المكاتبات بين أمير مكة بالأمس وملك الحجاز اليوم وبين نائب ملك الإنكليز بمصر لا يزال جمهور المشتغلين بالسياسة من عرب الأقطار السورية والعراقية ومصر يجهلون أسباب الثورة التي قام بها أمير مكة بمساعدة بعض السوريين والعراقيين؛ لأنه كان يكتم ما دار بينه وبين معتمد الدولة البريطانية في مصر، وما اتفقا عليه، حتى عن أولاده قواد جيوشه، وإنما كان يمنِّيهم بأن الذي تقرر، واتفق عليه الفريقان هو استقلال جميع البلاد العربية العثمانية، وجعْلها مملكة عربية حرة له! ، وقد ظهر بعد ذلك أن ما عرضه على إنكلترة، فقبلت بعضه بقيود، وشروط - يجعل البلاد تحت حمايتها في الداخل والخارج! وقد كان جميع أنصاره وأنصار أولاده الأمراء موالين للدولة البريطانية إلى أن انكشف الغطاء، وظهر ما كان مِن اتفاقها مع فرنسة على قسمة الولايات العربية بينهما من حدود مصر، والبحر الأحمر إلى خليج فارس، واحتل كل منهما حصته، وتصرف فيها تصرف المالك فيما ورثه عن آبائه وأجداده من الأرض، فعند هذا رجع بعضهم عن موالاتها، وتعليق الآمال بها دون بعض. ثم نشر الأمير فيصل في دمشق نص المعاهدة التي أخذها من والده؛ ليحتج بها على الحكومة البريطانية، وظهر منها أنها تتضمن حمايتها لجميع البلاد العربية التي طلب استقلالها؛ ليكون ملكها، فخابت آمال أناس آخرين، وسكتوا عن التبجُّح أو الاحتجاج بذلك العهد أو الوعد، ولكن لا يزال لهم أنصار يتولونهم، ويتولونها، وأنصار يتولونها من دونهم، وآخرون يتولونهم من دونها، ولا يزال فيهم مَن يطالب الدولة البريطانية بما تطالبها به جريدة (القبلة) بالأقوال الرسمية وغير الرسمية بأن تفي بعهدها، وتنجز وعدها لملك الحجاز، بل ملك العرب كلها، ومن العجائب أن يكون كثير من أهل فلسطين من هؤلاء الأولياء الذين يسمون ملك الحجاز (بالمنقذ) ، وإنما أنقذهم من حكم الدولة العثمانية الإسلامية، الرحيمة المساوية بينهم وبين الترك في كل الحقوق، ووضعهم بثورته تحت حكم سيطرة الدولة البريطانية، والشيعة اليهودية الصهيونية، ولا يزال يوجد فيهم مَن يظن أن وفاء الدولة البريطانية بوعدها ينيلهم الاستقلال، كما يظن أولياؤه في سورية الشمالية أنه ينقذهم من فرنسة، ولو بجعلهم تحت انتداب إنكلترة أو حمايتها، وإن كانوا لا يجهلون أن انتدابها كان شرًّا على فلسطين من انتداب فرنسة على سائر سورية؛ فإن كان الضغط على العراقين دون الضغط عليهم، فسببه أن حال العراقيين كانت خيرًا من حالهم، وإنما تنال الشعوب باستعدادها وأعمالها، لا بأمانيها وأقوالها. ندع هؤلاء الأغرار يتخبَّطون في غرارتهم وغرورهم إلى أن يعلم الزمان مَن كان قابلاً للعلم، ويربي مَن كان قابلاً للتربية، ونساعد الزمان على ذلك ببيان ما تمحَّص من الحقائق، ونشر ما نعلم من البينات والوثائق؛ لتكون عبرة للمعتبرين، وحجة على الجاهلين والمكابرين. كلما دخلت مسائل الشرق في طور جديد ترى المتَّكلين على صاحب الحجاز وأولاده من السوريين - ولا سيما الفلسطينيين منهم - عادوا إلى نغمة المعاهدة بين الملك حسين والإنكليز يطالبون بها، ويزعمون أن الملك حسينًا وضعها، وأمضاها باسم الأمة العربية لا باسمه وحده، ونسأله تعالى أن يكفي هذه الأمة