(٨) وأما الشعب الفارسي، فهو حسن القابلية للحضارة، سريع الانقياد لدواعي التمدن العصري، واقتباس أساليبه على مقربة من المعارف والآداب، لولا ما مُنِي به من سوء إدارة أُمرائه، وتثاقل هممهم دون النهوض لإصلاح الشأن وبَثِّ العلم، وجمع الكلمة. مضى الشاه السابق لسبيله، وخَلَفه ابنُه الحالي؛ فتطايرت الأنباء بأنه راغب في الإصلاح، عامل على تهذيب أمته، مغذ السير في سبيل إسعادها، ثم لم نلبث عشية أو ضحاها، حتى خاننا الأمل، وخامرنا اليأس، واستطارت أخبارٌ عن شؤونٍ وأطوارٍ لا تنطبق على قانون انتظام الأمم، ولا تتمشى مع نواميس نهضة الشعوب. وأهم ما سُطِّرَ في تاريخ الأمة الفارسية لهذه الأزمنة المتأخرة، ظهورُ أحداث دينية، وتشعباتٍ مذهبية تَفَرَّقَ لها القومُ أحزابًا، وولجوا في أطوائها من المصائب بابًا بابًا. فتح ميرزا علي محمد للشعب بابًا؛ فقلنا: هو باب خير للإيرانيين يدخلون منه إلى جنات النعيم، فجاءهم من قِبَله العذاب الأليم! يا ويح الشرق ولتعاسته! أتعترض السحب المكفهرّة في سماء أهل الغرب، فتمطر عليهم النعماء، وتنبت في تربتهم أعشاب الفوائد، وثمرات المنافع؟ وإذا اعترض مثلها في أفق الشرق، ورجا أهله منها ما أصاب أهل الغرب؛ رمتهم بحجارة من سجيل، وأنبتت في أرضهم الحنظل والمرار (نبات مر) ، وأشواك المحن والمضار. تُلَوِّحُ في جَوِّ أولئك بوارقُ تُرِيهم في ظلمات أحوالهم مواقع الخلل، وتهديهم الجدد [١] ، وتعقبها صواعق تُقَوِّض صروح الاستبداد، وتمزق مسامع ظالميهم، وتحصد رؤوس منافقيهم. وإذا لاحت بارقة من مثل ذلك في جو هؤلاء المساكين؛ خطفت أبصارهم، وامتلخت قلوبهم، وبهرجت [٢] بهم الجادة وأَرَتْهَا لأعدائهم، فسلكوها إلى أذاهم، ومحو صواهم [٣] ، وانقضّت معها صاعقة زلزلت ديارهم، ومحقت خيارهم، ولبَّستهم شيعًا يذوق بعضهم بأس بعض. تهب أعاصير الشقاق في ربوع أوروبا؛ فَتَقْتَلِع تماثيل الضلال، وتُقَوِّض هياكل الظلم والاستبداد، حتى إذا هَبَّ في أصقاع الشرق ما يحاكيها؛ قَوَّضت صروح مجدهم، ونسفت معالم عِزِّهم، وكشفت الغطاء لعدوهم عن عوارهم؛ فأغرته بهم، ومَهَّدَت أمامه طرق الاستيلاء عليهم، يا سبحان الله! أما كانت التَّحَزّبات والتشعبات سببًا في نهضة أوروبا وتنبهها؟ أما كانت مدعاة ليقظتها من غفلتها؟ أما هي التي رمت جذوة الغيرة في قلوب الأحزاب والطوائف؛ فنشطوا للأعمال، وتنافسوا في إحراز الكمالات؟ أما هي التي رفعت برجال كل قبيل؛ للعمل في خدمة قبيله، وتفضيله مصلحته على مصلحة القبيل الآخر؟ أما هي التي بعثت رجال كل طائفة على تذليل المشاق، والاستهانة بالأخطار في سبيل بث تعاليم طائفتهم، ونشر لغتها وآدابها وعوائدها؟ مَن يصدق أن الثورة الفرنسوية العظمى، بل الفظاعة البربرية الشؤمى هي كما زعموا جرثومة الإصلاح في الغرب، وأرومة تلك المدنية العبقرية التي يتنافس فيها المتنافسون، وأن صُبْح الحرية لم يتنفس في جو الغرب إلا بعد أن استمد أنواره من نيران ذلك البركان المتفجر، والجحيم المتسعر، فما لحباحب حادثة الباب جرَّت على الشعب الإيراني الويل والبلاء، وسحبت على معالم عِزِّه ذيول الخيبة والعفاء؟ أسباب ذلك كله أسرار مكتومة في مطاوي شؤون معلومة، وما يعقلها إلا العالمون. ومما شرحناه من حال الحكومتين الأفغانية والفارسية؛ يستبين للنبيه أنهما على مقربة من مداخلة الأجنبي، والوقوع في حبالة طمعه، لا سيما والعدو منهما على قاب قوسين أو أَدْنى - عدوهما اثنان الروسية تشرف عليهما من جهة الشمال، وإنكلترا من الشرق، أما الروسية فدعواها بطمعها فيهما اعتراضهما في طريقها إلى البحر؛ لأن لهفها زائد، وشوقها قوي لتوسيع دائرة تجارتها، وهي إن أصدرت من داخليتها مصنوعاتها ومحصولاتها غمرت وجه البسيطة، وإن استوردت حاجاتها من الخارج استنزفت ما للبشر من المصنوعات والمحصولات، كل ذلك لوفرة عدد رعاياها، وكثرت انفساح بلادها، فهي في ظمأ شديد لورود بحار تتناول منها وتناولها وماء البحر الأسود وقزوين والبلطيق ثماد ووشل لا ينفع لها غلة، ولا يشفي علة، ولُجَج المحيط الباسفيكي التي تردها في الشرق الأقصى، وإن كانت كافية لرِيِّها؛ لكنها بعيدة عن مركز التجارة العام، مترامية عن الجادة العظمى التي تصل الشرق بالغرب، وتسلكها شعوب الخافقين، فليس على كثب منها سوى البحر الهندي والذي يصدها عن وروده الحكومتان المذكورتان، وكذا الهند والولايات العثمانية الشرقية، فهي في حاجة إلى احتلال هذه المراكز، وقوتها أحدثت لها طمعًا في الاستيلاء عليها، أوالطمع في الاستيلاء أحدث لها القوة واستحثَّها لتوفير وسائلها، وهذا الذي أَسْهَرَ عَيْنَ إنكلترا، واستطار لُبَّها. وقد شرعت الروسية بالعمل؛ فتغلبت على كثير من الإمارات التترية، وأَلْقَتْ بنفوذها في صحراء مرو المتاخمة لحكومتي الأفغان والفرس، وأنبأتنا الجوائب الأخيرة أن السكة الحديدية التي مَدَّتها الروسية في صحراء مرو، قد أخذت قضبانها تناطح حدود هاتين الحكومتين، فليطرب أفغانيي هرات وفارسي مشهد لسماع تلك الألحان - أزيز مراجل السكة الروسية، وزمير بخارها، وزمزمة رجالها. إنكلترا حرصها على الهند، وتفانيها في حفظه أخرجها من الاعتدال، وزحزحها عن موقف الكمال، وحملها على الجشع في كل ما له مساس بالهند؛ فتراها في ظمأ شديد لعبّ البحار، حتى كان بها داء الاستسقاء، وفي قرم زائد لالتهام الشعوب، كأنها أصيبت بجوع البقر، وما ذلك إلا شغف بالهند، وحذر عليها من أبناء أبيها آدم، والحكومتان الأفغانية والفارسية واقعتان في قارعة الطريق الأعظم المؤدي إلى الهند، فلا غرو أن كان لهما خطر وشأن في نفس إنكلترا. ومما يشحذ من غرار طمعها في هاتين الحكومتين، ما تراه من دأب الروسية في التقرب منهما، والتزلُّف إليهما، والتحويم حولهما؛ فتخشى أن تصيبهما يومًا ما دائرةُ سوء من قِبَلها، أو تمسي الروسية محتفَّة بالهند، وآخذة بأكظامه (مدارج أنفاسه) شمالاً وغربًا؛ فإنكلترا في أوساط آسيا أخشى مَن تخشاه؛ بل لا تخشى أحدًا سوى الروسية، تحذر من أن يشتد بها الظمأ؛ فتهوي بكتائبها الرجراجة من قمم جبال هندكوش على تلك البسائط، ولا تقف إلا حيث تتنفس أمواج البحر الهندي. ((يتبع بمقال تالٍ))