للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف [*]
المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأَوَّلِي

(٧) توجد تحت مراقبة الأزهر الشريف وبعض المعاهد الأخرى كتاتيب،
أساس التعليم فيها حفظ القرآن، وتسمى تلك الكتاتيب التحضيريات لأنها تؤهل
البنين للانتظام في تلك المعاهد الدينية، ويبلغ متوسط تلامذة تلك الكتاتيب ٢٥٠٠،
وقد صرفت مشيخة الأزهر في العام الماضي مكافأةً سنويةً لألف تلميذ من الكتاتيب
التابعة للأزهر، وبلغ مجموع تلامذة التحضيريات التابعة لمشيخة معهد الإسكندرية
١١٠١ في بعض السنين، وفي استيلاء المشروع على تلك النسبة من مجموع أبناء
الأمة استيلاء على تلك التحضيريات التابعة للمعاهد أو محو لها وصد للذين
يريدون تعليم أبنائهم القرآن الكريم من العلماء وغيرهم.
(٨) إن جميع الفوائد الخُلُقية والعقلية والتهذيبية والسياسية والاجتماعية إلخ
إلخ التي أفاضت لجنة الوزارة في بيانها وترتيبها على تعليم الطفل - هي بنفسها
مترتبة بدرجة مضاعفة جدًّا إذا كان أساس التعليم في تلك المدارس الأولية هو
حفظ القرآن الكريم، أو على الأقل حفظ نصفه، وتعتقد اللجنة بحق أنه إذا بذلت
الحكومة مجهودًا في هذا المشروع جاعلةً نصب عينها حفظ القرآن الكريم،
والعناية بتعليم الديانة الإسلامية لأبناء المسلمين - تكون قد أنبتت الجيل المستقبل
نباتًا حسنًا، ورفعت الأمة المصرية إلى مكانها اللائق بها بين الشعوب
الإسلامية، وأهدت إليها - من حيث إنها شعب إسلامي - روحًا عاليةً في حياتها
الأدبية والاجتماعية بما تغرسه في نفوس الأبناء من المثل الأعلى للتهذيب الإسلامي.
ولأجل أن تكون اللجنة غير مظنون بها أنها مدفوعة في هذا القول بمحض الميل
الديني من غير نظر إلى الإصلاح - تستلفت اللجنة نظر الحكومة إلى أن الأحداث
المجرمين الذين تتزايد نسبتهم كل سنة حسب الإحصاء الرسمي لا يكاد يوجد بينهم
حدث ممن تعلموا في مدارس القرآن واستظهروا جانبًا منه، فكيف إذا انضم إلى ذلك
متممات الوسائل الإصلاحية التي يقتضيها المشروع.
ولا يفوت للجنة أن تنوه بأنه يوجد عدد غير قليل من رجال البلاد المعدودين
لم يتعلموا إلا التعليم الأولي في تلك المكاتب المعهودة، وقد أفادهم حفظ القرآن في
فاتحة حياتهم تهذيبًا في الأخلاق، وتنويرًا في العقل، وتثقيفًا في الحكم.
(انظر آخر الفقرة ١٥ من تقرير لجنة الوزارة) [١] حتى صارت الحكومة
والبلاد تعتمد عليهم في كثير من شئونها الأدبية والاجتماعية خصوصًا في فض
الخصومات، وحل المشكلات، وهذا أكبر ما ينتظره رجال الإصلاح من نتيجة ذلك
المشروع، فكيف إذا عني بتعميم تلك المكاتب في أنحاء القطر، وزيد في تنظيمها
وإصلاحها مع المحافظة على جعل أساس التعليم فيها هو حفظ القرآن الكريم، كما
هو الآن؟ .
(٩) إن بذل الحكومة المصرية عنايتها في تعميم تعليم الشعب وتربيته
على مبادئه الإسلامية بما في ذلك حفظ القرآن الكريم الذي اعتاده من ثلاثة عشر
قرنًا - يدرأ عن الشعب أخطارًا اجتماعيةً وأضرارًا جمةً، أقلها تلك الفوضى الأخلاقية
التي ينزع إليها النشء، واتساع مسافة الخلف بينهم وبين آبائهم المحافظين على
مبادئهم الدينية، وبذلك يقع الانشقاق في الأسرات، ويترتب عليه الأضرار
الاجتماعية التي لاحظتها لجنة الوزارة (في الفقرة ١٧) [٢] وليس هناك خلف
أشق للعصا وأضر على الهيئة الاجتماعية من نشء يخرج على أمته، وينسلخ من
دينه بما يسمى الآن التعليم الحر، أو حرية العقيدة، ومما يثمره التعليم الأولي على
أساس تلك المبادئ الإسلامية القضاء على حركة الجرائم والجنايات التي ضجت
التقارير الرسمية من فشوها وزيادتها كل عام، أو تخفيض نسبتها تخفيضًا كبيرًا
على الأقل، وتلك فائدة كبرى طالما بذلت الحكومة مجهودات جمةً للحصول عليها،
وها نحن أولاء نرى الناس الذين يحفظون شيئًا من القرآن يتناهون ويتواعظون
في أسواقهم، ومعاملاتهم الاجتماعية والأدبية بقولهم: هذا حرام، وهذا حلال،
وقال الله، وقال الرسول. فإذا بطل هذا ببطلان حفظ القرآن من الكافة ضاعت
الأمانة وفسد الأمن، وفاض الغش والنفاق بين الأفراد بعضهم مع بعض، وبين
الأفراد وحكومتهم، ووقعت الحكومة في سائر فروعها الإدارية والاقتصادية
والسياسية في مشكلات من الأمور لا تتناهى، فكل ما يقال عن فوائد تعميم تعليم
الشعب لا يكون صحيحًا وافيًا بالغرض إلا بشرط كون التعليم على المبادئ
الإسلامية. بذلك قضت طبيعة الشعب المصري الذي له ثلاثة عشر قرنًا في الإسلام،
وعلى دلت التجربة في تربيته.