العربية شر تلك المعاهدة التي يريدون استعباد الأمة العربية بها. ألا أيها النائمون أفيقوا، ويا أيها المخدوعون بأقوال العائشين من فضلات آكِلِي أثمان أمتكم وبلادكم تنبَّهوا، قد آن لكم أن تعلموا أن تلك القصاصة من الورق التي يسميها الملك حسين (مقررات النهضة) ، ويسميها النافخون ببوقه المعاهدة الإنكليزية العربية، هي وثيقة من الملك حسين بجعْل البلاد العربية كلها، حتى الحجاز تحت حماية الحكومة البريطانية في داخلها وخارجها، وتنص على إعطائها الحق باحتلال ولاية البصرة لتأمين السيطرة على العراق، فيجب على كل عربي مخلص لأمته وبلاده أن يرفضها، وينكر أن يكون لواضعها أدنى حق في وضعها، والافتيات على حقوق مسلمي الأرض في الحجاز، وحقوق زعماء الأمة العربية في الجزيرة وسورية والعراق بوضْعه هذه الوثيقة الموجبة لاستعبادهم، وتصرف الإنكليز في بلادهم. هذه المقررات هي التي نشرها الأمير فيصل قائد الجيش الشرقي لدول الحلفاء- يوم نشرها - وملك العراق اليوم في جريدة المفيد، ونشرناها في المنار نقلاً عنها، وإننا نعيد اليوم نشرها مع الوثائق الأخرى المتعلقة بها، التي أشار الملك فيصل إلى أن الإنكليز اعترفوا بها، ولم يعترفوا بوجود معاهدة، وهذا نصها بالمعنى الصحيح الذي كتبه والده: صورة ما تقرر مع بريطانيا العظمى بشأن النهضة العربية (١) تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس، ومن الغرب بحر القلزم، والحدود المصرية، والبحر الأبيض وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات، ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس، ما عدا مستعمرة عدن، فإنها خارجة عن هذه الحدود! ، وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود - بأنها تحل في محلها في رعايته وصيانة تلك الحقوق وتلك الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد. (٢) تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي مداخلة كانت بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء، أو من حسد بعض الأمراء فيه، تساعد الحكومة المذكورة مادةً ومعنًى على دفع ذلك القيام لحين اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة، أي لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية. (٣) تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود يُراعَى فيه حالة احتياج الحكومة العربية، التي هي حكمها قاصرة في حِضن بريطانيا، وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال. (٤) تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة، ومهماتها، والذخائر، والنقود مدة الحرب. (٥) تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين، أو ما هو مناسب من النقط من تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد لعدم استعدادها (انتهى) . (المنار) هذا ما كتبه الملك حسين بن علي إذ كان أمير الحجاز من قِبَل الدولة العثمانية إلى السر هنري مكماهون؛ ليعرضه على دولته، ويقنعها بأن ترضى بجعْله الأساس الذي تُبنَى عليه ثورة أمير مكة على دولته! ، وملخصها أن إنكلترة هي التي تؤسس الحكومة العربية، وهي التي