للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إحياء الإسلام لمدينة اليونان والرومان والمصريين

ذكرنا في آخر الجزء الماضي أن المقتطف الأغرّ قرَّظ كتاب (الإسلام
والنصرانية مع العلم والمدنية) وانتقد في تقريظه التمثيل الذي أوردناه في مقدمة
الكتاب مُوردًا انتقاده في صورة سؤال يستحب أن يسمع جوابه إن كان عندنا جواب،
وها نحن أولاء نوافيه بما يجب بعد إيراد السؤال أو الانتقاد. قال الكاتب الفاضل
بعد ذكر اسم الكتاب ونسبته إلى من نسب إليه: (وهو مقالات نشرت في مجلة
المنار الإسلامي، ثم جمعت على حدة في كتاب. قال حضرة الأستاذ الفاضل السيد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار في تمهيد وضعه لها ما نصه:
(ينبوع تفجر في أرض وفاض ماؤه على غيرها فأحيا الأرض بعد موتها
ولكن القائمين على حراسته وتعاهده وضعوا فوقه أنقاضًا من خرائب جيرانهم
فَغِيضَ الماء وما بقي منه صار مستنقعات تُحتوى، ولم يلبث بعدما غاض أن فاض
منه شيء في مواضع أخرى فانتفع أهلها به وحافظوا عليه ولكن الأكثرين منهم لا
يعرفون مِنْ أين جاءهم كما أن أكثر أهل الينبوع المنتسبين إليه لا يعرفون أن ذلك
الماء الذي تفجر من تلك المواضع فأنشأ أهلها به حدائق ذات بهجة وهو من ماء
ينبوعهم وأنهم لو أزالوا عنه تلك الأنقاض لفاض ورجع إليهم به خصبهم ونماؤهم
كأحسن ما كان؛ لأنهم تعلموا من غيرهم كيف يُسْتَخْدَمُ الماء للإحياء. ذلك مثل
المسلمين اليوم مع الأمم الغربية الحية الراقية، أخذ الغربيون من الإسلام كل أصول
الإصلاح الذي هم فيه) .
(ثم قال الكاتب بعد نقل هذه الجملة ما نصّه) : (ويا حبذا لو بيّن لنا
حضرة الأستاذ الفاضل من أين أتى الماء الذي أحيا مدنية اليونان والرومان
فأنشؤوا به الحدائق والجنات والماء الذي أحيا مدنية المصريين الأقدمين
فبقيت آثارهم الصناعية إلى الآن لم يقوَ ملوك العرب على محوها مع ما بذلوا في
ذلك من العناء وآثارهم الأدبية مرسومة في صفائح الصخور تُعلّم أسمى الفضائل
وأفضل الآداب) .
* * *
(جواب المنار)
كنا بالأمس أو بالأُمُوس نردّ شبهات بعض المتطفلين على موائد العلم
والمتهجمين على الطعن في الإسلام بغير فهم، ونحن اليوم إنما نذاكر عالمًا غزير
المادة واسع الاطلاع، ونناظر أديبًا ذكي الفؤاد، دقيق الانتقاد إلا أن قلمه عثر في
هذا الميدان وقد يكبو الجواد.
من حسنات المقتطف أنه ينتقد الكتب التي يقرظها ولا يتبع سنن الجرائد في
مدح كل ما يهدى إليه من كل وجه وإن كان مذمومًا من وجوه كثيرة، وانتقاد الكتب
التي تنشر بين الناس أمر نافع ولكنه وعر المسلك؛ لأن وقت كتاب المجلات
والجرائد قصير يضيق عن قراءة كل ما يهدى إليهم من المطبوعات لانتقاده، ولأن
أصحاب تلك المطبوعات من المؤلفين أو الناشرين يألمون من الانتقاد وإن كان حقًّا
ومقنعًا، وبعض الانتقاد يؤلم الجماهير من الناس إذا كانوا على خلاف رأي المنتقد،
فالتصدي للانتقاد مع هذه الوعورة في طريقه يُعدّ فضيلة توجب الثناء والشكر
على من يعرف فوائد الانتقاد في تجلي الحقائق وتحري الصواب وتنقيح العلوم
والفنون، ولقد قلت من قبل قولاً في ذلك كشف به عما في نفسي وهو: سواء
عندي مَنْ مدح قولي ومن انتقده؛ لأنني في حاجة إلى معرفة ما يستحسن منه وما
يستقبح على سواء بل ربما كنت أَحْوَج إلى معرفة موضع النقد، مني إلى معرفة
موضع الحمد؛ لأن هذا أبعث على إصلاح العمل، وأهدى إلى توقي الزلل.
