كتب الجرح والتعديل الكتب المؤلفة في الجرح والتعديل ذات مسالك مختلفة فمنها خاص بالثقات أو الضعفاء أو المدلسين، ومنها جامع لكل أولئك، ثم منها ما لا يتقيد برجال كتاب معين أو كتب مخصوصة، ومنها ما يتقيد بذلك، ونحن ذاكرون من كل نوع كتبه المشهورة بتوفيق الله وإرشاده. ١- الكتب الجامعة بين الثقات والضعفاء: من الكتب المشتملة على الثقات والضعفاء جميعًا طبقات محمد بن سعد الزهري البصري [١] ، وهو من أعظم ما صنف، يقع في خمسة عشر مجلدًا، جمع فيه الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وقد اختصره السيوطي في كتابه إنجاز الوعد المنتقى من طبقات ابن سعد، وكذلك طبقات خليفة بن خياط [٢] ، ومسلم بن الحجاج [٣] ، وتاريخ ابن أبي خيثمة [٤] ، وهو كثير الفوائد، وتواريخ البخاري [٥] ، وهي ثلاثة: كبير، وهو على حروف المعجم، وابتدأه بمن اسمه محمد، وأوسط، وهو على السنين، وصغير. ولمسلمة بن قاسم ذيل على الكبير، وهو في مجلد، ولابن أبي حاتم [٦] جزء كبير انتقد فيه على البخاري، وله الجرح والتعديل مشى فيه خلف البخاري، وللحسين بن إدريس الأنصاري الهروي [٧]- ويعرف بابن خرم - تاريخ على نحو التاريخ الكبير للبخاري، ولعلي بن المديني [٨] تاريخ في عشرة أجزاء حديثية، ولابن حبان [٩] كتاب في أوهام أصحاب التواريخ في عشرة أجزاء أيضًا. ولأبي محمد بن عبد الله بن علي بن الجارود كتاب في الجرح والتعديل، ولمسلم رواة الاعتبار، وللنسائي التمييز، ولأبي يعلى الخليلي [١٠] الإرشاد، وللعماد بن كثير التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، جمع فيه بين تهذيب المزي وميزان الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات، وهو أنفع شيء للمحدث والفقيه التالي لأثره، ومنها تاريخ الذهبي، والتكملة في أسماء الثقات والضعفاء لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي [١١] وطبقات المحدثين لعمر بن علي بن الملقن [١٢] ذكر فيها المحدثين إلى زمنه، والكمال في معرفة الرجال له. ٢- كتب الثقات: منها كتاب الثقات للعجلي [١٣] ، وكتاب الثقات لخليل بن شاهين، والثقات لأبي حاتم بن حبان البستي، وكتاب الثقات الذين لم تذكر أسماؤهم في الكتب الستة لزين الدين قاسم بن قطلوبغا [١٤] ، وهو كبير في أربع مجلدات. ومن هذا النوع الكتب المبينة لطبقات الحفاظ، وقد ألف فيها جمع، فمنهم الذهبي، وابن الدباغ [١٥] وابن المفضل وابن حجر العسقلاني، والسيوطي ذيل على تأليف الذهبي، وتقي الدين بن فهد، وذيل مؤلفه محمد بن محمد الهاشمي [١٦] . ٣- كتب الضعفاء: منها كتاب الضعفاء للبخاري، والضعفاء والمتروكين للنسائي، ولأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي [١٧] وكتابه كبير، وقد اختصره الذهبي ثم ذيله كما ذيله علاء الدين مغلطاي [١٨] ، والضعفاء لمحمد بن عمرو العقيلي [١٩] ، وكتابه مفيد، وللإمام حسن بن محمد الصنعاني ولمحمد بن حبان البستي وكتابه كبير، ولأبي أحمد بن عدي كتاب الكامل وهو أكمل الكتب في ذلك وأجلها، وعليه اعتماد الأئمة وله ذيل يقال له: الحافل لأبي العباس أحمد بن محمد الإشبيلي المعروف بابن الرومية [٢٠] ، والضعفاء للدارقطني وللحاكم، ولعلاء الدين المارديني [٢١] ، وميزان الاعتدال للحافظ الذهبي، وهو أجمع ما جمع، طبع في الهند ثم بمصر، وقد ذيل عليه الحافظ زين الدين العراقي في مجلدين، وقد التقط منه الحافظ ابن حجر من ليس في تهذيب الكمال وضم إليه ما فاته في الرواة وتراجم مستقلة في كتابه المسمى لسان الميزان وله كتابان آخران، وهما تقويم اللسان وتحرير الميزان، ويوجد عدا ذلك كتب كثيرة. ٤- كتب المدلسين: أول من أفرد المدلسين [٢٢] بالتصنيف الإمام حسين بن علي الكرابيسي [٢٣] صاحب الشافعي، ثم صنف فيه النسائي ثم الدارقطني، ونظم الذهبي في ذلك أرجوزة، وتبعه تلميذه أحمد بن إبراهيم المقدسي، فزاد عليه من جامع التحصيل للعلائي شيئًا كثيرًا مما فاته، ثم ذيل الحافظ زين الدين العراقي [٢٤] في هوامش كتاب العلائي أسماء وقعت له زائدة، ثم ضمها ولده ولي الدين إلى من ذكره العلائي وجعله تصنيفًا مستقلاً، وزاد فيه من تتبعه شيئًا يسيرًا، وصنف إبراهيم بن محمد الحلبي [٢٥] كتابه التبيين في أسماء المدلسين زاد فيه عليهم قليلاً، وجميع ما في كتاب العلائي ثمان وستون نفسًا، زاد عليهم ابن العراقي ثلاث عشرة نفسًا، وزاد عليه الحلبي اثنتين وثلاثين نفسًا، وابن حجر العسقلاني