهمال. وأكثر الذين يتكلمون في ضعف المسلمين
وأسبابه غافلون عن هذه القاعدة وجاهلون حقيقة الدين، فهم يجعلون المسلمين حجة
على دينهم والدين حجة عليهم، بدليل أثره في سلفهم أيام كانوا بدينهم سادات العالم
في كل علم وكل عمل، ومن البديهي أن الناس يتمسكون بالدين في أول ظهوره أشد
مما يتمسكون به بعد أن يطول عليهم الأمد، وتكون معرفتهم بحقيقته في أول العهد
به أصح وأقوى منها بعد ذلك.
إن السائل أو المنتقد لم يطلع فيما يظهر لنا على ما كتبناه في هذه المسألة
بقصد إيضاحها في السنين الأولى للمنار، وإننا وإن أطلنا القول فيها من قبل، نذكر
فيها الآن جملاً وجيزة، يتجلى بها الحق لمن يطلب الحق بذاته لذاته بعد الإعراض
عن النظريات الفلسفية المشهورة في المسألة، وهاك ما نريد بيانه الآن:
(١-القضاء) كان السلف يسمي هذه المسألة (مسألة القدر) ، ثم صار
الناس يقولون مسألة القضاء والقدر , وقد ورد لفظ القضاء ولفظ القدر في الكتاب
العزيز بمعان مختلفة؛ لأنهما من الألفاظ المشتركة في اللغة العربية.
ورد القضاء بمعنى: الفصل والحكم في الشيء قولاً وفعلاً، وبمعنى الإعلام
به، وبمعنى إتمام الشيء وإنهائه، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: ٢٣) أي حكم بذلك قولاً في الكتاب المنزل على رسوله. وقال: {إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} (يونس: ٩٣) أي يحكم ويفصل بالفعل، وقال:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} (الإسراء: ٤) ... إلخ وقال:
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} (الحجر:
٦٦) وكلاهما بمعنى: الإعلام بذلك والإخبار بوقوعه، وقال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: ١٢) أي أتم خلقهن. وقال {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى
الأَجَلَ} (القصص: ٢٩) أي أتمه. وأكثر ما ورد من هذا اللفظ قد جاء بهذا
المعنى.
ولم يرد في القرآن لفظ في القضاء يظهر فيه معنى المشيئة، ويكون أصلاً
فيما نحن فيه إلا قوله {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن
فَيَكُونُ} (البقرة: ١١٧) - {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: ٤٧) ومثله في ٣٦: ١٩ و ٤٠: ٦٨ فالآية
الأولى في مقام خلق السماوات والأرض، والثانية والثالثة في مقام عيسى عليه
السلام، والرابعة في مقام ذكر الإحياء والإماتة. وقد ورد هذا المعنى نفسه بلفظ
الإرادة قال تعالى {أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم
بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس:
٨١-٨٢) والمعنى في التعبيرين واحد، وهو مما لم تختلف فيه الأديان: فاليهود
الذين سأل سائلهم المسلمين مستشكلاً معنى القضاء بتلك الأبيات التي أولها:
أيا علماء الدين ذِميُّ دينكم ... تحير ردوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
يقولون بذلك , وقد أجبنا عن سؤاله في (ص ٥١٢ م٣) وأجاب قبلنا غير
واحد منهم ابن تيمية الذي أورد السائل بعض أبياته. وكذا النصارى الذين منهم
الأوربيون، لا ينكرون كون الله - تعالى - إذا قضى أمرًا وأراده ينفذه بقدرته حالاً
كما هو مفهوم العبارة (ويراجع تفسيرها في المنار وفي ص ٣١٩ من ج ٣ تفسير)
لأنه لو عجز عن إيجاد ما يريد لم يكن إلهًا، والإشكال في مسألة القضاء الإلهي
فرع الإيمان بوجود الله؛ إذ لا معنى للبحث في الفرع مع إنكار الأصل. فحاصل
معنى القضاء في هذا المقام: أن الله - تعالى - إذا أراد شيئًا أو أنفذه وأتمه، فإنما
يكون ذلك على نحو أن تقول للشيء: كن فيكون، بلا إمهال ولا تمكث، ولا
إشكال في هذا عند من يؤمن بالله، مهما كان دينه.