أما عثرة المقتطف فهي ظاهرة لأول وهلة في تحويل التمثيل عن موضعه
فإنه صريح في كون الكلام في (المسلمين أو مع الأمم الغربية الحية الراقية) لا مع
المصريين الأولين، ولا مع اليونانيين والرومانيين، وصريح في كون الأمم الحية
أخذت من ينبوع الإسلام كل أصول الإصلاح الذي هم فيه، وهذه المسألة المجملة
في مقدمة الكتاب مفصلة بعض التفصيل في الكتاب نفسه؛ ولذلك لم يطلب المنتقد
بيانها؛ لأنه طلب تحصيل الحاصل، أما مدنية المصريين واليونان والرومان فالناقد
يعلم أنها قد ماتت قبل ظهور الإسلام وإن بقي لها آثار تدل عليها ويعلم أن الإسلام
أحياها بعد موتها فأنشأ أهله - لا أهلها - بها حدائق العلم والعمل في بغداد ومصر
وقرطبة أو في الشرق والغرب والوسط، ومن هذه البلاد انتقل العلم والمدنية إلى
الأمم الغربية الحية بلا نزاع.
ولم يكن الكلام في ذلك التمثيل في المدنية الصناعية وإنما كان في الإصلاح
البشري أي الإصلاح الذي ارتقت به عقول البشر وتهذبت نفوسهم وتوثقت روابطهم
الاجتماعية وعرف بعضهم لبعض حق الإنسانية، فإذا كانت تلك الأمم التي سبقت
الإسلام بالمدنية الصناعية وبنى أهلها أهرامًا لم يَبْنِ مثلها المسلمون، فالإسلام قد أفاد
البشر ما لم تفده تلك الصناعة أفادهم ارتقاء في العقول، علّمهم أن تلك الأهرام وما
يشابهها قد بُنِيَتْ باستعباد البشر وأَسْر أرواحهم وأشباحهم وتسخير الملايين منهم
لخدمة شهوة ملك من الملوك الظالمين أو لخدمة وساوسه الدينية.
علمهم أن تلك المدنية كانت تسخر بعلمها المحصور في طبقة مخصوصة
أبصار الأُمة وتخيل للناس ما ليس له حقيقة فتسترهبهم وتحملهم على الخضوع
الأعمى لأولئك الرؤساء الضالين المضلين، الغارّين المغرورين.
علمهم كيف يحكمون على اليونانيين بفساد الفكر في الخضوع لآلهة لا وجود
لها إلا في الخيال وتحكم تلك الأوهام في مدنيتهم وحربهم وصناعتهم فهيكل
جوبيتيير الذي يدهش الناظرين بديع صناعته هو آية على أن تلك المدنية الصناعية
كانت مقترنة بضلال العقل وفساد الفكر في المسائل التي يمتاز بها البشر على
النحل والنمل والعنكبوت وهي حشرات أتقنت أعمالاً من الصناعة كانت فيها من
أساتذة الإنسان كما يقول بعض العلماء.
