حادث تنصير البربر يتكرر في مصر [*] المجالس الحسبية من المؤسسات الشرعية الإسلامية في هذا القطر، فهي أصلاً من اختصاص القاضي الشرعي وحده، ولظروف لا تريد بالإسلام والمسلمين خيرًا - ضُم إليه فيها عضو إدارة وعضو أعيان، مع بقاء كل مظاهر الاختصاص فيها للقاضي الشرعي، فكانت رسومها ترد إلى المحاكم الشرعية، وكان القاضي الشرعي يحضرها ومعه كاتبه ومضبطته؛ ليضبط كل القرارات التي تصدر متوَّجة باسمه، محالة عليه من رئيس محكمته، فألغيت كل هذه المظاهر الشرعية شيئًا فشيئًا، ولم تفاجَأ بها هذه الأمة الإسلامية حتى لا تحس بما يبيَّت لشريعتها، وقد كان أحمد باشا خشبة رأى ما في هذه المجالس من حال غير قارَّة، ومظاهر غير سارة - فاستشار فيها القضاة جميعًا، فكان أغلب الرأي في غير صالح وجودها على تلك الحال، ووفقًا لغالبية الرأي ألغى الإدارة الحسبية وضمها للإدارة الشرعية، وبذلك نجت ميزانية الدولة من عبء باهظ. وقد اتفق رأي إلغائها مع إسلامية البلد وزعامتها في مظاهر الإسلام، وأن إهانة القاضي الشرعي بجعله مرءوسًا دائمًا في عمل هو من اختصاصه دون سواه شيء يمجه تقليد البلد، وأدبه مع علماء دينها وقضاته، فضلاً عن أنه ليس عدلاً، بل ينطوي على مقدار ظاهر من العصبية ضد قضاة المسلمين، وزيادة على ما تقدم فإن غيرة المسلمين على أحكام دينهم لم يخف عليها أن القاضي الشرعي إنما أحيط بعضوين في هذه الهيئة لا صلة لهما بالشريعة الإسلامية لأجل شل أحكامها في هذه المجالس، وإن ذلك إنما يراد به أن يألف الشعب الزراية بالإسلام وعلمائه وقضاته، ويألف القنوع من الشريعة بعضو مشلول مغلول لا يملك لحكمه تنفيذًا حتى تحين غفلة من الشعب الإسلامي فيبتر هذا العضو نهائيًّا بعد أن تكون هذه المجالس قد امتصت كل اختصاص المحاكم الشرعية، وكل ذلك تمهيد لإلغاء هذه المحاكم نفسها، وهو اليوم الذي يتم فيه انهزام الإسلام في داره على يد أبنائه والعياذ بالله. واتفق رأي إلغاء هذه المجالس أيضًا مع الأمور الآتية: (١) أن أمور الأوصياء والقامة والوكلاء والمحجورين من الأحوال الشخصية، والمحاكم الشرعية على أسوأ تقدير محاكم الأحوال الشخصية للمسلمين في مصر، ولو وجد الإسلام نصيرًا لكانت محاكم المسلمين في كل أمورهم. (٢) أن هذا الباب من المعاملات وردت فيه أحكام شرعية يجب اتباعها وتحرم مخالفتها، ولم تكن من مشتملات القانون الأهلي. (٣) أنه رغم كثرة الشكوى من مجالسنا واختلالها بسبب تنافر تأليفها وفساده، وتناقضه من علم وجهل، ودين ولا دين، ونظام وفوضى، وقضاء وإدارة، حتى صارت أسوأ حالاً من محاكم الاختلاط التي خنقتها العدالة، ولكن هذه المجالس لا يمد في وجودها إلا أنها قائمة لنقض أحكام الإسلام، ورغم كل ذلك يدعون أنها عنوان الرقي في مصر، وأن البلاد الإسلامية الأخرى التي تتولى أمور المجالس الحسبية فيها المحاكم الشرعية، ولا يوجد بسبب ذلك أي شكوى متأخرة؛ لأنها لم تبتدع مفسدة كالمجالس الحسبية تثل بها في بلادها عرش شرع الإسلام، وينتج من ذلك أن مصر وحدها هي التي تتهم قاضيها الشرعي وتهينه عصبية للقضاء الأهلي، وأنه أحط تربيةً وتحقيقًا من كل القضاة الشرعية في كل باقي بلاد الإسلام. (٤) أن المحاكم الشرعية تتولى تطبيق الأحكام الشرعية في بعض المسائل كالأوقاف والمواريث، ثم تتولى المحاكم الأهلية الجانب التنفيذي المدني فيها، فيجب أن تكون المجالس الحسبية كذلك. فهذا ملخص الأستاذ خشبة باشا، ثم قفَّاه الغرابلي باشا، فجعل لهذه المصلحة وكيلاً من القضاة الشرعيين، وهذا معنى كبير، ولكن عهده لم يطُلْ. وأما معالي الوزير الحالي فمع أنه كان يُنتظر منه أكثر من ذلك؛ لأن معاليه يتحرى أكثر رضاء جلالة مولانا الملك - والأمور الشرعية الإسلامية لدى جلالته بالمكان الأول - طرد وكلاء الإدارات الشرعيين، ووسع وجود هذه المجالس اللادينية وبعُد بها عن الشريعة كثيرًا، ورغم ما فيها من مظاهر الإهانة لحرمات البلد: (١) لتسلط الإدارة على القضاء الشرعي فيها؛ لأن المدير ووكيله والمحافظ ووكيله