تسعًا وثلاثين نفسًا، فجملة ما فيه اثنتان وخمسون نفسًا ومائة وللسيوطي رسالة في أسماء المدلسين. ٥- المصنفات في رجال كتب مخصوصة: منها رجال البخاري لأحمد بن محمد الكلاباذي [٢٦] ، ورجاله أيضًا لمحمد بن داود الكردي [٢٧] ، ورجال مسلم لأحمد بن علي المعروف بابن منجويه [٢٨] ، ورجاله أيضًا لأحمد بن علي الأصبهاني [٢٩] ، وممن جمع بين رجالهما محمد بن طاهر المقدسي [٣٠] جمع بين كتابي ابن منجويه والكلاباذي، وأحسن في ترتيبه على الحروف، واستدرك عليهما، وكذلك جمع بينهما هبة الله المعروف باللالكائي [٣١] وممن أفرد رجال السنن لأبي داود حسين بن محمد الحباني [٣٢] ، وجمع رجال الموطأ السيوطي، ورجال المشكاة لصاحبها محمد بن عبد الله الخطيب، ورجال الأربعة: موطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند أبي حنيفة، لابن حجر العسقلاني، ورجال السنن الأربع، سنن الترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، لأحمد بن أحمد الكردي [٣٣] ، وممن جمع رجال الكتب الستة أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي [٣٤] في كتابه الكمال في معرفة الرجال، وتهذيبه لجمال الدين يوسف بن الزكي المزي [٣٥] وهو كتاب كبير يقع في ثلاثة عشر مجلدًا لم يؤلف مثله، وإكمال التهذيب لعمر بن علي بن الملقن [٣٦] وزوائد الرجال على تهذيب الكمال للسيوطي، وللتهذيب مختصرات كثيرة، منها الكاشف للحافظ الذهبي قال فيه: هذا مختصر في رجال الكتب الستة: الصحيحين، والسنن الأربع مقتضب من تهذيب الكمال للمزي اقتصر فيه على ذكر من له رواية في الكتب الستة دون من عداهم مما في كتاب المزي، ومنها تهذيب التهذيب لابن حجر، وهو أكمل من كاشف الذهبي، وقد أضاف إليه ابن حجر بعض التراجم التي عثر عليها، كما اختصره في كتابه تقريب التهذيب، وقد جمع الحافظ أبو المحاسن الدمشقي [٣٧] في كتابه التذكرة رجال العشرة. *** (ج) وفيات المحدثين كثير من الكتب الجامعة لرجال الحديث يتعرض في الأكثر لذكر الوفيات، وقد أفرد الوفيات بالتأليف جمع من العلماء، فقد ابتدأ أبو سليمان محمد بن عبد الله الحافظ بجمع وفيات النقلة من وقت الهجرة، فوصل إلى سنة ٣٣٨، ثم ذيل على كتابه أبو محمد بن عبد العزيز الكتاني الحافظ [٣٨] ، ثم ذيل على الكتاني هبة الله بن أحمد الأكفاني ذيلاً صغيرًا، ويشتمل على نحو عشرين سنة، وصل فيه إلى سنة ٤٨٥، ثم ذيل على الأكفاني علي بن مفضل المقدسي [٣٩] إلى سنة ٥٨١، ثم ذيل على ابن المفضل عبد العظيم بن عبد القوي المنذري [٤٠] ذيلاً كبيرًا في ثلاث مجلدات سمّاه التكملة لوفيات النقلة، ثم ذيل على المنذري تلميذه عز الدين أحمد بن محمد إلى سنة ٦٧٤، وذيل على عز الدين أحمد بن أيبك الدمياطي إلى سنة ٧٤٩، وذيل على ابن أيبك الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي [٤١] ، والكل مرتب على حسب وفياتهم في السنين والشهور لا على ترتيب حروف الهجاء. ومن الكتب المفردة بوفيات النقلة تاريخ البرذالي القاسم بن محمد الدمشقي [٤٢] ، وقد ذيل عليه تقي الدين بن رافع من سنة ٧٣٧ إلى سنة ٧٧٤، وذيل ذيل تقي الدين بن حجر، ومنها: وفيات الشيوخ لمبارك بن أحمد الأنصاري، ولإبراهيم بن إسماعيل المعروف بالحبال [٤٣] كتاب الوفيات. *** (د) معرفة الأسماء والكنى والألقاب من رواة الحديث من يكون مشهورًا باسمه دون كنيته، أو لقبه، أو مشهورًا بكنيته أو لقبه دون اسمه، وقد ألف العلماء في بيان أسماء ذوي الكنى، وبيان كنى المشهورين بالأسماء، وكذلك ألفوا في بيان ألقاب ذوي الأسماء، كما ألفوا في نحو ذلك حتى لا يشتبه راوٍ بآخر، ولا يظن لقب شخص أو كنيته اسمًا لثان، فيعد الثقة ضعيفًا، أو الصادق كاذبًا أو يعكس الأمر. فممن ألّف في النوع الأول علي بن المديني والنسائي والحاكم وابن عبد البر وكثيرون غيرهم، وللحافظ الذهبي كتاب المقتنى في سرد الكنى، وهو من أجلّ الكتب المؤلفة في هذا النوع. وممن كتب في بيان كنى المعروفين بالأسماء أبو حاتم بن حبان البستي، وممن صنف في الألقاب أبو بكر الشيرازي [٤٤] وأبو الفضل الفلكي في كتابه منتهى الكمال، وابن الجوزي [٤٥] ، وابن حجر العسقلاني. *** المؤتلف والمختلف والمتفق والمفترق والمشتبه من الأسماء والأنساب من الأسماء والأنساب ما يأتلف في الخط صورته، ويختلف في اللفظ صيغته، كسَلام بتخفيف اللام وسلام بتشديدها، ويسمى المؤتلف والمختلف، ومنها ما يتفق خطه ولفظه، ولكن يفترق