(١٠) إن من القواعد الهامة التي تترتب على جعل حفظ القرآن الكريم
أساسيًّا في التعليم الأولي تمرين النشء على النطق الصحيح، وضبط الألفاظ
العربية تمرينًا فعليًّا، فهو من جهة أخرى خدمة كبرى للغة العربية، ولا سيما أنها
لغة البلاد الرسمية.
(١١) نص قانون الأزهر والمعاهد الدينية (بالمادة ١٣٩) على أن
المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية هو المختص بوضع لائحة نظام إدارة
المكاتب التحضيرية التابعة للمعاهد الدينية (والكتاتيب) والمشروع يقضي
صريحًا بأخذ هذا الحق جملةً من سلطة المعاهد الدينية، ورفع يدها عن تلك
المكاتب الدينية بمحوها، أو صبغها بصبغة أخرى.
(١٢) وتختم اللجنة قولها بإبداء النتيجة التي تراها في الموضوع، وهو أن
يجعل من مواد التعليم الأساسية في هذه المدارس حفظ القرآن الكريم، وترى اللجنة
لضمان حراسة هذا الشعار الإسلامي في تلك المدارس الأولية وجوب اشتراك رياسة
المعاهد الدينية في وضع منهج الدراسة لها، ومراقبة سير التعليم فيها، ولا
غضاضة في ذلك على الوزارة، فقد جاء في تقرير لجنتها أن حكومة بلجيكة - بعد
طرق شتى - رأت أن الأوفق جعل التعليم الديني في مدارسها إجباريًّا تحت مراقبة
الكنيسة، ومعلوم أن تعليم الديانة في القطر المصري يبتدئ للبنين في حفظ القرآن
الكريم.
وتنوه اللجنة هنا بمنهج التعليم الذي أقره المجلس العالي للمعاهد الدينية بجلسة
٢٥ مارس سنة ١٩٠٥ للتحضيرات التابعة لمعهد الإسكندرية، ومقدار أثره الجليل
في مدة وجيزة، وإقبال الشعب عليه حتى طلب أصحاب المدارس الأهلية في تلك
المدينة الاندماج في نظام تلك التحضيرات، ودخلوا طوعًا تحت مراقبة مشيخة
المعهد، وأتت تلك التحضيرات بالنتيجة الهامة، ولم تكن فائدتها قاصرةً على مجرد
التأهيل للالتحاق بالمعهد، بل نفعت الذين اقتصروا عليها واشتغلوا بأشغال
عمومية، وذلك لما تُعلِّمه تلك التحضيرات مع حفظ القرآن الكريم من المواد الهامة
النافعة في الحياة العملية كالخط والحساب والجغرافيا واللغة العربية، وقواعد
الصحة، وعلم الأشياء، وقد نصحت مشيخة المعهد كثيرًا في تقاريرها الرسمية أن
يحذو أصحاب المكاتب والمدارس الأهلية في أنحاء القطر المصري على هذا
المنهج الذي دلت التجربة على نجاحه، فضلاً عن ملاءمته لطبيعة الشعب المصري،
وميول الآباء. ونادت المشيخة المذكورة أولي الشأن الذين يعنون بمصلحة التربية
والتعليم أن يأخذوا بيد هذا النوع من التعليم، ويقضوا على الأمية والجهل حتى
ينهضوا بالبلاد إلى ما تستحقه من الرقي والكمال.
وتبدي اللجنة بمناسبة هذا الموضوع ملاحظتها على وزارة الأوقاف في تلك
المبالغ الهائلة التي تدفعها سنويًّا إلى وزارة المعارف العمومية لتدير لها كتاتيبها،
ومعلوم أن تلك المبالغ إنما هي من ريع الأوقاف المرصودة على حفظ القرآن الكريم
ولكن وزارة المعارف لم تُعِر ذلك التفاتًا لما أن اختصاصها هو إحياء المعارف
العمومية، وليس لها اختصاص بالشئون الدينية اختصاص المكلف بالشيء المسئول
عنه بدليل أن أكثر ما صنعته في منهج الدراسة الذي وضعته لتلك المكاتب سنة
١٩١٦ فيما يختص بمادة القرآن قولها عند مقرر كل سنة (يحفظ من القرآن ما
يمكن) (الاستمرار على حفظ ما يمكن من القرآن) بينما هي تبسط القول في
التشديد والعناية بالمواد الأخرى.
وإذا كان هذا تساهل منهج الدراسة في القرآن فكيف يكون تساهل المعلمين
فيه؟ وهل يمكن بعد ذلك القول بأنه يوجد في تلك المكاتب من يحفظ جزءًا واحدًا من
القرآن فضلاً عن حفظ جميعه الذي وُقفت عليه تلك الألوف؟
هذا ما عنَّ لنا، والله يوفق الأمة إلى ما فيه الخير والصلاح، وتفضلوا يا
صاحب الفضيلة بقبول فائق احترامنا.
... ... ... ... ... ... ... ... توقيع أعضاء اللجنة
محمد أحمد الطوخي , محمود أبو دقيقة , محمد علي خلف الحسيني , يوسف أحمد
نصر الدجوي , محمد عبد السلام القباني
(تم)