(٢- القدر) القدر (بفتح الدال وسكونها) والمقدار والتقدير ألفاظ وردت
في القرآن بمعنى: جعل الشيء بقياس مخصوص، أو وزن محدود، أو وجه معين
يجري على سنة معلومة، فهي داخلة في معنى النظام والترتيب، قال تعالى:
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} (المؤمنون: ١٨) أي بمقدار
معين له نظام يتعلق بتشبع الجو بالبخار ودرجة برودة الهواء، كما قال: {أَنزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد: ١٧) أي بمقدار ما يسعه كل واد
من الماء. وقال بعد أن ذكر بروج السماء وكواكبها، والأرض ورواسيها وإنباته
فيها] مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون [، وما فيها من أسباب المعايش {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر: ٢١) وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: ٤٩) فهذا القدر العام بمعنى ذلك القدر الخاص أيضًا،
وقال في العموم بعد ذكر أمور خاصة {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ
الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: ٨) أي إن لكل شيء من
مخلوقاته سننًا ونواميس ومقادير منتظمة؛ كسننه في حمل الإناث وعقمها وزيادة
علوق الأرحام ونقصها. ومن ألفاظ التقدير في مقام التخصيص قوله عز وجل:
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ} (يس: ٣٩) وقال في ذلك:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ} (يونس: ٥) وقال في خلق الإنسان: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن
نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} (عبس: ١٨-١٩) وبيَّن هذا التقرير بالانتقال من طور إلى
طور في أول سورة المؤمنين. وقال في الزمن: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (المزمل: ٢٠) وقال في سرد الدروع وصنعها خطابًا لداود - عليه السلام -
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} (سبأ: ١١) والتقدير في نسج الدرع هو
جعل حلقها متساوية ونظامها واحد. وقال في الطرق وترتيب السَّيْر بين قُرَاها في
قصة سبأ {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ
سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: ١٨) وقال في التعميم: {وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: ٢) ?.
فعلم من هذه الشواهد كلها: أن عقيدة القدر والمقدار والتقدير في كتاب الله
الذي هو أصل الإسلام وأساسه، هي التي تعلم المؤمنين بهذا الكتاب أن لهذا الكون
نظامًا محكمًا، وسننًا مطردة ارتبطت فيها الأسباب بالمسببات، وأنه ليس في خلق
الرحمن خلل ولا تفاوت، ولا فيه قذفات مصادفات، ولا خلل استبداد، وأنه لا
استئناف في الإيجاد والإمداد، ومن فائدة هذا الاعتقاد أن أهله يكونون أجدر الناس
بالبحث في نظام الكائنات، وتعرف سنن الله في المخلوقات، وطلب الأشياء من
أسبابها، والجري إليها في سننها، ولا نعلم أن هذا البيان كان مفصلاً في الديانات
السابقة. ولكني أقول: إنه لا يقول عاقل شم رائحة العلم أو ذاق طعمه: إن هذا
الاعتقاد هو سبب تأخر المسلمين، كيف؟ ! وإنه لهو الجدير بترقيتهم، وإن
أكثرهم أمسوا جاهلين لهذه الحقائق؛ لأنهم لا يأخذون دينهم من القرآن، وإنما
يأخذونه من كتب بعض الأموات.