شخصه كالخليل بن أحمد اسم لعدة أشخاص، ويسمى المتفق والمفترق، ومنها ما تتفق فيه الأسماء خطًّا ونطقًا وتختلف الآباء أو النسب نطقًا مع ائتلافها خطًّا، أو بالعكس كمحمد بن عقيل بكسر القاف، ومحمد بن عقيل بفتحها، وشريح بن النعمان، وسريج بن النعمان، الأول بالشين المعجمة والحاء المهملة، والثاني بالسين المهملة والجيم، ويسمى هذا النوع بالمشتبه. ومعرفة هذه الأنواع مهمة، قال علي بن المديني: أشد التصحيف ما يقع في الأسماء، ووجهه بعضهم بأنه شيء لا يدخله القياس ولا قبله شيء يدل عليه ولا بعده؛ ولأنه يخشى أن يظن الشخصان شخصًا واحدًا إذا اتفقت الأسماء، وفي ذلك ما فيه من الخلط بين الرواة. ولقد ألّف المحدثون في كل هذه الأنواع، فصنف في النوع الأول أبو أحمد العسكري، لكنه أضافه إلى كتاب التصحيف له، ثم أفرده بالتأليف عبد الغني بن سعيد [٤٦] فجمع فيه كتابين: كتابًا في مشتبه الأسماء، وكتابًا في مشتبه النسبة، وجمع شيخه الحافظ الدارقطني [٤٧] كتابًا حافلاً، ثم جمع أحمد بن علي الخطيب [٤٨] ذيلاً سمّاه المؤتلف تكملة المختلف، ثم جمع الجميع أبو نصر علي بن هبة الله بن ماكولا [٤٩] وجعله كتابًا حافلاً سمّاه الإكمال، واستدرك عليهم ما فاتهم في كتاب آخر جمع فيه أوهامهم وبينها، وكتابه من أجمع ما جمع في ذلك، وهو عمدة كل محدث بعده، وقد استدرك عليه محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة الحنبلي [٥٠] ما فاته أو تجدد بعده في مجلد ضخم، ثم ذيل عليه منصور بن سليم [٥١] في مجلد لطيف، وأبو محمد بن علي الدمشقي [٥٢] ، وذيل على ذيلهما علاء الدين بن مغلطاي [٥٣] ، لكن أكثره في أسماء الشعراء وأنساب العرب، وقد جمع الذهبي في ذلك كتابًا مختصرًا جدًّا اعتمد فيه على الضبط بالقلم، فكثر فيه الغلط والتصحيف المباين لموضوع الكتاب، وقد وضحه الحافظ ابن حجر في كتابه تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وهو مجلد واحد ضبطه بالحروف وزاد عليه شيئًا كثيرًا مما أهمله الذهبي، أو لم يقف عليه، وقد ألف فيه أيضًا يحيى بن علي المصري المؤرخ [٥٤] ومحمد بن أحمد الأبيوردي [٥٥] ،وعبد الرزاق المعروف بابن الغوطي [٥٦] في كتابه تلقيح الأفهام في المختلف والمؤتلف، وعلي بن عثمان المارديني [٥٧] . وممن ألف في النوع الثاني أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتابه المتفق والمفترق، وكذلك ألف الخطيب في النوع الثالث في كتابه تلخيص المتشابه، ثم ذيل عليه هو أيضًا بما فاته، وكتابه كثير الفائدة. *** علم ناسخ الحديث ومنسوخه إذا سلم الحديث المقبول من المعارضة سمي محكمًا، وإن عورض بمثله، وأمكن الجمع بين المتعارضين بلا تعسف فذلك مختلف الحديث، وإن لم يمكن الجمع وثبت تأخر أحدهما فالمتأخر يقال له: الناسخ، والمتقدم يطلق عليه: المنسوخ. وقد ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه جمع كثير منهم أحمد بن إسحاق الديناري [٥٨] ومحمد بن بحر الأصبهاني [٥٩] وأحمد بن محمد النحاس [٦٠] وأبو محمد قاسم بن أصبغ [٦١] ومحمد بن عثمان المعروف بالجعد الشيباني، وهبة الله بن سلامة [٦٢] ، ومحمد بن موسى الجازمي [٦٣] في كتابه الاعتبار في ناسخ الحديث ومنسوخه، وأبو حفص عمر بن شاهين [٦٤] ، وقد اختصر كتابه إبراهيم بن علي المعروف بابن عبد الحق [٦٥] في مجلد، وللإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري كتاب في ذلك أيضًا. *** علم تلفيق الحديث هو علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتناقضة ظاهرًا، إما بتخصيص العام تارة، أو بتقييد المطلق أخرى، أو بالحمل على تعدد الحادثة، إلى غير ذلك من وجوه التأويل، ويطلق عليه مختلف الحديث. وممن ألف فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي [٦٦] ، ولكنه لم يقصد استيعابه، وعبد الله بن مسلم المعروف بابن لميتبة [٦٧] وأبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي [٦٨] والطحاوي [٦٩] ، ولأبي الفرج بن الجوزي [٧٠] التحقيق في أحاديث الخلاف، وقد اختصره إبراهيم بن علي بن عبد الحق. *** علل الحديث معرفة علل الحديث من أجلّ علوم الحديث وأدقها وأشرفها، ولا يقف عليها إلا من رزقه الله فهمًا ثاقبًا وحفظًا واسعًا ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن، وعلل الحديث عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه من وصل منقطع أو رفع موقوف أو