تتولى حمايتها، وحفظ حدودها، وحفظ الأمن فيها للاعتراف بأنها قاصرة في حجر إنكلترة القيِّمة عليها! ، ولكن دولته لم ترضَ بجعْل هذه القواعد معاهدة بينها وبين أمير مكة، بل طفق مندوبها السامي بمصر يناقشه فيها، ويلهيه عن المهم منها، وكلما اعترف لهم بشيء اتخذوه حجة عليه، يحفظونها إلى وقت الحاجة، وأعظم حُججهم عليه جعْل جميع البلاد العربية تحت حمايتهم. وقد نشر الملك فيصل بعض ما جاء في أحد كتب السر هنري مكماهون إلى والده بشأن الحدود، وقد آن لنا نحن أن ننشر النصوص التي يهمنا أمرها من تلك الكتب؛ لأن ما نُشر لم يكفِ لإزالة اللبس، وكشف القناع عن الغش، وما لنا لا ننشرها وقد تداولتها الأيدي في الشرق والغرب؟ ! أُرسلت تلك (المقررات) من مكة إلى مصر في ضمن كتاب للسر هنري مكماهون في ٢٧ شعبان سنة ١٣٣٣، وهاك ما أجابه في أول كتاب بعدها: *** الكتاب الأول (من نائب ملك الإنكليز بمصر إلى أمير مكة في شأن الثورة الحجازية) (في ١٩ شوال سنة ١٣٣٣ الموافق ٣٠ أغسطس سنة ١٩١٥) كتاب من السر آرثر مكماهون نائب ملك الإنكليز بمصر في ١٩ شوال سنة ١٣٣٣ - ٣٠ أغسطس سنة ١٩١٥ إلى السيد الحسيب النسيب، سلالة الأشراف، وتاج الفخار، وفرع الشجرة المحمدية، والدوحة القرشية الأحمدية، صاحب المقام الرفيع، والمكانة السامية السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الجليل المبجل دولتلو الشريف حسين، سيد الجميع، أمير مكة المكرمة، قبلة العالمين، ومحط رحال المؤمنين الطائعين، عمت بركته الناس أجمعين! . بعد رفع رسوم وافر التحيات العاطرة، والتسليمات القلبية الخالصة من كل شائبة - نعرض أن لنا الشرف بتقديم واجب الشكر لإظهاركم عاطفة الإخلاص وشريف الشعور والإحساسات نحو الإنكليز، وقد يسرنا علاوة على ذلك أن نعلم أن سيادتكم ورجالكم على رأي واحد، وأن مصالح العرب هي نفس مصالح الإنكليز، والعكس بالعكس؛ ولهذه النية، فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد كتشنر التي وصلت إلى سيادتكم عن يد علي أفندي وهي التي كان موضحًا بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها، مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها، وإننا نصرح هنا - مرة أخرى - أن جلالة ملك بريطانيا العظمى رحب باسترداد الخلافة إلى عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة. وأما من خصوص مسألة الحدود والتخوم فالمفاوضة فيها تُظهر أنها سابقة لأوانها، وتصرف الأوقات سُدى في مثل هذه التفاصيل؛ في حالة أن الحرب دائرة رحاها؛ ولأن الأتراك لا يزالون محتلين لأغلب تلك الجهات احتلالاً فعليًّا، وعلى الأخص ما علمناه - وهو مما يدهش ويحزن - أن فريقًا من العرب القاطنين بتلك الجهات نفسها قد غفل وأهمل هذه الفرصة الثمينة التي ليس أعظم منها، وبدل إقدام ذلك الفريق على مساعدتنا نراه قد مد يد المساعدة إلى الألمان والأتراك! نعم، مد يد المساعدة لذلك السلاب النهَّاب الجديد وهو الألمان، وذلك الظالم العَسوف وهو الأتراك، ومع ذلك فإنَّا على كمال الاستعداد لأن نرسل إلى ساحة دولة السيد الجليل ما للبلاد العربية المقدسة، والعرب الكرام - من الحبوب والصداقات المقررة من