(٣- القدرية) كان السلف الصالحون يفهمون القدر بهذا المعنى؛ ولذلك
ضللوا القدرية الذين أنكروا الأسباب، وقالوا: (الأمر أُنُف) أي إن الله - تعالى-
يستأنف ويبتدئ ما يريد إيجاده، كلُّ شيء في وقته من غير تقدير، ولا نظام
سابق تجري عليه سنته فيه ولا أسباب يرتبط بعضها ببعض، بل قال قدماؤهم:
من غير علم سبق، وإنما يعلم الشيء عند وقوعه. وقد كفر هذه الفرقةَ السلفُ
الصالحون، وهي قد حدثت في عصر الصحابة. تلقى بدعتهم هذه معبد الجهني
عن سيسويه المجوسي. ففي صحيح مسلم وكتب السنن الثلاثة أن عبد الله بن عمر
- رضي الله عنه - سُئِل عنهم، فقيل له: إنه قد ظهر فينا ناس يقرءون القرآن،
ويتفقدون العلم، وذكر السائل (وهو يحيى بن يعمر) من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا
قدر وأن الأمر أنف. فقال ابن عمر: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم،
وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُد ذهبًا
فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم ساق حديث جبريل وفيه (وتؤمن بالقدر
خيره وشره) أي إن كلاًّ من الخير والشر يجري في الكون بمقادير،
وموازين وسنن، وأسباب اقتضتها الحكمة البالغة. ومن مذهبهم أن الإنسان إذا
فعل شيئًا، فإنما يفعله أنفًا أيضًا، من غير أن يكون لله تعالى علم سابق بذلك،
أو سنة يجري عمل الإنسان عليها، فالإنسان مستقل بذلك تمام الاستقلال. ثم
إن المتأخرين منهم اعترفوا بأن لله- تعالى - علمًا أوليًّا بالأشياء. ولكنهم أنكروا أن
يكون له إرادة تتعلق بأفعال العباد؛ مع أن معنى الإرادة هو وقوع الفعل من العالم
على حسب علمه.
(٤- الجبرية) غلا أولئك فوقفوا في طرف، وعبدوا الله على حرف، فجاء
بعدهم آخرون وقفوا على الطرف المقابل لطرفهم وهم الجبرية، فقالوا: إن الإنسان
ليس له عمل ولا قدرة، وإنما هو كالريشة المعلقة في الهواء تحركها الأقدار، من
غير أن يكون لها إرادة ولا اختيار. وإننا نرى أكثر الناس لا سيما المتفرنجين منهم
يظنون أن عقيدة الجبر هي عقيدة القضاء والقدر؛ لأن ألفاظ الجبر راجت في
المسلمين بواسطة جهلة المتصوفة، كما بينا ذلك مرارًا كثيرة. آخرها ما في بحث
التوكل والأسباب من (ج ١١ م ١١) ، وقد أوردنا فيه الآيات والأحاديث وأقوال
السلف في إثبات الأسباب وإسناد عمل الإنسان إليه. فإذا قال القائل: إن الجبر من
أسباب ضعف المسلمين، فطالما أيدنا هذا القول. ولكن الجبر ما جاء المسلمين عن
دينهم، وإنما جاءهم من فلسفتهم التي لونوها بصبغة الدين لما وقعوا في جميع
علومهم وأعمالهم الدنيوية، وهذه الفلسفة شرع بينهم وبين جميع الأمم حتى الإفرنج
كما نبينه في المسألة السابقة، وكأن السائل صاحب الإشكال نسي هذا وما فيه من
تفنيد النزعات الجبرية، حتى ردنا على الإمام الغزالي في بعض ما أورده فيها
بعبارة الأستاذ الإمام المختصرة، فألصق بها تلك الشبهات المشهورة في المسألة.