إدخال حديث في حديث أو نحو ذلك، وكل هذا مما يقدح في صحة الحديث. وممن كتب في هذا النوع ابن المديني [٧١] وابن أبي حاتم [٧٢] وكتابه قيم، والخلال [٧٣] ، والإمام مسلم [٧٤] وعلي بن عمر الدارقطني [٧٥] ، ومحمد بن عبد الله الحاكم [٧٦] وأبو علي حسن بن محمد الزجاجي، وألف فيه أيضًا ابن الجوزي. *** علم مصطلح الحديث أول من ألف في علوم الحديث أو مصطلحاته - في غالب - الظن القاضي أبو محمد الرامهرمزي [٧٧] في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والسامع، وقد وجدت قبله مصنفات، لكن في بعض فنون الحديث فقط، وكتابه أجمع ما جمع في زمانه وإن لم يستوعب، ثم توسع العلماء في هذا الفن، وأول من تصدى لذلك الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري، وقد اشتمل كتابه على خمسين نوعًا، لكنه لم يرتب ولم يهذب، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجًا، وأبقى أشياء للمتعقب، ثم جاء أحمد بن علي المعروف بالخطيب [٧٨] ، فصنف في قوانين الرواية كتابًا سمّاه الكفاية، وفي آدابها كتابًا سمّاه الجامع لآداب الشيخ والسامع، وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا، فكان كما قال ابن نقطة: كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه. ثم جاء بعد الخطيب من أخذ من هذا العلم بنصيب، فجمع القاضي عياض [٧٩] كتابًا لطيفًا سمّاه الإلماع، وأبو حفص الميانجي جزءًا سمّاه ما لا يسع المحدث جهله، ثم ألف الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح [٨٠] كتابه الشهير المطبوع، ذكر فيه خمسة وستين نوعًا، وقد اعتنى به العلماء عناية عظيمة بين معارض له أو منتصر، أو ناظم له أو مختصر، أو شارح له أو مستدرك عليه، ومن المختصرين له: محيي الدين يحيى بن شرف النووي [٨١] في كتابه الإرشاد، ثم اختصر مختصره في كتابه التقريب والتيسير، وقد شرح السيوطي التقريب بكتابه تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، وهو من أجلّ الشروح، وقد عمل الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي [٨٢] ألفية لخص فيها علوم ابن الصلاح، وزاد عليها أولها: يقول راجي ربه المعتذر ... عبد الرحيم بن الحسين الأثري وقد أتمها سنة ٧٦٨ وعمل عليها شرحًا سمّاه فتح المغيث أتمه سنة ٧٧١، وقد عمل برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي [٨٣] حاشية عليه سمّاها النكت الوفية بما في شرح الألفية أورد فيها ما استفاده من شيخه ابن حجر، وقد بلغ إلى نصفه، وشرح الألفية كثيرون، ولعل أحسن الشارحين محمد بن عبد الرحمن السخاوي [٨٤] وقد نظم السيوطي ألفية جمعت كثيرًا من الفوائد أولها: لله حمدي وإليه أستند ... وما ينوب فعليه أعتمد ثم على نبيه محمد ... خير صلاة وسلام سرمد وهذه ألفية تحكي الدرر ... منظومة ضمنتها علم الأثر فائقة ألفية العراقي ... في الجمع والإيجاز واتساق
ومن المتون الجامعة الممتعة نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لشهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وقد شرحها بكتابه نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، وهو شرح وجيز جليل، وقد شرحها كثيرون كما نظمها أحمد بن صدقة [٨٥] ، ومحمد بن إسحاق المقدسي [٨٦] ، وقد ألف كثيرون في علوم الحديث كمحمد بن المنفلوطي [٨٧] ، وابن الملقن [٨٨] ، وابن الحريري [٨٩] ، ولكن ما ذكرنا مستقى كل من كتب، وفيه الغنية عن غيره. ولا يفوتنا قبل ختم هذا الفصل كتاب توجيه النظر في أصول الأثر لمعاصرنا الشيخ طاهر الجزائري؛ فإنه كتاب جمع تحقيقات لطيفة ومسائل دقيقة ووفّى المصطلح من الإبانة حقه، وإن كان جمعًا مما سبقه، وقد كان من أهم الكتب التي عوّلنا على الرجوع إليها في كتابة هذه الرسالة. *** تخريج أحاديث مؤلفات مخصوصة لله در علماء الحديث: سعوا في توفير الراحة لطلاب العلم فسهلوا لهم عسيره وكشفوا لهم عن غوامضه وكفوهم العناء ومؤنة البحث والتنقيب، علموا أنك ستتناول كتابًا من كتب التفسير الشهيرة، أو من كتب الفقه السائرة، أو ما نحا نحو ذلك، وأن سيمر بك أحاديث مختلفة لم يذكر لها سند، ولم تنسب لأصل من أصول السنة، وأنك ستقف عند ذلك تتطلب درجة الحديث؛ لتعرف قيمة الاستدلال به وإيصاله إلى الغرض الذي سيق له، وإنهم إن وكلوك إلى نفسك كلفوك شاقًا وأوردوك صعبًا، وربما لم يكن لك في فنون الحديث باع فأمسكوا بالكتاب وجمعوا ما فيه