والمأمور يرأسون القاضي الشرعي للغاية التي بيناها. (٢) وتحكيم قاضٍ في قاضٍ، وهو عمل لا يسيغه أي ذوق؛ فضلاً عن أنه إفساد ما بين طائفتين من الزملاء، وهذه عيوب قضائية لا يحتملها أي نظام، ورغم كل هذا فإن معاليه لم يعمل لتدارك هذا الفساد بالإصلاح، بل بنى عليه، فأنشأ مجالس حسبية استئنافية تزيد في البلد ثورة الفوضى والفساد وتزيد عبء الميزانية التي على وشك الرزوح والإعياء. ولا ندري إذا ظفرنا بقاض شرعي استوعب التعليم الديني واللاديني والتهذيب الوضعي والفلسفي في حيز معاهد القضاء، ودرس في خمسة عشر عامًا الشريعة التي يحكم بها حتى تفقهت فيها نفسه، ثم تدرب وجرب وغمر هذا الاستعداد الراقي سائر المحاكم الشرعية قضاةً وكُتابًا، ولم يبق في المحاكم بعد هذه الحركات العنيفة من يقال فيه: لو؛ ولا ليت. إذا كان الأمر كذلك فمتى ننصف قاضينا الشرعي بين قضاة العالم؟ ! ومتى يقضي على العصبية ضده لزميله المطربش، فإن هذا غير جميل من ناس تخرجوا من القضاء، والعصبية ضده إنما هي العصبية ضد الإسلام! والخطأ الشائع أن بعض المسلمين يقيسون الإسلام على المسيحية، مع أن هذه ديانة أخروية روحية محضة لم تجئ بحكم واحد، لكن الديانة الإسلامية ديانة ختامية كاملة شاملة، فهي نظام كامل لدولة إسلامية وأمة إسلامية وتاريخ إسلامي. فالمصحف كما يوجد في المسجد يوجد في مقاصير البيوت وزوايا الأكواخ، ويوجد على سُرُر الملك ومِنصات الأحكام ومعترك الأسواق وميادين الحروب ونوادي السياسة. وبالإجمال فحيث تقعد أو تمشي أو تقف أو تنام يطل عليك المصحف بأحكامه وآدابه، فإن عصيته لم تكن به مؤمنًا ولا بارًّا. وأما ما يتشدق به المفتون منا من أن الأحكام الشرعية أمور مدنية لا يضر الدين في شيء أن تتولاها المحاكم الأهلية بقوانينها فليس بعيدًا من الذي يقول: إن الديانة الإسلامية أو سواها من الديانات ليست إلا دعوى إلى خير وفضيلة، فتتساوى فيها جميع الأديان والمذاهب الأخلاقية والمبادئ القائمة عليها جمعيات الخير، فيمكن أن يُستغنَى عن الإسلام مثلاً بالماسونية وكفى الله المؤمنين القتال، وبعد: فإما إسلام صريح أو لا إسلام، فإن الأمم لا تنهض بهذا الارتياب. وما كنا ننتظر أن يشكو لمعالي الوزير ثلاثمائة عالم إسلامي من هذه المجالس باسم الانتصار لأحكام الإسلام وكرامة قضاته ثم لا ينصفون. (المنار) جاءتنا هذه الرسالة في البريد فأهمنا أصل الموضوع فيها جدًّا على إنكارنا على الكاتب بعض التشنيع الشرعي، الذي لا ينبغي لمن يطالب بمثل هذا الحق الشرعي، ونرى أنه يجب على رياسة المعاهد العلمية الدينية في مصر أن تتولى مطالبة الحكومة بجعل هذه المجالس الحسبية شرعية تابعة للمحاكم الشرعية يتولى رياستها قضاة الشرع بما هو مقرر في الشرع، وأن ينكروا عليها أي تشريع يتعلق بحقوق الشرع ومحاكمه بدون موافقة رجال الشرع عليه وإقرارهم له، ويجب على مجلتهم (نور الإسلام) بسْط ذلك. إذا صح ما ذكره صاحب هذه الرسالة من أن ثلاثمائة عالم من علماء الإسلام شكوا إلى وزير الحقانية مسلك وزارته أو عمله في هذه المجالس الحسبية بما يعد اعتداءً على حقوق المحاكم الشرعية، وما يلزمه من الاعتداء على الشريعة نفسها - ولا تخاله صحيحًا - فكيف تسكت رياسة المعاهد الدينية ومجلتها على هذا؟ وأي خدمة للشرع تُرجى منهما إذا أضاع رجالهما هذا الحق، ورضوا بهذا الهضم لحقوق الشرع؟ ما أرى لهما عذرًا إلا عدم العلم بما بينه هذا القاضي الشرعي في رسالته هذه، إذا كانت الحكومة المصرية تحرم على علماء الإسلام التعرض لسياستها الخارجية وإدارتها الداخلية، فهل تستطيع أن تحرم عليهم التصدي لحماية ما بقي من الأحكام الشرعية، وتُكرههم على الرضا بمثل ما بينته هذه الرسالة في شأن المجالس الحسبية؟ ! كلا، إن على فضيلة الأستاذ الأكبر رئيس المعاهد الدينية أن يكتب إلى الحكومة بوجوب جعل المجالس الحسبية شرعية خالصة، فإن لم تستجب له فعليه أن يرفع الأمر إلى جلالة الملك صاحب النفوذ الأعلى، وكلمة من جلالته تعيد الحق إلى أهله، وتحله في محله.