(٥- متأخرو المسلمين) المسلمون في هذه الأزمنة الأخيرة قد اختلط عليهم
الأمر؛ لعموم الجهل وفساد طرق التعليم حيث يوجد؛ ولذلك ترى في كلامهم ما
يدل تارة على شيء من عقيدة القدرية، وتارة على عقيدة الجبرية، وتارة على
عقيدة المعتزلة، وقد بينا في العدد الثاني من سنة المنار الأولى: أن الواحد منهم
يجمع بين العقائد المختلفة (لاضطراب اعتقاده وعدم تلقيه عن العارفين. فإن
المسلمين في فوضى دينية وعلمية؛ لأنه ليس لهم رياسة دينية ولا مدارس منتظمة)
وإنهم في الغالب يميلون إلى الجبرية في المسائل المتعلقة بإقامة الدين أو خدمة الأمة
والقيام بالمصالح العامة، وإلى عقيدة المعتزلة أو القدرية في المسائل الدنيوية فلا حجة
في حالهم على الإسلام، بل الإسلام حجة عليهم.
(٦-المتكلمون) إن علماء الكلام سلكوا الطريقة النظرية العقلية في الرد
على المخالفين من الملاحدة والمبتدعة، ورد الأشاعرة على المعتزلة والقدرية
والجبرية. والمسائل النظرية مثار الشبهات والإشكاليات، وبذلك دخلت مسألة
القضاء والقدر في قالب فلسفي نظري وكثر فيها القيل، والقرآن فوق ذلك كله لا
تمسه الأوهام، ولا تنال منه الشبهات كما علمت. وإنما هي مباحث فلسفية تتعلق
بقدرة الله وإرادته، وبخلق الإنسان وغرائزه، وارتباط أعماله بعلمه وإدراكه،
وهي مشتركة بين جميع الأمم، ولا يوجد مذهب من المذاهب التي قال بها فلاسفة
المسلمين من أهل الكلام والتصوف إلا وقد قال بمثلها غيرهم، ويقول بها بعض
علماء أوربا اليوم.
(٧- فلسفة المسلمين والإفرنج في الجبر) كان من فلسفة المسلمين في
الجبر الذي ألبس ثوب القضاء والقدر أن عمل الإنسان أثر طبيعي؛ لاعتقاده
بالمنافع والمضار وشعوره باللذات والآلام، فهو يتبع علمه بذلك، وعلمه صفة من
صفاته أو حال من أحواله، لا يمكن دفعها ولا الانسلاخ منها، والعلم بقسميه يحرك
الإرادة، والإرادة تزعج القدرة التي تحرك الأعضاء للعمل، وهي سلسلة ضرورية
لا يملك الإنسان باختياره إبطالها، ولا الفصل بين حلقاتها، أو منع تحرك الأخرى
إحداها بحركة الأخرى. وللغزالي شرح طويل لهذا المعنى أورد له مثالاً بليغًا،
وجرى على هذا فلاسفة الإفرنج، وأيدوا المسألة بمباحثهم الفيسولوجية
والبسيكلوجية، فقالوا: إن أعمال الإنسان آثار طبيعية منعكسة عما في مخه من
الآثار التي وصلت إليه من طريق الحواس، أو ثبتت فيه بتأثير الوراثة والعادات.
فالأعصاب الحساسة تلقي ما تحمله من إدراك الحواس إلى المخ، ثم يعود منه إلى
الأعضاء العاملة بواسطة الأعصاب المحركة التي تحرك العضلات بالفعل. فما في
المخ ينعكس إلى العضلات بواسطة الأعصاب فيحركها بسرعة أو ببطء، فما كان
بسرعة لا نشعر بأن لنا فيه اختيارًا، وما كان ببطء نشعر به، فنسمي ذلك اختيارًا
وهو حتم لا يمكن التفصي منه. وقد سبق البحث في ذلك في المجلد العاشر.
وغرضنا مما أوردناه الآن أن نبين للسائل أن الإفرنج أعرق من المسلمين في هذه
العقيدة الجبرية، فلا يخافن من تسجيلهم الضعف على المسلمين بمثل ذلك.