من الأحاديث وعزوها إلى رواتها وبينوا درجاتها، فما عليك سوى نظرة تحظى فيها بالبغية، وإني ذاكر لك من ذلك ما وصل إلى علمي: ١- تخريج أحاديث الكشاف، في التفسير، لجمال الدين محمد عبد الله الحنفي [٩٠] في مجلد. ٢- الفتح السماوي بتخريج أحاديث البيضاوي، في التفسير، للشيخ عبد الرؤوف المناوي [٩١] . ٣- الطرق والوسائل إلى معرفة خلاصة الدلائل شرح مختصر القدوري - في فقه الحنفية - لأحمد بن عثمان التركماني [٩٢] . ٤- تخريج أحاديث الهداية، كتاب شهير في فقه الحنفية، لمحمد بن عبد الله [٩٣] ، وكذلك لعبد الله بن يوسف الزيلعي [٩٤] ، وقد طبع بالهند. ٥- تخريج أحاديث الشرح الكبير للوجيز، في فقه الشافعية، لسراج الدين عمر بن علي الأنصاري [٩٥] ، ويقع في سبع مجلدات، وقد لخصه ابن حجر العسقلاني في ثلث حجمه مع زيادات عليه. ٦- تخريج أحاديث المنهاج، في فقه الشافعية، لسراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن. ٧- كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار؛ أي: كتاب إحياء علوم الدين، لعبد الرحيم بن الحسين العراقي [٩٦] ، وقد طبعه الحلبي في مصر بهامش الإحياء فأحسن صنعًا. ٨- إدراك الحقيقة في تخريج أحاديث الطريقة - في الموعظة - لعلي بن حسن بن صدقة المصري، ثم اليماني فرغ من تأليفه سنة ١٠٥٠. *** الخاتمة سنعقد في هذه الخاتمة فصولاً يجدر بعشاق الحديث معرفتها، ويهمهم الوقوف عليها، فنقول وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا: متى يحتج بالحديث؟ قد رأيتُ - أكرمك الله - أن آتي بكلمة موجزة تكون لديك بمثابة ميزان تعرف به إن كان الحديث مقبولاً فيسوغ لك الاحتجاج به، أو مردودًا فترفض الاعتقاد والعمل به، فأقول: ينقسم الحديث إلى مقبول ومردود، فالمقبول ما رواه عدل ضابط لما يرويه بسند متصل مع خلوه من الشذوذ والإعلال. والشذوذ: مخالفة الثقة من هو أرجح منه. والإعلال: وجود أمر خفي يقدح في صحة الحديث كوصل منقطع أو رفع موقوف. ثم المقبول إن سلم من المعارضة يسمى محكمًا، وإن عورض بمثله، فإن أمكن الجمع بغير تعسف فهو مختلف الحديث، وإن لم يمكن الجمع وثبت تأخر أحدهما عرف المتأخر بالناسخ والآخر بالمنسوخ، وإن لم يثبت، فإن أمكن الترجيح بين الحديثين صير إليه وإلا توقفنا عن العمل بهما. والحديث المردود ما وجد فيه أحد أمرين: الأول: عدم الاتصال في السند، والثاني: وجود أمر في الراوي يوجب طعنًا فيه، ودرجات الطعن في الراوي عشرة: الكذب، والتهمة به، وفحش الغلط، والغفلة عن الإتقان، والوهم - بأن يروي على سبيل التوهم -، ومخالفة الثقات، والفسق، وجهالة الراوي، والبدعة، وسوء الحفظ. وللعلماء تفصيل في هذه الدرجات، فالمحققون يقبلون رواية المبتدع في غير ما يؤيد بدعته، وقال بعضهم: ما لم يكن داعية. ولهم في العمل بالحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه أقوال وشروط يجيزونه بها، أو يقدمونه على القياس كما يعلم من كتب أصول الحديث وأصول الفقه. *** كيف تأخذ السُنَّّة الآن؟ كانت السنة في القرون الأولى تؤخذ من أفواه الشيوخ، وقلما كان الرواة يثقون بالمخطوط، وكان اتصال سند الراوي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع عدالة المروي عنهم وكمال ضبطهم أمرًا لا محيص عنه، حتى يحوز الحديث درجة الصحة، فلما أن صنفت كتب الصحاح المشهورة وذاعت في الأقطار المختلفة قامت شهرتها مقام تواترها، فلم تبق حاجة لاتصال السند منا إلى مصنفيها في كل حديث دوِّن فيها، وأصبح الاعتماد على الكتاب فوق الاعتماد على الشيوخ، قال أبو عمرو بن الصلاح [٩٧] : اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى؛ إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطًا يصلح لأن يعتمد عليه، وإنما المقصود بها بقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة. أقول: وهذا هو الغرض بعينه في عصرنا والعصور السالفة قبله في محافظة الشيوخ على سلسلة السند إلى مصنفي الكتب الشهيرة كالبخاري ومسلم. إنما الواجب على أمثالنا أن يتثبتوا من أمور ثلاثة: كون الكتاب الذي يروون الحديث عنه صحت نسبته إلى مؤلفه أو تواترت، والبحث في سند الحديث الذي روي به في ذلك الكتاب، وخلوه من الغلط والتحريف والدخيل، وسبيل معرفة الثالث أن تقابل نسخة من الكتاب الذي يراد الأخذ عنه بنسخ أخرى منه مختلفة في الرواية؛ إن كان ثم اختلاف فيها، أو بنسخ متعددة منه، إن