علمهم كيف يحكمون على شرائع تلك الأمم وقوانينها بالظلم وهَضْم حقوق
الإنسان بما يفضلون شعوبهم على سائر الشعوب في الحقوق فإنه لم توجد شريعة
وَضْعية ولا سماوية معروفة قبل الإسلام تساوي بين أهلها وبين جميع من يقبل
حكمها من المخالفين وإن كانوا قومًا مُعادِين {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨) وهذه الآية من سورة المائدة التي هي آخر القرآن نزولاً ومعناها لا تحملَنَّكم معاداة قوم على ترك معاملتهم بالعدل فإن العدل واجب مع الولي والعدو؛
لأنه من تقوى الله الخبير بالأعمال والمجازي عليها، والمصريون كانوا يستحلّون
ظلم غير المصري بل يُعبّدونه تعبيدًا لمَلِكهم كما فعلوا بالإسرائيليين، وكذلك
اليونان والرومان وهذا تاريخ اليهود شاهد بأن الرومان قد ظلموا الإسرائيليين ظلمًا
يضاهي ظلم المصريين لهم، فأين هؤلاء وأولئك من معاملة الإسلام لليهود، تقدمت
الذكرى في الجزء الماضي بمساواة عمر بين علي بن أبي طالب (وما أدراك مَنْ
هو) ورجل من آحاد اليهود، وعندنا ما هو أعظم من ذلك وأشرف:
روى الطبراني وابن حبان والحاكم والبَيْهَقِيّ وغيرهم (عن زيد بن سَعْنَة
وكان من أحبار اليهود أنه ابتاع من النبي صلى الله عليه وسلم تمرًا إلى أجَل
وأعطاه الثمن، فلما كان قبْل الأجل بيومين أو ثلاثة أتاه يطالبه بالتمر (قال) :
فأخذْتُ بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا
محمد حقّي فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مُطْلٌ. فقال عمر: أي عدو الله , أتقول
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي
رأسك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليّ في سكون وتُؤدة وتبسم ثم قال:
أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك- يا عمر - أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره
بحسن التقاضي اذهب به فاقضه وزده عشرين صاعًا مكان ما رُعته) ففعل ثم أسلم
هذا الحبر الجليل وقال بعد ذلك: إنه فعل ليختبر أخلاق النبوة وعلاماتها فلما رآها
كملت فيه عليه السلام آمن به.
وجملة القول أن الإسلام علم البشر أصول السعادة الحقيقية التي لم تكن
معروفة عند المصريين ولا اليونان ولا الرومان أهمها:
(١) صقل العقول بصقال التوحيد الخالص وتطهيرها من صدأ الخرافات
والأوهام ليكون الفكر مستقلاًّ فيما يعتقد يرفض التقليد ويعتمد على البرهان.
(٢) بيان أن للكون سننًا ونواميس ثابتة ينبغي أن يهتدي بها الإنسان في
سيره العلمي والعملي.
(٣) توسيع دائرة الجنسية بجعل شريعته تساوي بين جميع الأمم والملل إذا
قبلوا حكمها، وقد كانت جنسية المصريين مصر واليونانيين أثينا والرومانيين
رومية.
(٤) القصد في المعيشة فقد أسرف القوم في الشهوات إسرافًا صاروا بها
شرًّا من البهائم.
ولو شئت أن أسرد محاسن الإسلام وأعدد مساوئ تلك المدنيات القديمة
لخرجت من جواب سؤال إلى تأليف أسفار كبيرة، وقد نشرنا في الجزء الماضي
نبذة معربة من كتاب أميل القرن التاسع عشر في انتقاد آداب اليونان والرومان
وفيها عبرة لمن اعتبر.
فإن قيل: إن النصرانية قد سبقت الإسلام إلى إخراج اليونان والرومان من
ظلمة الوثنية أقول أولاً: إن النصرانية لم تنتشر في تينك الأمتين إلا بعدما داخلتها
هي الوثنية ولكنها قربتهم من التوحيد؛ لأنها نقلتهم من عبادة مخلوقات كثيرة إلى
عبادة مخلوق واحد على أن فيه معنى من الألوهية مركبًا من ثلاثة أقانيم، وثانيًا أن
النصرانية لم تجتمع مع مدنية الأمتين وإنما أجهزت عليها حتى محت تلك العلوم
قبل أن تبلغ كمالها، وطمست تلك الأعمال الصناعية وشوهت جمالها، وما زالت
في تدل وانحلال، حتى جاء الإسلام فانتشلها من براثن الاضمحلال، ذكر
المؤرخون أن المسيحية تمكنت في أثينا أثناء القرن الخامس، وفي أول القرن
السادس قطع يوستنيانوس أجرة المعلمين العموميين في أثينا ومنع تعليم الفلسفة؛
لأن المدارس كانت مضرة بالنصرانية، ومن ذلك الوقت أخذت أثينا بالانحطاط.
ونختم القول بنتف من التاريخ في مساوئ وخرافات اليونان والرومان الذين
يباري المقتطف بهم الإسلام، قال في برهان البيان: (بينما كان الرومانيون
محتفلين بعمل موسم تشريف لروح قيصر؛ إذ ظهرت نجمة ذات ذنب طويل
ومكثت سبعة أيام فظنت الأمة الرومانية أن روح قيصر صعدت إلى السماء
وتصورت بهذه الصورة وانتظمت في سلك العالم العلوي) ! !