وإذا قال: إن هذا القول لا يخلو من شبهة على الدين، قلنا: إنه ليس على
الإسلام وحده، بل شبهة على النصرانية أيضًا، وموضوع سؤال السائل أن عقيدة
القدر عند المسلمين من العقائد المشكلة والضارة بمعتقديها، وقد بينا أن الأمر فيها
ليس كذلك. بل ربما كانت الشبهة على الإسلام هنا، ضد الشبهة التي هي موضوع
السؤال أو نقيضها، بأن يقال: إن الإسلام يثبت للإنسان عملاً ومشيئة واختيارًا؛
وبذلك جعله مكلفًا مطالبًا بالأعمال الحسنة. وإن فلسفتنا تقول لنا: إنه لا مشيئة له
في الحقيقة، بل هو مجبور مضطر في جميع ما يصدر عنه بمقتضى ذلك النظام
المطرد المنعكس في التأثر والتأثير بين مخه وأعصابه وعضلاته، فإذا كان لهذا
الوجود وما فيه من النظام مصدر واجب قديم، فيجب إسناد الأفعال التي هي أثر
الانعكاس بين مخه وعضلاته إلى ذلك المصدر الواضع هو لنظامه؛ وهو الله-
سبحانه - وإلا فإلى الضرورة العمياء، التي أبدعت هذه العوالم كلها من الهباء
(أريت كيف أن باب المباحث العلمية والنظرية في المسألة واسع جدًّا، حتى إنه
يمكن كتابة أسفار كثيرة فيه؟) .
(٨- حكم الإسلام في عمل الإنسان) إن دين الفطرة لا يكلف الناس عناء
هذه الفلسفة، ولا يمنعهم النظر فيها، وإنما يرشدهم إلى الاعتقاد الحق الذي لا
يضر معه بحث، بل يمكن معه الاستفادة من كل بحث، وهو أن الله تعالى خلق كل
شيء بحكمة ونظام؛ وقدر سابق على الفعل تجري عليه السنن العامة
(النواميس) . وإن معرفة المخلوقات إنما تكون بالنظر فيها مع التأمل والبصيرة،
وإن منها نوع الإنسان الذي يعمل عن علم بما يعمل، يرجح به ما يراه صوابًا على
ما يراه خطأ، فيكثر صوابه بمقدار سعة علمه بالواقع وأسبابه، ويكثر خطؤه على
قدر جهله بالحقائق وسننها؛ لأنه يسير في ذلك على سنن الله في خلقه وقدره الذي
قام به نظام ملكه {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: ٨) وأن عليه أن يتحرى
العلم الصحيح بالمصالح والعمل الصالح بحسب ما يشعر به من قدرته، وتمكنه من
ذلك مهما كانت علة ذلك وفلسفته. ونعني بالعلم هنا ما يستفاد ولو بالعادة والتربية؛
أي ما يعم العلم النظري، والعلم الحسي والوجداني، والعلم العملي؛ أي الذي
يطبعه العمل في النفس.
(٩- علم الله بعمل الإنسان واختياره) إن سبق علم الله بما سيعمله الإنسان
وتقديره له، ووضع سنن اجتماعية يسير عليها في عمله - لا ينافي شيءٌ من ذلك
كونَه خلقه ذا علم وإرادة وعمل، فإن كونه كذلك هو أمر ثابت في نفسه معلوم
بالحس والوجدان، وهما أقوى أركان البرهان، ولا يقال إذا كان قد سبق في علمه
تعالى أن فلانًا سيفعل كذا فلا بد أن يفعل فيكون مجبورا على فعله؛ لأن متعلق العلم
الإلهي لا بد أن يكون وإلا لزم الجهل، فإنا نقول: إنما يصح هذا إذا كان قد سبق في
علم الله أنه يفعله مجبورًا. ولكن إذا سبق في العلم الأزلي أنه يفعله مختارًا
فلماذا لا نقول: إنه يجب أن يكون مختارًا في فعله لما ذكرتم من الدليل؟ ويرد
مثل هذا في أفعاله تعالى؛ فإنها تقع وتحدث بحسب العلم الأزلي، ولا يقال: إنه
تعالى مجبور عليها. كيف؟ ! وإن معنى الاختيار للفعل هو أن يكون تابعًا لعلم
الفاعل الذي يرجحه به على غيره، سواء كان العلم بذلك ضروريًّا أم كسبيًّا أو
نظريًّا، هذا هو المعنى الذي نسميه اختيارًا، فإن سماه غيرنا اضطرارًا أو اسمًا
آخر، فإنما يكون الخلاف بيننا في التسمية ولا مشاحة في الاصطلاح. وهذه
المسألة التي تعد من مشكلات عقيدة القدر إن صح استلزامها الجبر، ليست في
الحقيقة من عقيدة القدر في شيء؛ ولكنها مما يرد في مباحث العلم والإرادة، وقد
حللناها كيفما كانت.