لم يكن اختلاف في الرواية، فإذ ذاك يطمئن القلب إلى تلك النسخة، وتتبين له درجة صحتها وخلوها من العيوب، فيقوم ذلك مقام تعدد الرواة. وعلى ذلك ينبغي لمن رام طبع كتاب من كتب السنة أن يقابل الأصل الذي لديه بأصول متعددة حتى تسكن لصحتها نفوس القارئين، ويكفيهم بذلك مؤونة المقابلة إن كان من العدول الثقات. وإن مما يؤسف له أن كثيرا من كتب الحديث التي طبعت لم تعط من العناية في التصحيح ما ينبغي لفن جليل كالحديث، ولم تضبط بالشكل الذي هو أيسر الأمور، وأقل ما يراعى في سُنة الرسول، فعسى أن يتنبه لذلك الطابعون بعد، ويولوا هذا الفن من عنايتهم ما يلائم كبير مقامه وعظيم شأنه. *** الاستنباط من السنة وأثره فيها لم تكد المائة الثالثة تؤذن شمسها بالغروب حتى أخذ مصباح الاجتهاد ينكمش ضوءه ويتضاءل فيه، بل كاد ينمحي أثره، فبعد أن كانت عقول النابهين مطلقة السراح في رياض القرآن والسنة تستنبط منها الأحكام، وتفصل بها في الحوادث، وتحكمها في الأمور الجلى أصبح الناس منصرفين عنها، لاهين بأقاويل الفقهاء ينتصر كل لإمامه، ويسعى في تأييد مذهبه، وإن خالف صريح السنة فانقسم الناس في الفروع شيعًا وأحزابًا، وقامت معركة الجدل والمناظرة بينهم، واستمرت عدة قرون، وكانت عاقبتها أن اعتصم كل بما عنده، واطمأنت نفسه إليه، وعول في العمل عليه، ورفض أن ينظر في أقوال خصمه إلا ليدحضها أو يضع من شأنها، فتناسى الناس بذلك المحيط الشاسع والقاموس الواسع، الذي من مائه نبعت عيون فقههم، ومن هباته كونت مذاهبهم، أعني بذلك الكتاب والسنة. لقد كان الاستنباط من السنة أكبر عامل على إحيائها، وخير مشجع على خوض غمارها، فانكب الناس عليها دارسين وآخذين وناقدين ومؤلفين، ولم يتركوا ناحية منها إلا تبينوها، ولا شبهة إلا دحضوها، ولا فرية إلا قتلوها. فلما ركنوا إلى التقليد وتركوا الاجتهاد جانبًا، شغلتهم كتب الفروع عن السنة، وشغفوا بدراستهم لها عن ورودها، ورأوا - خطأ أو صوابًا - أن فيها بغيتهم، وأن السنة فرغت منها حاجاتهم، وما لهم وللسنة وقد أوصدت في وجوههم أبواب الأخذ منها، وحظر عليهم أن يقولوا سوى ما قاله الأصحاب؟ فما لهم ينصبون ولا يجنون ويكدون ولا يستفيدون؟ . نعم كان من الناس من يتطلبها لما فيها من أخلاق ومواعظ وآداب ورقائق، أو تبركًا بحديث الرسول - صلوات الله وسلامه عليه -. على أن ذلك لم يمنع من وجود أعلام نابهين في العصور المختلفة درسوا السنة حق دراستها، وعرفوها حق معرفتها، وأطلقوا لأنفسهم حرية الأخذ عنها كأبي عمر بن عبد البر وابن حزم الأندلسي وابن تيمية الحراني وتلميذه ابن القيم وابن حجر العسقلاني وأبي بكر السيوطي والشوكاني وكثير غيرهم، فهؤلاء وأمثالهم ممن تقدم ذكرهم تحت عنوان الجرح والتعديل قاموا للسنة بخدمات جليلة، وزادوا الناس التفاتًا إليها، وشغفًا بها، فلهم منا جزيل الثناء ووافر الشكر. *** حال السنة في عصرنا الحاضر كان خليقًا بالأزهر وفروعه، وهو كعبة العلوم الدينية، أن تكون للسنة فيه عناية كبيرة، ومقام عال بين علوم الدين، ولكن للأسف بخس الحديث في هذا المعهد الكبير حقه، بعد أن انتهت إليه الرياسة فيه على عهد الحافظ ابن حجر وتلاميذه، فلا يوليه الأزهريون اليوم من نشاطهم وطويل وقتهم ما أولوا الفقه وأصوله وعلوم العربية، فلا نراهم يدرسون سوى صحيح البخاري وصحيح مسلم، على قلة قراءتهم للثاني، واقتصار الكثيرين على مختصر الأول، مع حجرهم على الأفكار أن تفهم إلا ما فهمه الشيوخ، وسلوكهم في تفسير الأحاديث مسلك تأييد المذاهب وتنزيل المعاني عليها، كأنما الفروع أصل من أصول السنة أو المنبع الأول للتشريع الإسلامي. ثم إن دراستهم لهذين الصنوين لا تعدو المتن إلى السند، فلا يبحثون فيه، ولا يتعرفون رجاله، ولا يتبينون إن كان متصلاً أم منقطعًا، مع أنهم يدرسون قبل ذلك مصطلح الحديث، فما الفائدة فيه إذا لم يطبقوه في دراسة المتون والأسانيد؟ ربما قالوا ذلك من باب: العلم بالشيء ولا الجهل به، وربما قيل لهم: أهذا هو علم السنة المطلوب شرعًا؟ ولقد أخذ بعض الأساتذة الأجلاء يدرس الكتب الستة في العطلة الصيفية، وبدأ منها بكتاب الموطأ، ونرجو أن يوفق لإتمامها، وأن ينفخ ذلك في روع الأزهريين حب التفوق في الحديث والعناية بكتبه. وقد وجد بين الأزهريين في هذه الأيام أفراد عنوا بدراسة السنة دراسة كاملة، وأطلقوا لأنفسهم حرية البحث والفهم وراضوا أنفسهم في كتب السنة المختلفة، وإنهم لبشير خير بتبدل الأحوال، وإحلال العناية بالحديث محل الإهمال. ولما كانت مجلة المنار سلفية المنهج، وكانت عنايتها موجهة إلى محاربة البدع والرجوع بالدين إلى ما درج عليه الرعيل الأول من السلف، وكان ذلك داعيًا للعناية بالسنة والبحث فيها وفي فنونها، والاستدلال بها في الفتاوى وغيرها - كان لها أثر صالح في نشر السنة وتكثير سواد الطالبين لها في الأقطار الإسلامية المختلفة. ولا يوجد في الشعوب الإسلامية على كثرتها واختلاف أجناسها، من وفّى الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند، أولئك الذين وجد بينهم حُفَّاظ للسنة، ودارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن الثالث حرية في الفهم ونظر في الأسانيد، كما طبعوا كثيرًا من كتبها النفيسة التي كادت تذهب بها يد الإهمال، وتقضي عليها غِيَرُ الزمان، وإن أساس تلك النهضة في البلاد الهندية أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة، وانتهجوا في تحصيل العلوم نهج السلف، فنبه شأنهم، وعلا أمرهم، وذاع صيتهم، وتكونت جمعيات سلكت سبيلهم وعملت على نشر مبادئهم، فكان لها ذلك الأثر الصالح، والسبق الواضح، ومن أشهر هؤلاء الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف في اللغتين العربية والفارسية، وأشهرها كتاب حجة الله البالغة، والسيد حسن صديق خان ملك بهوبال صاحب التصانيف الكثيرة أيضًا، وقد سبق ذكرهما في هذه الرسالة، ومن حسنات الثاني طبع فتح الباري في شرح البخاري للحافظ ابن حجر، ونيل الأوطار للإمام الشوكاني، وتفسير الحافظ ابن كثير مع تفسيره فتح البيان، طبعت هذه الكتب على نفقته في المطبعة الأميرية بمصر، فكانت من أنجح وسائل إحياء السنة، وفي الهند الآن طائفة كبيرة تهتدي بالسنة في كل أمور الدين، ولا تقلد أحدًا من الفقهاء ولا المتكلمين، وهي طائفة المحدثين، وقد كان لعلم السنة سوق رائجة في اليمن بعد كساد سوقها بمصر بعد القرن العاشر. وإن من آكد الأمور على المسلمين وأحقها بالرعاية وأولاها بالعناية العمل على إحياء السنة ونشرها بين المسلمين، فإنها داعية إلى التوحيد في العمل والاعتقاد، ومزيلة ما بين الفرق المختلفة من الشحناء والعداء؛ لأنها رجوع إلى أصل الدين، وكل يقر به وينتمي إليه، وفي ذلك تقوية شوكتنا وإنهاضنا من كبوتنا التي طال أمدها واستفحل أمرها. *** كيف نقرب إلى الناس تحصيل السنة؟ بَيَّنَّا تحت عنوان: الجمع بين الكتب الستة، أن أبا السعادات مبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري جمع بين الأصول الستة التي بينا فيما سلف أمرها، وأسمى كتابه جامع الأصول لأحاديث الرسول، وتكلمنا على هذا الجامع بما يغنينا عن إعادته هنا، وذكرنا إذ ذاك أن لأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزبادي زوائد عليه سماها تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، فلو أننا جمعنا بين الجامع وزوائده على نحو ما جمع بين الكتب الستة، وعقبنا كل حديث ببيان درجته وذكر من طعن فيهم من رجال سنده، وجعلنا للكتاب ذيلاً يذكر فيه أولئك المطعون فيهم مرتبة أسماؤهم حسب الحروف الأبجدية، مشفوعًا كل شخص بما قاله أئمة النقد فيه من جرح وتعديل على نحو ما فعل المنذري في كتابه الترغيب والترهيب. لو أننا فعلنا ذلك لكنا مقربين إلى الناس تحصيل السنة، وجاعليها على طرف الثمام، يتناولونها من كتب، ويقتبسون منها بلا عناء ولا إجهاد فكر ولا كثرة بحث. وإن هذا العمل الجليل وذلك القاموس الكبير يستطيع أن يقوم به فرد مارس الحديث ممارسة طويلة، وكان له بفنونه خبرة مع حكمة وعزم وأناة وصبر. وينبغي أن يقوم بطبعه شركة تبغي بعملها فضلاً من الله ورضوانًا حتى تنفق عليه بسخاء، وتبرزه في خير حلة وأجمل جلباب. ولو شفع ذلك بشرح واسع يلائم روح العصر الحاضر يقوم به جماعة؛ كل فيما نبغ فيه وبذل حياته في إتقانه، لكان ذلك من خير الأمور وأجلّ الخدمات. ولا أظن فردًا يقدر على ذلك كله مع الإحسان؛ لأن السنة فيها طب وأحكام وآداب وأخلاق وأحاديث صفات، وكل هذي فروع واسعة لا يتضلع في واحد منها إلا من بذل فيه جهده، وحبس على تعلمه نفسه، فعلى الطبيب أن يشرح ما ورد في الطب، وحري بالفقيه الحاذق أن يبين أحاديث الأحكام، وجدير بالواعظ الأديب أن يوكل إليه الكتابة على أحاديث الآداب والأخلاق والمواعظ والرقائق، وعلى المتكلم أن يوضح أحاديث الصفات سالكًا طريقة أهل السنة