فلولا وجد من الرومانيين من يقول كما قال النبي الأمي عليه الصلاة والسلام
لقومه عندما كسفت الشمس يوم مات ولده إبراهيم وظنوا أنها كسفت لموته: (إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته) .
وجاء في ذلك التاريخ أيضًا: كان من ثوابت عادات اليونان وأهل آسيا بناء
هياكل للملوك، بل ولكبار الحكام ليكون ذلك أقوى في الدلالة على الانقياد والعبودية،
وأما الرومانيون فكانوا يعبدون أسلافهم في معابدهم الخاصة فقط: ثم ذُكر أنه من
عهد رومولوس إلى عهد قيصر لم ينتظم أحد في سلك الآلهة التي لها هياكل ومعالم
عامة.
ومن ظلمهم أن طيباريوس اتخذ القانون القاضي بعقوبة كل من يُهْدي إلى
الأمة الرومانية آلة للانتقام كما يشتهي، وكانت الأمة استعدت لذلك من زمن
أغسطس الذي سلب الأمة حق التشريع والحكم في الجنايات فتفاقم الشر واستشرى
الفساد في عهد طيباريوس الذي سلب الأمة حق الانتخاب أيضًا؛ لأنه كان يعاقب
كل من يتهم بقول أو عمل إشارة تعد انتقادًا على الأمة، وكل الأمة كانت عيوبًا ولا
بد للناس من التبرم من الشر الواقع بالقول والفعل أو الإشارة، بل كانوا يحاسبون
الناس على خواطرهم ويعاقبونهم ولم يكن القضاة يتوقفون في الحكم على المتهم
بأدنى الشبه. وكانوا يعاقبون على أمور لا تخطر في بال أحد من أهل الممالك
المستبدة التي فيها ما يشبه تلك المظالم إلى اليوم، من ذلك أن طيباريوس آخذ رجلاً
باع بيته وكان فيه صورة الإمبراطور، وأن دومنيانوس حكم بالقتل على امرأة علم
أنها نزعت ثيابها أمام صورته! ! فهل كانت تلك المدنية محتاجة في إصلاحها إلى
ينبوع العدالة الإسلامية التي يستوي فيها الخليفة مع أدنى السُّوقة من غير المسلمين
في الحقوق؟ نعم، إنها كانت في أشد الحاجة إليه؛ ولذلك انتشر نور الإسلام بسرعة
البرق.
وقال صاحب برهان البيان: ولما كان الرومانيون متعودين على التلاعب
بالطبيعة البشرية في أولادهم وأرقائهم كما يعلم ذلك بالوقوف على قوانين الرومانيين
المتعلقة بحكم الآباء والأمهات على أولادهم كان لا يمكنهم غالبًا معرفة ما نسميه
إنسانية وهي فضيلة الرفق.. .. وإذا كانت عادة الملة الجبر والقسوة في الحالة
الداخلية الملكية، فكيف ينتظر منها الرفق والعدالة الطبيعية، وكثيرًا ما يطلع
القارئ في تاريخ القياصرة على قتل أناس كثيرين لقصد مجرد ضبط أموالهم للدولة،
ثم قال: ومن نظر في مرآة تاريخ الرومانيين رأى فيها صور الأشياء البشرية
فيجد في هذا التاريخ كثيرًا من الحروب الواقعة والدماء المسفوكة والأمم المدمرة
والوقائع الجسيمة، والنصرات العظيمة، والتدابير الجمة، والحكمة البالغة،
والاحتراس والثبات والشجاعة. ويجد فيه أيضًا تصميم النية على التغلب على كل
شيء، وأنه حصل كما ينبغي واستمر وانتهى كذلك، وأنه لم يترتب عليه إلا إسعاد
خمسة رجال أو ستة من الأشرار:
نقول: فهل كانت مثل هذه المدنية محتاجة إلى ينبوع العدالة الإسلامية
لإصلاحها وإحياء النفوس التي أماتها الظلم والجبروت؟ نعم، كانت في أشد الحاجة
إلى هذا الإصلاح؛ ولذلك قبلت الإسلام بسهولة. ونسكت الآن عن الكلام في فساد
أخلاق الرومانيين وتهتكهم في الخلاعة والفسق وانغماسهم في الترف والملاذّ، وفساد
أخلاقهم الشخصية فقد أوغلوا في ذلك إيغالاً مدهشًا يثبت أن أرواحهم ماتت وكانت
محتاجة للإحياء. وهنا يخطر في بال القارئ أن النصرانية هي التي سبقت
لإصلاح نفوسهم وإحياء مدنيتهم التي أماتها الظلم والفسق، ونقول: إن النصرانية
مهدت بعض التمهيد للإسلام، ولكنها لم تكن محيية بل كانت مجهزة على تلك المدنية
كما أشرنا إلى ذلك في مسألة مدنية اليونان.