(١٠- حكمة الجزاء على الأعمال) يبقى من المشكلات في هذا الباب مسألة
أخرى عدوها من لوازم عقيدة القدر؛ وهي كيف يجازي الله الناس على أعمال لا
مندوحة لهم عنها؛ لأنهم غير مختارين فيها؟ ونجيب عنها جوابًا غير إثبات
الاختيار ومنع الجبر، فنقول: إن الجزاء على الأعمال هو أثر طبيعي لها في الدنيا
والآخرة، وذلك أنه ما فرضت علينا طاعة؛ إلا وهي نافعة لنا في تهذيب نفوسنا
وسلامة أبداننا وحفظ حقوقنا وغير ذلك، وما حرم علينا شيء إلا لأنه ضار بنا في
أشخاصنا أو في نظامنا الاجتماعي؛ ولذلك قالوا: إن التكليف يقوم بحفظ الكليات
الخمس: الدين والعقل والعرض والشخص والمال. ثم إن كل عمل يعمله الإنسان
يكون له أثر في نفسه؛ إما في تزكيتها فتفلح وتسعده، وإما في تدسيتها وإفسادها
فتخيب وتشقى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: ٩-١٠)
ويظهر أثر ذلك تامًّا كاملاً في الآخرة؛ ولذلك قال {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ} (آل عمران: ١٨٥) تقدم تفسيرها في هذا الجزء، وقد بينا كون
الجزاء أثرًا لازمًا للعمل بحسب سنة الله - تعالى - في مواضع كثيرة من التفسير
وغير التفسير، فلا نطيل فيه هنا، فالبحث فيه ينبغي أن يكون من البحث في نظام
العالم وسنن الكون والاجتماع.
(١١- الخلاصة) خلاصة ما تقدم وهو القول الفصل: أن الإسلام أمر
الناس بالعلم والعمل؛ لما يجدون في أنفسهم من القدرة والاختيار، وعلمهم أن الله
خلق كل شيء بقدر ونظام، وأنه لا يعجزه شيء، فإذا قضى أمرًا وأراده يقع بلا
تخلف ولا بطء، وأن له سننًا ونواميس ينبغي لهم أن يعرفوها، وأن لأعمالهم جزاء
هو أثر طبيعي لها، يكون بعضه في الدنيا وتمامه في الآخرة. وقد انتفع المسلمون
بهذا ما فقهوه، ولم تضرهم إلا فلسفتهم المخالفة له.
هذا ما وسعه المقام لبيان الحق في هذه العقيدة، وما يتعلق بها ويضاف إليها،
وقد سلكنا سبيل الإيجاز في كل مسألة من المسائل العشر؛ لما سبق لنا من البحث
فيها من قبل، ولأن باب الفتاوى لا يسع أكثر من ذلك، فإن اشتبه السائل أو غيره
في شيء منها؛ فليسأل عنه وليختصر في السؤال بقدر الإمكان.