البلاد المصرية، وستصل بمجرد إشارة سيادتكم، وفي المكان الذي تعينونه، وقد عملنا الترتيبات اللازمة لمساعدة رسولكم في جميع سفراته إلينا، ونحن على الدوام معكم قلبًا وقالبًا، مستنشقين رائحة مودتكم الذكية، ومستوثقين بعُرى محبتكم الخالصة، سائلين الله سبحانه وتعالى دوام حسن العلائق بيننا. وفي الختام أرفع إلى تلك السدّة العليا كامل تحياتي وسلامي، وفائق احترامي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... السير ... ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر مكماهون ... ... ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك وقد أجاب الشريف حسين على هذه الكتاب بكتاب مؤرخ في ٢٩ شوال يُلِحُّ فيه بقبول تلك الحدود المعينة فيما سماه (مقررات النهضة) ، فأجابه بالكتاب التالي: *** كتاب ثانٍ (من نائب الملك آرثر مكماهون إلى الشريف حسين) (في ١٥ ذي الحجة سنة ١٣٣٣) بسم الله الرحمن الرحيم إلى فروع الدوحة المحمدية، وسلالة النسب النبوي، الحسيب النسيب، دولة صاحب المقام الرفيع، الأمير المعظم، السيد الشريف ابن الشريف، أمير مكة المكرمة، صاحب السدة العليا، جعله الله حِرْزًا منيعًا للإسلام والمسلمين، بعونه تعالى، آمين، وهو دولة الأمير الجليل الشريف حسين بن علي أعلى الله مقامه. قد تلقيت بيد الاحتفاء والسرور رقيمكم الكريم المؤرخ بتاريخ ٢٩ شوال سنة ١٣٣٣، وبه من عباراتكم الودية المحضة وإخلاصكم ما أورثني رضاءً، وحبورًا. إني متأسف أنكم استنتجتم من عبارة كتابي السابق أن قابلت مسألة الحدود والتخوم بالتردد والفتور؛ فإن ذلك لم يكن القصد من كتابي قط، ولكني رأيت حينئذٍ أن الفرصة لم تكن قد حانت بعد للبحث في ذلك الموضوع بصورة نهائية، ومع ذلك فقد أدركت من كتابكم الأخير أنكم تعتبرون هذه المسألة من المسائل الهامة الحيوية المستعجلة؛ فلذلك فإني قد أسرعت في إبلاغ حكومة بريطانيا العظمى مضمون كتابكم، وإني بكمال السرور أبلِّغكم بالنيابة عنها التصريحات الآتية التي لا شك في أنكم تُنزلونها منزلة الرضى والقبول: إن ولايتي مرسين وإسكندرونة، وأجزاءً من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام، وحمص، وحماة، وحلب - لا يمكن أن يقال: إنها عربية محضة، وعليه يجب أن تُستثنَى من الحدود المطلوبة. وأما من خصوص الأقاليم التي تضمها تلك الحدود - حيث بريطانيا العظمى مطلقة التصرف (؟) بدون أن تمس مصلحة حليفتها فرنسا (؟) - فإني مفوَّض من قِبَل حكومة بريطانيا العظمى أن أقدم المواثيق الآتية، وأجيب على كتابكم بما يأتي: (١) أنه مع مراعاة التعديلات المذكورة أعلاه، فبريطانيا العظمى مستعدة بأن تعترف باستقلال العرب، وتؤيد ذلك الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في الحدود التي يطلبها دولة شريف مكة. (٢) أن بريطانيا العظمى تضمن الأماكن المقدسة من كل اعتداء خارجي، وتعترف بوجوب منْع التعدي عليها. (٣) وعندما تسمح الظروف تمد بريطانيا العظمى العرب بنصائحها، وتساعدهم على إيجاد هيئات حاكمة ملائمة لتلك الأقاليم. (٤) هذا، وإن المفهوم أن العرب قد قرروا طلب نصائح وإرشادات بريطانيا العظمى وحدها، وأن المستشارين