من السلف الصالح. هكذا يقوم كل خصيص بفن بشرح ما يناسب فنه من أحاديث الكتاب على شرط أن يكون متشبعًا بروح الدين، عليمًا بشؤون العصر الحاضر، خبيرًا بالأمور المحدثة والمعاملات المستجدة. ويوجد كتابان جليلان يسد كل منهما حاجة طالما تاقت النفوس إلى سدها: أحدهما: المنتقى لابن تيمية مع شرحه نيل الأوطار للشوكاني، وثانيهما: الترغيب والترهيب للمنذري، فالأول يغني كل من رام الوقوف على أحاديث الأحكام وشرحها شرحًا وافيًا مع ذكر أقوال العلماء فيها، والثاني يغني الوعاظ المرشدين، ويهبهم مادة واسعة، ليس فيها من شبهة ولا يعتري صحتها قترة، وحري بالفقهاء والمشتغلين بالقانون أن يدرسوا الأول دراسة وافية ويتعرفوه معرفة كاملة، وجميل بالناصح الأمين أن يجعل الثاني أسوته في إرشاده، وأن يحفظ من أحاديثه ما يعينه على القيام بعمله ويسهل عليه أداء مهمته. *** ماذا نعمل لنشر السنة؟ كل عمل يقوم به جماعة متماسكة خليق أن يبقى، ويظهر له في الناس أثر بيّن، وأما ما يقوم به الأفراد، فإنه يبقى ما بقي العزم فيهم ماضيًا، وعامل الإخلاص في نفوسهم قائمًا، ثم هو بعد ذلك ضئيل الأثر قليل الجدوى، وماذا تبلغ نفس واحدة من نفوس المسلمين، الذين تجاوز عددهم مئات الملايين؟ فإذا ما رمنا للسنة نشرًا،ولسلطانها بسطًا، ولعبيرها إذاعة، فعلينا أن نكون جمعية دينية يكون أفرادها من خلاصة المعتصمين بالسنة، والمتشبعين بروح هذا الدين، ويكون مركزها في صرة البلاد الإسلامية وقطب الرحى منها - أعني بلادنا المصرية - ويكون لتلك الجمعية فروع في الممالك الإسلامية، ويكون للفروع أغصان في الولايات الصغيرة والمدن الكبيرة، ويكون شعارها قوله تعالى:] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [، (آل عمران: ١٠٣) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (شيئان لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله) . وإن هذه الجمعية يقوم صرحها على أمور أربعة: إخلاص، وعزم، وحكمة، وصبر. ومتى وجدت هذه الأمور سهل تكوين ثروة لها تكون مادتها وعضدها في نشر مبادئها، وأرى أن تكون الثروة من اشتراكات يدفعها الأعضاء في الجمعية وفروعها وأغصانها، ومما يجود به أهل البر والإحسان، وإذا سعى الأعضاء وضموا إلى جانبهم بعض الملوك أو الأمراء - كان ذلك خير مشجع لهم ومتم لعملهم. وعلى الجمعية أن تقوم بطبع كتب الحديث القيمة مقدمة الأهم على المهم، وعلى كل عضو أن يقوم بتعليم العامة والخاصة وإرشادهم إلى ينبوع هذا الدين كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يقصر إرشاده على الوعظ في المساجد، بل يعممه في الأندية المختلفة والمجتمعات العامة ودور العلم ومدارسه، فإن في هذه نفوسًا أحوج إلى الموعظة وأجدر بالإرشاد من الركع السجود. وليكن للجمعية حرص بالغ على أن تضم إليها المدرسين والمعلمين والخطباء والوعاظ، فإن أولئك إذا رشدوا هدوا كثيرين، فيذيع إيثار السنة بين الناس، ويكثر أنصارها، حتى يكونوا أمة بيمينها القرآن وبيسارها السنة، وإنهما لسيفان ماضيان يكتسحان الإلحاد، ويقضيان على الفساد، ويبصران طريق الرشاد، وينتاشان المسلمين من الضعف والذلة، إلى حيث المنعة والعزة. فاللهم بصِّرنا بديننا، واهدنا سبيل سلفنا، واجعل عملنا خالصًا لوجهك، لا نبغي به إلا خدمة دينك، ورفعة سنة نبيك صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. تم تأليف هذه الرسالة ليلة الجمعة ٣ جمادى الآخرة سنة ١٣٣٩ هـ ١١ فبراير سنة ١٩٢١م ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد العزيز الخولي ... ...
(المنار) حمد الله عمل صديقنا مؤلف هذه هذه الرسالة، وأجزل ثوابه، وأحسن مآبه، وحشرنا وإياه في زمرة أنصار السنة، وإن جميع الأعمال التي اقترح تأليف الجمعية لها في خاتمة رسالته هي بعض ما كنا نبغي من جماعة الدعوة والإرشاد، إلا طبع الكتب، فإنه عمل أصحاب المطابع والشركات، وقد كان عزيز مصر العباس - أعز الله به العلم والدين - ملتزمًا إمدادها الدائم من أوقاف المسلمين، الأوقاف الخيرية العامة، وأوقاف أسرته المالكة الخاصة، فكان من سيئات الحرب العامة ومفاسدها أن قطعت الحكومة المصرية إعانة الأوقاف التي كان قد أمر بمضاعفتها، فوقف عمل الجماعة، وأقفلت مدرستها، ولا نيأس من روح الله أن يمن بإعادتها، ويوفق أهل البصيرة من أغنياء المؤمنين بمساعدتها، فهم - ولله الحمد - كثيرون، ولكن أكثرهم غافلون.