* * *
تأثير النصرانية في المدنية الرومانية
جاء في تاريخ القرون المتوسطة أن النصرانية لم تكد تنتشر وتقوى في بلاد
اليونان والرومان، ومنها بلاد مصر حتى رأى رؤساؤها وجوب هدم الهياكل وكسر
التماثيل ومحو الصور اليونانية والرومانية؛ لأنها آثار الوثنية فقاموا لهذا الواجب
حتى محوا آثار صناعة البناء والفنون الجميلة أو كادوا ولولا أن بعضهم رأى تحويل
بعض الهياكل إلى كنائس لما بقي لتلك الأمم أثر في الوجود. وقد أصدر تاودسيوس
أمرًا رسميًّا بهدم الهياكل وتكسير الصور سنة ٣٩٠ للميلاد. ثم رأوا أن في علوم
تلك الأمم خطرًا على النصرانية فطفقوا يحرقونها في كل مكان فقد أحرقت مكتبة
الإسكندرية بأمر تاودسيوس سنة ٣٩٠ للميلاد وأحرقت مكتبة أوكتوغونه في
القسطنطينية سنة ٤٧٦ للميلاد، وحملت الحمية الدينية لاون اللوزرياني على
تحريق ما بقي من الكتب سنة ٧٣٠، وكان في هيكل أبولون بلاتين بمدنية رومية
مكتبة فيها أنفس كتب الآداب من عهد أغسطوس فكانت غَيْرة البابا أغرغاوار وتقواه
عاملتين على إحراقها وحرمان الناس من تلك الوديعة التي جعلها العالم وارون في
حماية إله الشعر وكنفه. (على اعتقادهم) .
والأمر الذي لا خلاف فيه هو أن انحطاط الأمة الرومانية كان مقارنًا لانتشار
النصرانية فيها. فالوثنيون الرومانيون كانوا يقولون: إنها هي السبب في ذلك
الانحطاط والنصارى يقولون: إن ذلك كان لأسباب سابقة ولكن، لماذا أجهزوا على
تلك المدنية ولم يصلحوها وينقوها من أَوْضَارها بدلاً من محوها وطمس معالمها؟
وماذا أبقى النصارى للعرب؟ ما أبقوا لهم إلا نزرًا من الكتب أَحْيَوْها به.
أما تمهيد النصرانية للإسلام الذي أشرنا إليه فهو إضعاف تلك الوثنية
وإضعاف تلك الحمية الجاهلية، وذلك السرف في الترف بالغلوّ في الزهادة
والانقطاع إلى العبادة، ثم إضعاف الأمة بالخلاف في الدين والتنازع بين دولة
القياصرة ودولة الرهبان والأساقفة وانتصار هؤلاء وتحكمهم بخرافاتهم في الأمة،
فالذي مكّن المسلمين من الإغارة على صقلية والاستيلاء على سيراقوسة هو إلزام
القسيسين القيصر باسيله الأول المقدوني بأن يشغل الجيش ببناء كنيسة القديس
ميخائيل وكذلك ألزموا خلَفه القيصر ليون بأن يشغل عسكر الأسطول بمثل ذلك
فتيسر بذلك للمسلمين الاستيلاء على جزيرة لمنوس.
وأما خلافهم في عبادة الصور وما نشأ عنه من التنازع والفشل فحدّثْ عنه ولا
حرج فثبت بذلك أن النصرانية قد زادت اليونان والرومان جهلاً ووهنًا فكانوا بذلك
في أشد الحاجة إلى ذلك الينبوع الذي فاض في أرض العرب، وتفجر ماؤه على
غيرها فأحيا البلاد والعباد. كما هو شأن الأنهار والينابيع تفيض من مكان وتحيي
ما تسير إليه. وصح تمثيلنا حتى على الوجه الذي صرفه إليه الدكتور الفاضل
محرر المقتطف الأغرّ. وهذا جواب سؤاله بالاختصار.