والموظفين الأورباويين لتشكيل هيئة إدارة قوية، يكونون من الإنكليز. (٥) أما من خصوص ولايتي بغداد والبصرة فإن العرب تعترف أن مركز ومصالح بريطانيا العظمى الموطدة هناك - تستلزم اتخاذ تدابير إدارية مخصوصة لوقاية هذه الأقاليم من الاعتداء الأجنبي، وزيادة خير سكانها، وحماية مصالحنا الاقتصادية المتبادلة. وإني متيِّقن بأن هذ التصريح يؤكد لدولتكم - بدون أقل ارتياب - ميل بريطانيا العظمى نحو رغائب أصحابها العرب، وتنتهي بعقد محالفة (؟) دائمية ثابتة معهم، ويكون من نتائجها المستعجلة طرد الأتراك من بلاد العرب، وتحرير الشعوب العربية من نَيْرِ الأتراك، الذي أثقل كاهلهم السنين الطوال. ولقد اقتصرتُ في كتابي هذا على المسائل الحيوية ذات الأهمية الكبرى، وإن كان هناك مسائل في خطاباتكم لم تُذكر هنا، فنعود إلى البحث فيها في وقت مناسب في المستقبل! ولقد تلقيت بمزيد السرور والرضى خبر وصول الكسوة الشريفة وما معها من الصدقات بالسلامة، وأنها بفضل إرشاداتكم السامية - قد أُنزلت إلى البر بلا تعب ولا ضرر، رغمًا من الأخطار والمصاعب التي سبَّبتها هذه الحرب المحزنة، ونرجو الحق سبحانه وتعالى أن يعجل بالصلح الدائم والحرية لأهل العالم! إني لمرسل خطابي هذا مع رسولكم النبيل الأمين الشيخ محمد بن عارف بن عريفان، وسيعرض على مسامعكم بعض المسائل المفيدة التي هي في الدرجة الثانية من الأهمية، ولم أذكرها في كتابي هذا. وفي الختام أبث دولة الشريف، ذا الحسب المنيف، والأمير الجليل - كامل تحيتي، وخالص مودتي، وأعرب عن محبتي له ولجميع أفراد أسرته الكريمة، راجيًا من ذي الجلال أن يوفقنا جميعًا لما فيه خير العالم، وصالح الشعوب، إن بيده مفاتيح الأمر والغيب، يحركها كيف شاء، ونسأله تعالى حسن الختام والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك السير ... ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر مكماهون (المنار) رد الشريف على هذا الكتاب بجواب يعترف فيه بأن ولايتي مرسين وأدنه ليستا داخلتين في حدود البلاد العربية التي يطلبها، ويقبل تأجيل البحث في ولايتي حلب وبيروت إلى ما بعد الحرب، ويقر المعاهدات المجهولة التي بين بريطانيا، وبعض رؤساء العرب، حتى مَن كانوا منهم في المملكة العربية التي هي موضوع المساومة بينه وبينها، وقد اعترف لها بالانفراد بالنفوذ فيها. فأجابه نائب الملك بالكتاب الآتي: *** كتاب ثالث (من نائب ملك الإنكليز بمصر إلى الشريف حسين أمير مكة) (في ٨ صفر سنة ١٣٣٤) إلى صاحب الأصالة والرفعة وشرف المحتد سلالة بيت النبوة، والحسب الطاهر، والنسب الفاخر، دولة الشريف المعظم السيد حسين بن علي أمير مكة المكرمة، قبلة الإسلام والمسلمين، أدامه الله في رفعة وعلاء. وبعد: فقد وصلني كتابكم الكريم بتاريخ ٢٤ ذي الحجة سنة ١٣٣٣ هـ، وسرني ما رأيت فيه من قبولكم إخراج ولايتي مرسين وأضنه من حدود البلاد العربية، وقد تلقيت أيضًا بمزيد السرور والرضى تأكيداتكم أن العرب عازمون على السير بموجب تعاليم الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وغيره من السادة الخلفاء الأولين - التعاليم التي تضمن حقوق كل الأديان وامتيازاتها على