للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عداء وخداع

أوغلت الدول الطامعة في الاعتداء وغلت في هضم الحقوق غلوًّا كبيرًا
تتحالف وتتخالف. وتتعادى وتتناصف. وتتنازع على الممالك والبلاد. ويرضي
بعضها بعضًا بحقوق العباد. وأما العدل والفضيلة والإنسانية والمدنية وحقوق الدول
والأمم فهي تارة تكون طلاءً قوليًّا يموهون به أفعالهم الشنعاء وتعديهم المشوه، وطورًا
تكون سلاسل وأغلالاً يقيدون بها الضعيف؛ لكيلا يكدر صفاء كأسهم ويضطرهم إلى
شيء من التعب في كبحه إذا حمله اليأس على الاستبسال في المدافعة عن نفسه.
تنازع أمس الأشعبان [الإنكليز والفرنسيس] في النيل الأعلى، وانتهى التنازع
باقتسام تلك الأراضي الفيح والملك الفسيح، فأرضت إحداهما الأخرى بحقوق
غيرهما حتى كأن بلاد الضعفاء مختصة بهما، وهذا هو حكم الجبروت الظالم والقوة
القاهرة التي عبر عنها فقيد السياسة (بسمارك) بقوله المشهور: (القوة تغلب
الحق) وقد وقعت وداي وبقرمي في سهم فرنسا وهما من البلاد الداخلة في ظل سلطان
الدولة العلية. وكانت إيطاليا تنتظر في مثل هذه القسمة أن يكون لها سهم فتفوز
بطرابلس الغرب مطمح نظرها ومنتهى أمنيتها، ولقصر نظرها توهمت أن إنكلترا
تساعدها على هذا الأمر، فلما خاب الأمل طفقت جرائدها تسلق الإنكليز بألسنة حِدَاد،
ولكن العجب أن فرنسا التي تطمع في طرابلس لمجاورتها لها في تونس والتي زاد
طمعها فيها أخذ وداي وبقرمي في جنوبيها ذكرت إحدى جرائدها المعتبرة (الطان)
كلمة إغراء لإيطاليا باحتلال طرابلس الغرب، وطير هذا الخبر البرق إلى سائر
الأقطار.
فإذا لم يكن هذا القول تهكمًا وسخرية فهو خداع لإيطاليا كما أنه عداء ظاهر
للدولة العلية. أما وجه الخداع فهو أن ولاية طرابلس ليست مذللة بالظلم أو الترف
ولا مفتونة بمدنية أوربا، وأهلها أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم النظام العسكري
والسلاح الجديد، فإذا قدرت إيطاليا أن تدك بأسطولها الحصون والمعاقل الحربية
المنشأة على الطراز الحديث وتحل بعساكرها في الولاية؛ فإنها تلاقي من
الطرابلسيين ما ينسيها ألم الخذلان والانكسار في الجيش ويخرجها خاسئة خاسرة
فتستفيد فرنسا بذلك زيادة ضعف إيطاليا وهي من أعدائها والفلّ من حد الطرابلسيين
الذين يطمعون فيهم ويخشون بأسهم.
أعظم حسنات مولانا السلطان عبد الحميد: ثِنْتان - الآلايات الحميدية، وتعميم
التعليم العسكري، ولا يوجد في الدنيا بلاد إسلامية قائمة بواجب التعليم العسكري؛
بحيث يقدر جميع أهلها على المدافعة المفروضة شرعًا إذا دخل العدو البلاد إلا
طرابلس الغرب وأفغانستان، ولقد قوي الأفغانيون من قبل على الإنكليز وأخرجوهم
من ديارهم كرهًا بعدما احتلوها، ولم يكونوا كما هم الآن، وهم حتى الآن ليسوا كأهل
طرابلس فيما نعلم. الطرابلسيون أرمى من الثعلبين، لا تكاد تخطئ الغرض لهم
رصاصة، ولا يكلفون الدولة في الحرب شيئًا؛ فإن جراب الدخن الذي يضعه أحدهم
على ظهره وقت المجالدة والمكافحة - يكفيه شهرًا كاملاً! وهم يحتقرون عسكر
الأتراك الذين يذهبون إلى بلادهم، وقد علم الناس أجمعون أنه عسكر شهدت له أوربا
كلها بأنه لا يفوقه عسكر في العالم، ومن الطرابلسيين جماعة السنوسي وهم الذين قال
فيهم الفرنسيون: إنهم أشد من الصخور؛ لأن هذه قابلة للتفتت وهم لا يتفتتون.
ووراءهم أهل وداي وبقرمي وسائر السودان الغربي، وكلهم خاضعون للدولة العلية
فإذا ألمَّ بإخوانهم في طرابلس ما يكرهون كانوا أعوانًا لهم، والله نعم المعين.