السواء، هذا؛ وفي قولكم: إن العرب مستعدون أن يحترموا، ويعترفوا بجميع معاهداتنا مع رؤساء العرب الآخرين - يُعلم منه طبعًا أن هذا يشمل البلاد الداخلة في حدود المملكة العربية؛ لأن حكومة بريطانيا العظمى لا تستطيع أن تنقض اتفاقات قد أُبرمت بينها وبين أولئك الرؤساء! أما بشأن ولاتي حلب وبيروت فحكومة بريطانيا العظمى قد فهمت كل ما ذكرتم بشأنهما، ودونت ذلك عندها بعناية تامة، ولكن لما كانت مصالح حليفتها فرنسا داخلة فيهما فالمسألة تحتاج إلى نظر دقيق، وسنخابركم بهذا الشأن مرة أخرى في الوقت المناسب. إن حكومة بريطانيا العظمى كما سبقت فأخبرتكم مستعدة لأن تعطي كل الضمانات والمساعدات التي في وسعها إلى المملكة العربية، ولكن مصالحها في ولاية بغداد تتطلب إدارة ودية ثابتة، وإننا نستصوب تمامًا رغبتكم في اتخاذ الحذر، ولسنا نريد أن ندفعكم إلى عمل سريع ربما يعرقل نجاح أغراضكم، ولكنَّا في الوقت نفسه نرى من الضروري جدًّا أن تبذلوا كل مجهوداتكم في جمع كلمة الشعوب العربية إلى غايتنا المشتركة، وأن تحثُّوهم على أن لا يمدوا يد المساعدة لأعدائنا بأي وجه كان، فإنه على نجاح هذه المجهودات وعلى التدابير الفعلية التي يمكن للعرب أن يتخذوها لإسعاف غرضنا عندما يجيء وقت العمل - تتوقف قوة الاتفاق بيننا وثباته، وفي هذه الأحوال فإن حكومة بريطانيا العظمى قد فوضت لي أن أبلغ دولتكم أن تكونوا على ثقة من أن بريطانيا العظمى لا تنوي إبرام أي صلح كان إلا إذا كان من ضمن شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية وخلاصها من سلطة الألمان والأتراك! هذا، وعربونًا على صدق نيتنا، ولأجل مساعدتكم في مجهوداتكم في غايتنا المشتركة فإني مرسل مع رسولكم الأمين مبلغ عشرين ألف جنيه. وأقدم في الختام عاطر التحيات القلبية، وخالص التسليمات الودية، مع مراسم الإجلال والتعظيم المشموليْن بروابط الألفة والمحبة الصرفة لمقام دولتكم السامي ولأفراد أسرتكم المكرمة مع فائق الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك بمصر السير ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر هنري مكماهون (المنار) رد الشريف على هذا الكتاب حامدًا شاكرًا راضيًا واعدًا بالقيام بجمع كلمة العرب على قتال الترك، طالبًا بعضَ الأسلحة والذخائر والأقوات. فأجابه نائب الملك بالكتاب الآتي: *** كتاب رابع (من نائب ملك الإنكليز بمصر إلى الشريف حسين أمير مكة) (في جُمادَى الأولى سنة ١٣٣٤ يوافق ١٠ مارس سنة ١٩١٦) بسم الله الرحمن الرحيم إلى ساحة ذلك المقام الرفيع ذي الحسب الطاهر والنسب الفاخر، قبلة الإسلام والمسلمين، معدِن الشرف، وطيب المحتد، سلالة مهبط الوحي المحمدي الشريف ابن الشريف، صاحب الدولة السيد الشريف حسين بن علي أمير مكة المعظمة، زاده الله رفعة وعلاءً، آمين. بعد ما يليق بمقام الأمير الخطير من التجلَّة والاحتشام، وتقديم خالص التحية والسلام، وشرح عوامل الألفة وحسن التفاهم والمودة الممزوجة بالمحبة القلبية - أرفع إلى دولة الأمير المعظم أننا تلقينا رقيمكم المؤرخ ١٤ ربيع الآخر من يد رسولكم الأمين، وقد سُرِرنا لوقوفنا على التدابير الفعلية التي تنوونها وإنها لَموافِقة في الأحوال الحاضرة، وإن حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى تصادق عليها، وقد سرَّني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك صادقت على جميع مطالبكم [١] ، وأن كل شيء رغبتم الإسراع فيه وفي إرساله - فهو مرسل مع رسولكم حامل هذا، والأشياء الباقية ستحضر بكل سرعة ممكنة، وتبقى في بورت سودان تحت أمركم لحين ابتداء الحركة، وإبلاغنا إياها بصورة رسمية كما ذكرتم، وبالمواقع التي يقتضى سوقها إليها، والوسائط التي سيكونون حاملين الوثائق بتسليمها إياهم. إن كل التعليمات التي وردت في محرركم قد أعلمنا بها محافظ بورت سودان، وهو سيجريها حسب رغبتكم، وقد عملت جميع التسهيلات اللازمة لإرسال رسولكم حامل خطابكم الأخيرة إلى جيزان، حتى يؤدي مأموريته، التي نسأل الله أن يكللها بالنجاح وحسن النتائج، وسيعود إلى بورت سودان، وبعدها يصلكم بحراسة الله؛ ليقص على مسامع دولتكم نتيجة عمله. وننتهز الفرصة لنوضح لدولتكم - في خطابنا هذا - ما ربما لم يكن واضحًا لديكم، أو ما عساه أن يُنتج سوء تفاهم، ألا وهو يوجد في بعض المراكز أو النقط المعسكرة فيها بعض العساكر التركية على سواحل بلاد العرب [٢] ، يقال إنهم يجاهرون بالعداء لنا، والذين هم يعملون على ضرر مصالحنا الحربية البحرية في البحر الأحمر، وعليه نرى أنه من الضروري أن نأخذ التدابير الفعالة ضدهم، ولكننا قد أصدرنا الأوامر القطعية أنه يجب على جميع بوارجنا أن تفرق بين عساكر الأتراك الذين يبدأون بالعداء، وبين العرب الأبرياء الذين يسكنون تلك الجهات؛ لأنَّا لا نقدم للعرب أجمع إلا كل عاطفة ودية! ، وقد أبلغنا دولتكم ذلك؛ حتى تكونوا على بينة من الأمر إذا بُلِّغتم خبرًا مكذوبًا عن الأسباب التي تضطرنا إلى عمل من هذا القبيل. وقد بلغنا إشاعات مؤداها أن أعداءنا الألداء باذلون جهدهم في أعمال السفن ليبثوا بها الألغام في البحر الأحمر، ولإلحاق الأضرار بمصالحنا في ذلك البحر، وإنَّا نرجوكم سرعة إخبارنا إذا تحقق لديكم ذلك. وقد بلغنا أن ابن الرشيد قد باع للأتراك عددًا عظيمًا من الجِمَال، وقد أُرسلت إلى دمشق الشام، ونأمل أن تستعملوا كل ما لكم من التأثير عليه؛ حتى يكف عن ذلك، وإذا هو صمم على ما هو عليه أمكنكم عمل الترتيب مع العربان الساكنين بينه وبين سوريا - أن يقبضوا على الجمال حال سيرها، ولا شك أن في ذلك صالحًا لمصلحتنا المتبادلة. وقد يسرني أن أبلغ دولتكم أن العربان - الذين ضلوا السبيل تحت قيادة السيد أحمد السنوسي، وهم الذين أصبحوا ضحية دسائس الألمان والأتراك - قد ابتدءوا يعرفون خطأهم، وهم يأتون إلينا وحدانًا وجماعات، يطلبون العفو عنهم والتودد إليهم، وقد - والحمد لله - هزمنا القوات التي جمعها هؤلاء الدساسون ضدنا، وقد أخذت العرب تبصر الغش والخديعة التي حاقت بهم! ، وإن لسقوط أرضروم من يد الأتراك، وكثرة انهزاماتهم في بلاد القوقاس تأثيرًا عظيمًا (؟) ، وهو في مصلحتنا المتبادلة، وخطوة عظيمة في سبيل الأمر الذي نعمل له وإياكم، ونسأل الله عز وجل أن يكلل مساعيكم بتاج النجاح والفلاح، وأن يمهد لكم في كامل أعمالكم أحسن السبل والمناهج. وفي الختام أقدم لدولتكم ولكامل أفراد أسرتكم الشريفة عظيم الاحترامات، وكامل ضروب المودة والإخلاص، مع المحبة التي لا يزعزعها كَرُّ العصور، ومرور الأيام. ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه المخلص السير ... ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر مكماهون ... ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك بمصر (المنار) نلخص هذه الكتب، ونرتب ما تقرر فيها بالمسائل الآتية: (١) أن الحكومة البريطانية تستثني من بلاد العرب - بالنص - معظم سورية وهو سواحل ولايات كليكية وحلب والشام وبيروت، فتكون سورية العربية محصورة في المدن الأربع دمشق وحمص وحماة وحلب وملحقاتهن، ولا منفذ لشيء منها إلى البحر إلا فلسطين المسكوت عنها. (٢) أنها تزعم أنها مطلقة التصرف في الأقاليم التي تضمها تلك الحدود من بلاد العرب بدون أن تمس مصلحة حليفتها فرنسة، أي فيما تقرر بينهما من حصتها في سورية، والمعنى أنها بما لها من حق التصرف في غير حصة فرنسة من البلاد التي حددها الشريف تقرر ما ذكرت من الحقوق لها وله، ولا ندري من أين لها هذا التصرف المطلق في هذه البلاد؟ وبأي حق اعترف لها الشريف به؟ (٣) تزعم أن العرب يعترفون بأن مركز بريطانية ومصالحها موطدة في ولايتي البصرة وبغداد، ويستلزم ذلك أن تكون إدارتها بيد إنكلترة وتحت حمايتها. (٤) تضمن حماية الأماكن المقدسة من كل اعتداء، وهي تفسر البلاد المقدسة بالحرمين والقدس وكربلاء والنجف، وتفسر حمايتها لها بما تشاء من الوسائل، ومنها إيجاد قُوًى عسكرية من سلاح الطيران وغيره. (٥) تزعم أن العرب قد قرروا أن يكون المستشارون والموظفون - الذين يؤلفون الهيئة الإدارية في بلادهم - من الإنكليز؛ لأن الشريف رضي بذلك. (٦) تشترط عدم التعرض في هذا الاتفاق المطلوب للمعاهدات المعقودة بين الإنكليز وبعض رؤساء العرب، يعنون أكثر بلاد الجزيرة كلحج وحضرموت ونجد وعسير وبعض قبائل العراق. (٧) تقول: إنها مستعدة مع مراعاة هذه التعديلات التي تسجلها على شريف مكة، ومَن يمثلهم من العرب بدعواهما؛ لأن تعترف باستقلال العرب، وتؤيد هذا الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في الحدود التي يطلبها شريف مكة، أي إنها - بعد هذه التعديلات التي معناها أن جميع بلاد العرب في قبضة تصرفها - مستعدة للاعتراف باستقلال مبهم في مكان مبهم! ، والاستعداد للاعتراف بالشيء لا يقتضي الاعتراف به بالفعل، والاستقلال المجمل لا ينافي الحماية، ولا الوصاية، ولا ما يسمونه الانتداب كما صرحوا به رسميًّا. (٨) تقول: إن هذا التصريح يؤكد ميل بريطانية لرغائب أصحابها العرب - أي لاستعبادهم - وينتهي بعقد محالفة يكون أول نتائجها طرد الأتراك من بلاد العرب، وتحرير العرب من نيرهم، أي لوضْعهم تحت نير الإنكليز الذي يفوقه في الثقل، كما يفوق الجبل الجمل. (٩) تعد بأنها عند ما تسمح لها الظروف تساعد العرب على إيجاد هيئات حاكمة ملائمة لتلك الأقاليم المختلفة من بلاد العرب، وهي الحجاز وفلسطين، ويتعهدون بحمايتها، وطرد الترك منها، وليس في شيء من كل هذه الوعود حجة عليها للشريف إلا في مسألة فلسطين؛ إذ جعلت البلاد وطنًا لليهود. ((يتبع بمقال تالٍ))